حين تعرفت إلى نجيب محفوظ فى « خان الخليلى « اعتبرته كاتبى الروائى - المصرى - المفضل. قرأت الرواية - للمرة الأولى - فى مكتبة المنيرة التابعة لدار الكتب، وأقبلت على قراءة كل ما كان قد صدر لمحفوظ آنذاك من روايات، فضلاً عن مجموعته القصصية « همس الجنون « التى صدرت فى نهايات الحرب العالمية الثانية، وليس فى 1938 كما يذهب البعض، لسبب بسيط، هو أن بعض قصص المجموعة تدور فى أجواء الحرب العالمية الثانية.
....................................................
المهم أنى أقبلت على قراءة أعمال نجيب محفوظ، واعتبرته أستاذاً، وظللت أدين له - حتى الآن - بتلك الأستاذية، وهو ما تناولته – بالتفصيل - فى كتابى « نجيب محفوظ: صداقة جيلين».
فلما تعرفت إلى يوسف إدريس فى لياليه الرخيصة - بالتحديد فى فبراير 1954 - وقع فى نفسى موقع الأفضلية بين كتاب القصة القصيرة المصريين.
ثم قرأت - فى الشهر التالى - مجموعة « العشاق الخمسة « ليوسف الشارونى، فحل صاحبها الموقع نفسه الذى تحقق ليوسف إدريس، رغم التباين المؤكد بين أعمال إدريس والشارونى فى اللغة والسرد والفنية والأجواء التى تحيا فيها قصص كل من المجموعتين.
أحدثت المجموعتان تأثيراً عميقاً ، ليس على مستوى الإبداع المصرى فحسب، وإنما على مستوى الإبداع العربى جميعاً. بل لقد عرفت أعمال اليوسفين طريقها إلى لغات العالم المختلفة، وشاركا فى مؤتمرات دولية فى القصة القصيرة باعتبارهما من أهم كتابها على مستوى العالم.
إذا كانت ليالى إدريس الرخيصة قد أحدثت انعطافة فى التيار الواقعى للقصة العربية، فإن العديد من مبدعى الستينيات والأجيال التالية يدينون للشارونى بالريادة فى التجريب.
يوسف إدريس - باختصار أرجو ألا يكون مخلاً - يهبنا فى « أرخص ليالى « اللحظة المقتطعة من حياتنا اليومية، بلغة بسيطة ومكثفة، ونهاية تومئ بأكثر من دلالة. أما الشارونى فإنه يشغله ما أسميه بفلسفة الحياة فى أعماله. إنه يتحدث عن قضايا مصر، ويمزج بينها وبين قضايا العالم، فى تلك الفترة التى دارت فيها أحداث الحرب العالمية الثانية، وأعقبتها. وعلى حد تعبير الشارونى فإن من أهم خصائص قصص المجموعة - فى تقدير الشارونى - هو الإحساس بأن الأزمة أساساً أزمة حضارية، وليست مجرد أزمة اجتماعية على نحو ما عالجها تيار الواقعية. تعنى قصص يوسف الشارونى - فى الدرجة الأولى - بمشكلات الطبقة المتوسطة فى المدينة، مثل مشكلات الحمل والولادة والحب والزواج والعمل والوظيفة والزحام والانفجار السكانى والعنف غير المبرر والتشوه النفسى والمصير الإنسانى إلخ. وثمة - فى الوقت نفسه - محاولة متجددة للتجريب.
الزحام أحد نتائج التقدم الطبى، نعمة ولّدت نقمة. وكان الراوى ( قصة « الزحام» ) ينظر إلى الأطفال، يشفق عليهم وعلى مستقبلهم. بعد سنوات ، لن يجد الناس مكاناً على الأرض إلا واقفين متلاصقين!. يجيب الرجل عن السؤال : إذا كنا نعانى من الزحمة الآن على هذا النحو، ماذا يفعل أولادنا إذن؟ يقول: هذه حكمة عدم زواجى!
أحببت إدريس للمصرية الخالصة التى وقف فوقها، وانطلق منها، فيما يمكن تسميته بالسهل الممتنع، وأحببت الشارونى للهموم الكونية التى شغلته ، وحاول التعبير عنها فى أعمال تصدر عن التجريب.
وحتى الآن، فإنى أجد - فى مجموع أعماله - ما يعبر عن بيئتنا، سواء على مستوى التاريخ، أو مستوى الآنية المعاشة.. وما يعبّر - فى ذات الوقت - عن رؤية شاملة، عن فلسفة حياة، عن موقف من قضايا الدين والمجتمع والسياسة والثقافة وعلم الجمال والميتافيزيقا. وفى أحيان كثيرة، تتغلب فكرة المثقف على عفوية الفنان. وعى المثقف يبين - بصورة أوضح - عن لاوعى الفنان.
وقد غالبت التردد لما صارحت يوسف الشارونى بأنى أتصور معرفته بموضع الجملة فى السطر ، فى الفقرة، من قبل أن يبدأ الكتابة.. لكنه أمّن - ببساطة وصدق - على ملاحظتى، ثم أضاف - بالبساطة نفسها، وبالصدق نفسه - أن عملية الكتابة قد تبدّل الكثير من المواقف والأحداث، وقد تقدم الشخصيات بما لم يكن ارتسم فى مخيلته.
عفوية السرد مهمة، أن تكتب القصة نفسها، بالإضافة إلى التعبير عن نظرة الفنان البانورامية للإنسان والمجتمع والعالم، بمحاولات ترفض التأطير المسبق. فكما تتخلق الشخصيات والأحداث فى أثناء العملية الإبداعية، فإن تلك العملية لا تحاكى ولا تقلد، وإنما تخضع للفنية التى يكتسب من خلالها العمل الإبداعى قسماته.
ولعلى أشير إلى قول الصديق الدكتور أحمد درويش فى تناوله لإبداعات الشارونى. أسهم - فى تقدير أحمد درويش - من خلال كتاباته القصصية فى بناء أدوات كاتب القصة القصيرة التى تزوده بالمقدرة على الاكتشاف والأمل والبناء، وتفجير قابلية النص فى الحدث العادى، وحتى فى المشهد العادى الذى قد يخلو من حدث.
..................................
قلت للشارونى: فيما أرى، فإن وقتك قسم بين الحياة الوظيفية، وبين القراءة والدراسة والكتابة. من أين تستمد قصصك حياتها ؟
قال لى: لاشك أن أى أديب يجمع بين الوظيفة والفن يحيا فى أزمة متصلة، لكن الأدباء أقدر من غيرهم - إذا كانت مناصبهم تتصل بالثقافة - على تفهم مشكلات الأدباء، وتقدير جهودهم، من الموظفين الذين قد يعاملون الأدباء والفنانين بطريقة، ربما تجرح مشاعرهم. ولاشك أن الأديب الموظف يعانى التمزق بين إحساسه بالواجب تجاه زملائه الأدباء والفنانين، وبين إحساسه بواجبه تجاه عمله الفنى.
ومن المؤكد أن حياة الوظيفة يمكن أن تكون مصدراً للأديب، لكن هناك خطراً من أن تحد الوظيفة أفق الأديب، وتجعله يفضل من حين لآخر - ولأسباب صحية فنياً - أن يخرج عن نطاق وظيفته إلى العالم الأرحب، لكى يعيش مشكلات فئات أخرى. قصصى - وإن استمد بعضها موضوعاته من حياتى الوظيفية - ربما استمد بعضها الآخر موضوعاته من البيئة التى يعيش فيها، أو من خبر فى صحيفة يومية، أو من زيارة إلى بيئة مغايرة، بل إنى أحلم لنفسى - ولغيرى من الأدباء - أن تتاح لنا تجربة مثل تجربة اكتشاف البترول، لكى نشعر بمعنى التوقع والانتظار، وربما اليأس، ثم الفرحة عند تفجر بئر من آبار البترول. وأحياناً، فى سبيل كتابة قصة جديدة، فإنى قد أزور بعض من لهم خبرة بالحياة، لكى أتركهم يثرثرون أمامى حول موضوع معين، أبدى لهم اهتمامى به، ومن حصيلة هذه الثرثرة، أختار ما يلائم قصتى، وقد تبدو للقارئ وقائع قريبة من الخيال، والحقيقة أن الخيال لا يمكن أن يصل إليها.
..................................
لعل الثقافة الموسوعية هى باعث التنوع فى إبداعات يوسف الشارونى، إنه لا يكتفى - مثل الكثير من الأدباء الكبار - بتلقى إهداءات المبدعين ودور النشر، يبحث لها عن موضع فى مكتبته الخاصة، أو يعيد إهداءها إلى تلاميذه ، لكنه يقرأ كل ما تصادفه يداه. يقرأ فى التاريخ والجغرافيا والسياسة والفلسفة والأديان والنقد الأدبى وفقه اللغة. يضع ملاحظات بالموافقة أو الاختلاف فى ثنايا ما يقرأه، وتفرز تلك القراءات ما يطلب الكتابة، بالإضافة طبعا إلى الخبرات الخاصة والتأملات.
ولأن الشارونى ممن يحيون العمل يومهم كله، ولأن الإبداع حالة وقتية يصعب أن تشمل يوم المبدع بكامله، فقد وجد الشارونى نفسه بالضرورة يؤدى دور الرواد الذين تعددت معطياتهم فى الرواية والقصة والترجمة والسيرة الذاتية والتاريخ والدراسة الأدبية الخ.. ذلك هو الدور الذى أسهم به جيل الرواد فى حياتنا الثقافية. وهو دور كان مطلوباً فى وقته لاعتبارات موضوعية، أولها تقديم ثقافة جديدة، تتصل بالتراث، وتطل على الثقافات الحديثة.
أما الاعتبارات التى أملت على يوسف الشارونى دور القارئ الإيجابى - الصفة التى أطلقها على كتاباته غير الإبداعية - فتعود الى حياة القراءة التى اختارها لنفسه فى امتداد سنى العمر، فهو يقرأ، ويسجل الملاحظات والآراء، ويجمع من ذلك بطاقات تدفعه الى الكتابة فى الإنسانيات المختلفة..
من هنا، قدم الشارونى للمكتبة العربية قصصاً قصيرة - إبداعه الحقيقى - وكتباً فى أدب الرحلات، وفى الدراسة الأدبية، وفى النقد، وتحقيق التراث، والترجمة. إنه - كما قلت - دور الرائد فى حياتنا الثقافية.
كتب قصيدة النثر فى» المساء الأخير «، وكتب القصة القصيرة فى العشاق الخمسة، ورسالة إلى امرأة، والزحام، والكراسى الموسيقية، والضحك حتى البكاء، وما بعد المجموعات، وكتب الترجمة الأدبية فى أدباء ومفكرون، ومع الأدباء، والروائيون الثلاثة، وكتب النقد الأدبى والدراسات الأدبية - أو القراءة الإيجابية كما يسمى كتاباته فى هذا المجال فى: مع الرواية، ومع القصة القصيرة، ورحلتى مع الرواية، والخيال العلمى فى الأدب العربى المعاصر، ومع الدراما، وفى الأدب العمانى الحديث ، والقصة تطوراً وتمرداً، وأساليب التمرد فى الأدب العربى المعاصر، ودرس التراث وحققه ممثلاً فى الحب والصداقة فى التراث العربى، ومع التراث، وعجائب الهند، وأخبار الصين والهند، وقصص من التراث العمانى، وترجم مسرحيات أوديب لسينيكا، والآلية لصوفى تريدوي، وميدان باركلى لجون بولد ستون، بالإضافة إلى تقديمه لمختارات من القصة النسائية فى جزءين، وكتاب سبعون شمعة فى حياة يحيى حقى، إلخ.
..................................
عن بواعث اتجاهه إلى النقد، يقول يوسف الشارونى: لقد حاولت - طوال مسيرتى الأدبية - أن أقترب بالنقد من العملية الإبداعية، فكثير من دراساتى النقدية عبارة عن إعادة صياغة للعمل الأدبى الذى أتعرض له تتخلله رؤيتى، لأننى أراعى فى كتاباتى النقدية أن من لم يقرأ العمل الأدبى المتناول، يستطيع أن يتتبع ما كتبت، والذى قرأه يجد شيئاً جديداً فيما أكتبه. وأعتقد أن ذروة التقاء الإبداع بالنقد، كانت فى قصتى « زيطة صانع العاهات « و « مصرع عباس الحلو « المستلهمتين من رواية نجيب محفوظ « زقاق المدق «، حيث أوضحت كيف يكون تناول هاتين الشخصيتين فى قصة قصيرة، بعد أن تم إبداعهما فى رواية طويلة، وكيف اختلفت الرؤية نتيجة اختلاف القالب الأدبى».
..................................
اختلافى مع الشارونى فى أن الأولوية عندى للإبداع دوماً. أقرأ، وأسجل ملاحظات، وأتأمل. فإذا ناوشنى الإبداع، أخليت له كل نفسى. أما الشارونى فلم يكن يرفض رجاء بالقراءة لهذا الأديب أو ذاك، ومحاولة تقديمه بالكتابة فى الدوريات، أو بالمناقشة فى وسائل الإعلام. لا يشغله أن تكون هذه المجاملات - لا يحضرنى تعبير آخر - على حساب وقته كمبدع.
ولعلى أزعم أن الكثير من كتابات القراءة الإيجابية، أو كتابات النقد، فى أعمال يوسف الشارونى، فرضتها دواعى المجاملة لتلاميذ وأصدقاء، فهى تختلف عن كتابات الرواد: طه حسين والعقاد والمازنى والزيات وهيكل وغيرهم. كانت تلك الكتابات - على حد تعبير المازنى - أشبه بتعبيد الطريق، لتأتى أجيال تشيد البنايات بتنوع نماذجها، وهو ما حدث - بالفعل فى الجيل التالى - حين جاء معظم إنتاج نجيب محفوظ فى الرواية، وجاء معظم إبداع على أحمد باكثير فى المسرحية، ومحمود البدوى وصلاح ذهنى فى القصة القصيرة.
تحدث الشارونى عن الأفكار التى يرجو لو أنه وجد الوقت لإبداعها فى قصص قصيرة وروايات. كما حدثنى الشارونى عن مشروع روايتى الأولى له، بعد إخلاصه - كمبدع - للقصة القصيرة وحدها ( شرفنى بتقديم نسختها المطبوعة ). وتحدث عن الأفكار الإبداعية التى تطلب الوقت، لكنه شغل الوقت بقراءة إبداعات الآخرين، ومناقشتها، وتقديمها إلى القارئ. أعطى الشارونى من نفسه للعشرات من المبدعين، قدمهم، ونقد أعمالهم، حتى جاوزت كتبه النقدية - أو كتب القراءة الإيجابية على حد تعبيره - ما صدر له من مجموعات قصصية.
وإذا كان العشرات من الأدباء - الكبار والصغار - يدينون للشارونى بالدراسات التى سلطت الضوء على إبداعاتهم، فإن إبداعات الشارونى التى تطلب لحظات الكتابة، من حقها أن تدين الشارونى لأنه أهمل إبداعه لحساب إبداعات الآخرين.
أذكر اتصاله بى - فى مساء السابع والعشرين من ديسمبر 1995 - شكا لى من ارتفاع فى الضغط، ونهجان، وتوقع الموت. تقتله الحسرة لأنه ضيع العمر فى كتابة النقد. نصحنى أن أعنى بالإبداع، وأهمل النقد . النقد لا قيمة له، والنقاد ينقصون من أعمارهم ليضيفوا إلى أعمار الآخرين. يحزنه أن أدباء الأجيال التالية لم يقرأوا قصصه. كتبوا فى بيروت عن مكانته التى تفوق مكانة يوسف إدريس. استطرد موضحاً: هذا رأيهم، وليس رأيى.
ولعل هذه الملاحظة تؤدى إلى ملاحظة أخرى، هى أستاذية يوسف الشارونى.
شخصية الشارونى تتسم بالأستاذية فى التعامل مع أدباء الأجيال التالية، لا لمجرد أنه يكبرهم سناً، وإنما لأن هذه هى طبيعته. بل إن دور الأستاذ يمتد ليشمل أبناء جيله. إنه لا يرتدى ثوب الواعظ أو الناصح أو الموجه، لكنه الأب والأخ والصديق. يقرأ، ويناقش، ويجرى المقارنات والموازنات، ويبدى الرأى. التعامل الحميم الذى يحسن الإنصات، ويحسن إبداء الرأى. يذكرنى بالحميمية التى كانت سمة صداقتى لأستاذنا نجيب محفوظ.
ربما اتصل بى - تليفونياً - ليدلنى على كتاب قرأه، ويجد فيه فائدة لى، وربما اتصلت به لأسأل عن معلومة. لا يشفق على وقته فى البحث عن المعلومة المطلوبة حتى يجدها.
وبالطبع، فإن هذه الدور الأبوى - والأبوة هنا لا دخل لها بالمرحلة السنية - لا يقتصر على كاتب هذه السطور. ثمة العديد من الأصدقاء والتلاميذ، ناقشهم الشارونى فى كتاباتهم، وأفادوا من تلك المناقشات، قبل أن يدفعوا بإبداعاتهم إلى المطبعة. أذكر محمد الحديدى ونهاد شريف وجميل عطية إبراهيم وعادل وديع فلسطين وغيرهم. إنهم أدباء متحققون، لكنهم يفيدون من أستاذية الشارونى على نحو أو آخر.
وبالنسبة لى، فلعلى أكثر الناس إفادة من هذه الأستاذية، لأنى إذا كنت أحرص على أن يقرأ لى أصدقائى ما أكتبه من محاولات قبل أن أدفع بها إلى المطبعة، فقد كان يوسف الشارونى - دوماً - هو أول هؤلاء الأصدقاء.
..................................
كنا نحرص – كل حسب ظروف حياته – على حضور جلسات الشارونى فى كافيه كوستا، أجد فيها شخصياً نوعاً من مقاومة الشارونى للجدب الإبداعى والعزلة والملل، يراجع الأسماء – كل أربعاء – فى نوتته الصغيرة، يذكرنا بموعد اللقاء بعد صلاة الجمعة.
العادة أن الينابيع تبدأ – بتقدم السن – فى الانحسار. أفردت مقالة عن نضوب الينابيع فى حياة المبدعين، الأمثلة يحيى حقى ويوسف إدريس وغيرهم. مع أن الظاهرة تنعكس فى كتابات الشارونى، فهى قليلة، ومنعدمة أحياناً، فى كتاباته القصصية، عدا روايته « الغرق» التى أسعدنى تقديمى لها، فقد أعادت المقالات النقدية الوفيرة تقديم الشارونى إلى القارئ، وبخاصة الأجيال التالية. كم كان إشفاقى وأنا أقرأ اسمه مسبوقاً بصفة « الناقد «. كان النقد عنده نوعاً من القراءة الإيجابية، لكن التغلب الكمى للنقد على الإبداع السردى جعل الكثيرين – وغالبيتهم لم يتابعوا كتابات الشارونى منذ البدايات – وضعه فى قائمة النقاد. أعاد الرجل نشر إبداعاته القصصية، اختار قصتين أو ثلاثاً من كل مجموعة، شكّل مجموعة جديدة باسم مختلف، كرر الفعل نفسه حتى تضاعفت المجموعات بمسميات جديدة، لكن الكتابات النقدية ظلت على وفرتها، بل إنه كان يشكو – فى نهايات العمر – من وفرة تلك الكتابات: تستفزنى القراءة فأنحى الكتاب، وأبدأ فى الكتابة، ربما كتبت فى ما لاصلة له بما كنت أقرأه.
اعتدت سؤاله: ما يشغلك الآن؟
يحدثنى عن كتب أعاد تقليبها، بمعنى أنه يضيف إلى كتبه النقدية كتاباً جديداً، يضم فصولاً من الكتب السابقة. التصرف نفسه الذى ضاعف مجموعاته القصصية يحدث فى ملاحظات على كتب أنهى قراءتها.
فاجأنى – ذات ظهر – فى كافيه كوستا، بأن الكتابة تخاصمه، تخلو نفسه من الدافع للكتابة. كنت أتصور أن شح الينابيع يقتصر على الكتابة الإبداعية. عرفت أن تقدم العمر قد يحدث تأثيراته السلبية فى النشاط الذهنى.
لم يعد الشارونى – من يومها – يشير إلى متابعاته النقدية، ولا إلى أية كتابات، يكتفى بالحكى من جعبة ذكرياته، يحرص على التاريخ والاسم، ربما ليهبك الثقة فى صحة ما يرويه.
....................................................
المهم أنى أقبلت على قراءة أعمال نجيب محفوظ، واعتبرته أستاذاً، وظللت أدين له - حتى الآن - بتلك الأستاذية، وهو ما تناولته – بالتفصيل - فى كتابى « نجيب محفوظ: صداقة جيلين».
فلما تعرفت إلى يوسف إدريس فى لياليه الرخيصة - بالتحديد فى فبراير 1954 - وقع فى نفسى موقع الأفضلية بين كتاب القصة القصيرة المصريين.
ثم قرأت - فى الشهر التالى - مجموعة « العشاق الخمسة « ليوسف الشارونى، فحل صاحبها الموقع نفسه الذى تحقق ليوسف إدريس، رغم التباين المؤكد بين أعمال إدريس والشارونى فى اللغة والسرد والفنية والأجواء التى تحيا فيها قصص كل من المجموعتين.
أحدثت المجموعتان تأثيراً عميقاً ، ليس على مستوى الإبداع المصرى فحسب، وإنما على مستوى الإبداع العربى جميعاً. بل لقد عرفت أعمال اليوسفين طريقها إلى لغات العالم المختلفة، وشاركا فى مؤتمرات دولية فى القصة القصيرة باعتبارهما من أهم كتابها على مستوى العالم.
إذا كانت ليالى إدريس الرخيصة قد أحدثت انعطافة فى التيار الواقعى للقصة العربية، فإن العديد من مبدعى الستينيات والأجيال التالية يدينون للشارونى بالريادة فى التجريب.
يوسف إدريس - باختصار أرجو ألا يكون مخلاً - يهبنا فى « أرخص ليالى « اللحظة المقتطعة من حياتنا اليومية، بلغة بسيطة ومكثفة، ونهاية تومئ بأكثر من دلالة. أما الشارونى فإنه يشغله ما أسميه بفلسفة الحياة فى أعماله. إنه يتحدث عن قضايا مصر، ويمزج بينها وبين قضايا العالم، فى تلك الفترة التى دارت فيها أحداث الحرب العالمية الثانية، وأعقبتها. وعلى حد تعبير الشارونى فإن من أهم خصائص قصص المجموعة - فى تقدير الشارونى - هو الإحساس بأن الأزمة أساساً أزمة حضارية، وليست مجرد أزمة اجتماعية على نحو ما عالجها تيار الواقعية. تعنى قصص يوسف الشارونى - فى الدرجة الأولى - بمشكلات الطبقة المتوسطة فى المدينة، مثل مشكلات الحمل والولادة والحب والزواج والعمل والوظيفة والزحام والانفجار السكانى والعنف غير المبرر والتشوه النفسى والمصير الإنسانى إلخ. وثمة - فى الوقت نفسه - محاولة متجددة للتجريب.
الزحام أحد نتائج التقدم الطبى، نعمة ولّدت نقمة. وكان الراوى ( قصة « الزحام» ) ينظر إلى الأطفال، يشفق عليهم وعلى مستقبلهم. بعد سنوات ، لن يجد الناس مكاناً على الأرض إلا واقفين متلاصقين!. يجيب الرجل عن السؤال : إذا كنا نعانى من الزحمة الآن على هذا النحو، ماذا يفعل أولادنا إذن؟ يقول: هذه حكمة عدم زواجى!
أحببت إدريس للمصرية الخالصة التى وقف فوقها، وانطلق منها، فيما يمكن تسميته بالسهل الممتنع، وأحببت الشارونى للهموم الكونية التى شغلته ، وحاول التعبير عنها فى أعمال تصدر عن التجريب.
وحتى الآن، فإنى أجد - فى مجموع أعماله - ما يعبر عن بيئتنا، سواء على مستوى التاريخ، أو مستوى الآنية المعاشة.. وما يعبّر - فى ذات الوقت - عن رؤية شاملة، عن فلسفة حياة، عن موقف من قضايا الدين والمجتمع والسياسة والثقافة وعلم الجمال والميتافيزيقا. وفى أحيان كثيرة، تتغلب فكرة المثقف على عفوية الفنان. وعى المثقف يبين - بصورة أوضح - عن لاوعى الفنان.
وقد غالبت التردد لما صارحت يوسف الشارونى بأنى أتصور معرفته بموضع الجملة فى السطر ، فى الفقرة، من قبل أن يبدأ الكتابة.. لكنه أمّن - ببساطة وصدق - على ملاحظتى، ثم أضاف - بالبساطة نفسها، وبالصدق نفسه - أن عملية الكتابة قد تبدّل الكثير من المواقف والأحداث، وقد تقدم الشخصيات بما لم يكن ارتسم فى مخيلته.
عفوية السرد مهمة، أن تكتب القصة نفسها، بالإضافة إلى التعبير عن نظرة الفنان البانورامية للإنسان والمجتمع والعالم، بمحاولات ترفض التأطير المسبق. فكما تتخلق الشخصيات والأحداث فى أثناء العملية الإبداعية، فإن تلك العملية لا تحاكى ولا تقلد، وإنما تخضع للفنية التى يكتسب من خلالها العمل الإبداعى قسماته.
ولعلى أشير إلى قول الصديق الدكتور أحمد درويش فى تناوله لإبداعات الشارونى. أسهم - فى تقدير أحمد درويش - من خلال كتاباته القصصية فى بناء أدوات كاتب القصة القصيرة التى تزوده بالمقدرة على الاكتشاف والأمل والبناء، وتفجير قابلية النص فى الحدث العادى، وحتى فى المشهد العادى الذى قد يخلو من حدث.
..................................
قلت للشارونى: فيما أرى، فإن وقتك قسم بين الحياة الوظيفية، وبين القراءة والدراسة والكتابة. من أين تستمد قصصك حياتها ؟
قال لى: لاشك أن أى أديب يجمع بين الوظيفة والفن يحيا فى أزمة متصلة، لكن الأدباء أقدر من غيرهم - إذا كانت مناصبهم تتصل بالثقافة - على تفهم مشكلات الأدباء، وتقدير جهودهم، من الموظفين الذين قد يعاملون الأدباء والفنانين بطريقة، ربما تجرح مشاعرهم. ولاشك أن الأديب الموظف يعانى التمزق بين إحساسه بالواجب تجاه زملائه الأدباء والفنانين، وبين إحساسه بواجبه تجاه عمله الفنى.
ومن المؤكد أن حياة الوظيفة يمكن أن تكون مصدراً للأديب، لكن هناك خطراً من أن تحد الوظيفة أفق الأديب، وتجعله يفضل من حين لآخر - ولأسباب صحية فنياً - أن يخرج عن نطاق وظيفته إلى العالم الأرحب، لكى يعيش مشكلات فئات أخرى. قصصى - وإن استمد بعضها موضوعاته من حياتى الوظيفية - ربما استمد بعضها الآخر موضوعاته من البيئة التى يعيش فيها، أو من خبر فى صحيفة يومية، أو من زيارة إلى بيئة مغايرة، بل إنى أحلم لنفسى - ولغيرى من الأدباء - أن تتاح لنا تجربة مثل تجربة اكتشاف البترول، لكى نشعر بمعنى التوقع والانتظار، وربما اليأس، ثم الفرحة عند تفجر بئر من آبار البترول. وأحياناً، فى سبيل كتابة قصة جديدة، فإنى قد أزور بعض من لهم خبرة بالحياة، لكى أتركهم يثرثرون أمامى حول موضوع معين، أبدى لهم اهتمامى به، ومن حصيلة هذه الثرثرة، أختار ما يلائم قصتى، وقد تبدو للقارئ وقائع قريبة من الخيال، والحقيقة أن الخيال لا يمكن أن يصل إليها.
..................................
لعل الثقافة الموسوعية هى باعث التنوع فى إبداعات يوسف الشارونى، إنه لا يكتفى - مثل الكثير من الأدباء الكبار - بتلقى إهداءات المبدعين ودور النشر، يبحث لها عن موضع فى مكتبته الخاصة، أو يعيد إهداءها إلى تلاميذه ، لكنه يقرأ كل ما تصادفه يداه. يقرأ فى التاريخ والجغرافيا والسياسة والفلسفة والأديان والنقد الأدبى وفقه اللغة. يضع ملاحظات بالموافقة أو الاختلاف فى ثنايا ما يقرأه، وتفرز تلك القراءات ما يطلب الكتابة، بالإضافة طبعا إلى الخبرات الخاصة والتأملات.
ولأن الشارونى ممن يحيون العمل يومهم كله، ولأن الإبداع حالة وقتية يصعب أن تشمل يوم المبدع بكامله، فقد وجد الشارونى نفسه بالضرورة يؤدى دور الرواد الذين تعددت معطياتهم فى الرواية والقصة والترجمة والسيرة الذاتية والتاريخ والدراسة الأدبية الخ.. ذلك هو الدور الذى أسهم به جيل الرواد فى حياتنا الثقافية. وهو دور كان مطلوباً فى وقته لاعتبارات موضوعية، أولها تقديم ثقافة جديدة، تتصل بالتراث، وتطل على الثقافات الحديثة.
أما الاعتبارات التى أملت على يوسف الشارونى دور القارئ الإيجابى - الصفة التى أطلقها على كتاباته غير الإبداعية - فتعود الى حياة القراءة التى اختارها لنفسه فى امتداد سنى العمر، فهو يقرأ، ويسجل الملاحظات والآراء، ويجمع من ذلك بطاقات تدفعه الى الكتابة فى الإنسانيات المختلفة..
من هنا، قدم الشارونى للمكتبة العربية قصصاً قصيرة - إبداعه الحقيقى - وكتباً فى أدب الرحلات، وفى الدراسة الأدبية، وفى النقد، وتحقيق التراث، والترجمة. إنه - كما قلت - دور الرائد فى حياتنا الثقافية.
كتب قصيدة النثر فى» المساء الأخير «، وكتب القصة القصيرة فى العشاق الخمسة، ورسالة إلى امرأة، والزحام، والكراسى الموسيقية، والضحك حتى البكاء، وما بعد المجموعات، وكتب الترجمة الأدبية فى أدباء ومفكرون، ومع الأدباء، والروائيون الثلاثة، وكتب النقد الأدبى والدراسات الأدبية - أو القراءة الإيجابية كما يسمى كتاباته فى هذا المجال فى: مع الرواية، ومع القصة القصيرة، ورحلتى مع الرواية، والخيال العلمى فى الأدب العربى المعاصر، ومع الدراما، وفى الأدب العمانى الحديث ، والقصة تطوراً وتمرداً، وأساليب التمرد فى الأدب العربى المعاصر، ودرس التراث وحققه ممثلاً فى الحب والصداقة فى التراث العربى، ومع التراث، وعجائب الهند، وأخبار الصين والهند، وقصص من التراث العمانى، وترجم مسرحيات أوديب لسينيكا، والآلية لصوفى تريدوي، وميدان باركلى لجون بولد ستون، بالإضافة إلى تقديمه لمختارات من القصة النسائية فى جزءين، وكتاب سبعون شمعة فى حياة يحيى حقى، إلخ.
..................................
عن بواعث اتجاهه إلى النقد، يقول يوسف الشارونى: لقد حاولت - طوال مسيرتى الأدبية - أن أقترب بالنقد من العملية الإبداعية، فكثير من دراساتى النقدية عبارة عن إعادة صياغة للعمل الأدبى الذى أتعرض له تتخلله رؤيتى، لأننى أراعى فى كتاباتى النقدية أن من لم يقرأ العمل الأدبى المتناول، يستطيع أن يتتبع ما كتبت، والذى قرأه يجد شيئاً جديداً فيما أكتبه. وأعتقد أن ذروة التقاء الإبداع بالنقد، كانت فى قصتى « زيطة صانع العاهات « و « مصرع عباس الحلو « المستلهمتين من رواية نجيب محفوظ « زقاق المدق «، حيث أوضحت كيف يكون تناول هاتين الشخصيتين فى قصة قصيرة، بعد أن تم إبداعهما فى رواية طويلة، وكيف اختلفت الرؤية نتيجة اختلاف القالب الأدبى».
..................................
اختلافى مع الشارونى فى أن الأولوية عندى للإبداع دوماً. أقرأ، وأسجل ملاحظات، وأتأمل. فإذا ناوشنى الإبداع، أخليت له كل نفسى. أما الشارونى فلم يكن يرفض رجاء بالقراءة لهذا الأديب أو ذاك، ومحاولة تقديمه بالكتابة فى الدوريات، أو بالمناقشة فى وسائل الإعلام. لا يشغله أن تكون هذه المجاملات - لا يحضرنى تعبير آخر - على حساب وقته كمبدع.
ولعلى أزعم أن الكثير من كتابات القراءة الإيجابية، أو كتابات النقد، فى أعمال يوسف الشارونى، فرضتها دواعى المجاملة لتلاميذ وأصدقاء، فهى تختلف عن كتابات الرواد: طه حسين والعقاد والمازنى والزيات وهيكل وغيرهم. كانت تلك الكتابات - على حد تعبير المازنى - أشبه بتعبيد الطريق، لتأتى أجيال تشيد البنايات بتنوع نماذجها، وهو ما حدث - بالفعل فى الجيل التالى - حين جاء معظم إنتاج نجيب محفوظ فى الرواية، وجاء معظم إبداع على أحمد باكثير فى المسرحية، ومحمود البدوى وصلاح ذهنى فى القصة القصيرة.
تحدث الشارونى عن الأفكار التى يرجو لو أنه وجد الوقت لإبداعها فى قصص قصيرة وروايات. كما حدثنى الشارونى عن مشروع روايتى الأولى له، بعد إخلاصه - كمبدع - للقصة القصيرة وحدها ( شرفنى بتقديم نسختها المطبوعة ). وتحدث عن الأفكار الإبداعية التى تطلب الوقت، لكنه شغل الوقت بقراءة إبداعات الآخرين، ومناقشتها، وتقديمها إلى القارئ. أعطى الشارونى من نفسه للعشرات من المبدعين، قدمهم، ونقد أعمالهم، حتى جاوزت كتبه النقدية - أو كتب القراءة الإيجابية على حد تعبيره - ما صدر له من مجموعات قصصية.
وإذا كان العشرات من الأدباء - الكبار والصغار - يدينون للشارونى بالدراسات التى سلطت الضوء على إبداعاتهم، فإن إبداعات الشارونى التى تطلب لحظات الكتابة، من حقها أن تدين الشارونى لأنه أهمل إبداعه لحساب إبداعات الآخرين.
أذكر اتصاله بى - فى مساء السابع والعشرين من ديسمبر 1995 - شكا لى من ارتفاع فى الضغط، ونهجان، وتوقع الموت. تقتله الحسرة لأنه ضيع العمر فى كتابة النقد. نصحنى أن أعنى بالإبداع، وأهمل النقد . النقد لا قيمة له، والنقاد ينقصون من أعمارهم ليضيفوا إلى أعمار الآخرين. يحزنه أن أدباء الأجيال التالية لم يقرأوا قصصه. كتبوا فى بيروت عن مكانته التى تفوق مكانة يوسف إدريس. استطرد موضحاً: هذا رأيهم، وليس رأيى.
ولعل هذه الملاحظة تؤدى إلى ملاحظة أخرى، هى أستاذية يوسف الشارونى.
شخصية الشارونى تتسم بالأستاذية فى التعامل مع أدباء الأجيال التالية، لا لمجرد أنه يكبرهم سناً، وإنما لأن هذه هى طبيعته. بل إن دور الأستاذ يمتد ليشمل أبناء جيله. إنه لا يرتدى ثوب الواعظ أو الناصح أو الموجه، لكنه الأب والأخ والصديق. يقرأ، ويناقش، ويجرى المقارنات والموازنات، ويبدى الرأى. التعامل الحميم الذى يحسن الإنصات، ويحسن إبداء الرأى. يذكرنى بالحميمية التى كانت سمة صداقتى لأستاذنا نجيب محفوظ.
ربما اتصل بى - تليفونياً - ليدلنى على كتاب قرأه، ويجد فيه فائدة لى، وربما اتصلت به لأسأل عن معلومة. لا يشفق على وقته فى البحث عن المعلومة المطلوبة حتى يجدها.
وبالطبع، فإن هذه الدور الأبوى - والأبوة هنا لا دخل لها بالمرحلة السنية - لا يقتصر على كاتب هذه السطور. ثمة العديد من الأصدقاء والتلاميذ، ناقشهم الشارونى فى كتاباتهم، وأفادوا من تلك المناقشات، قبل أن يدفعوا بإبداعاتهم إلى المطبعة. أذكر محمد الحديدى ونهاد شريف وجميل عطية إبراهيم وعادل وديع فلسطين وغيرهم. إنهم أدباء متحققون، لكنهم يفيدون من أستاذية الشارونى على نحو أو آخر.
وبالنسبة لى، فلعلى أكثر الناس إفادة من هذه الأستاذية، لأنى إذا كنت أحرص على أن يقرأ لى أصدقائى ما أكتبه من محاولات قبل أن أدفع بها إلى المطبعة، فقد كان يوسف الشارونى - دوماً - هو أول هؤلاء الأصدقاء.
..................................
كنا نحرص – كل حسب ظروف حياته – على حضور جلسات الشارونى فى كافيه كوستا، أجد فيها شخصياً نوعاً من مقاومة الشارونى للجدب الإبداعى والعزلة والملل، يراجع الأسماء – كل أربعاء – فى نوتته الصغيرة، يذكرنا بموعد اللقاء بعد صلاة الجمعة.
العادة أن الينابيع تبدأ – بتقدم السن – فى الانحسار. أفردت مقالة عن نضوب الينابيع فى حياة المبدعين، الأمثلة يحيى حقى ويوسف إدريس وغيرهم. مع أن الظاهرة تنعكس فى كتابات الشارونى، فهى قليلة، ومنعدمة أحياناً، فى كتاباته القصصية، عدا روايته « الغرق» التى أسعدنى تقديمى لها، فقد أعادت المقالات النقدية الوفيرة تقديم الشارونى إلى القارئ، وبخاصة الأجيال التالية. كم كان إشفاقى وأنا أقرأ اسمه مسبوقاً بصفة « الناقد «. كان النقد عنده نوعاً من القراءة الإيجابية، لكن التغلب الكمى للنقد على الإبداع السردى جعل الكثيرين – وغالبيتهم لم يتابعوا كتابات الشارونى منذ البدايات – وضعه فى قائمة النقاد. أعاد الرجل نشر إبداعاته القصصية، اختار قصتين أو ثلاثاً من كل مجموعة، شكّل مجموعة جديدة باسم مختلف، كرر الفعل نفسه حتى تضاعفت المجموعات بمسميات جديدة، لكن الكتابات النقدية ظلت على وفرتها، بل إنه كان يشكو – فى نهايات العمر – من وفرة تلك الكتابات: تستفزنى القراءة فأنحى الكتاب، وأبدأ فى الكتابة، ربما كتبت فى ما لاصلة له بما كنت أقرأه.
اعتدت سؤاله: ما يشغلك الآن؟
يحدثنى عن كتب أعاد تقليبها، بمعنى أنه يضيف إلى كتبه النقدية كتاباً جديداً، يضم فصولاً من الكتب السابقة. التصرف نفسه الذى ضاعف مجموعاته القصصية يحدث فى ملاحظات على كتب أنهى قراءتها.
فاجأنى – ذات ظهر – فى كافيه كوستا، بأن الكتابة تخاصمه، تخلو نفسه من الدافع للكتابة. كنت أتصور أن شح الينابيع يقتصر على الكتابة الإبداعية. عرفت أن تقدم العمر قد يحدث تأثيراته السلبية فى النشاط الذهنى.
لم يعد الشارونى – من يومها – يشير إلى متابعاته النقدية، ولا إلى أية كتابات، يكتفى بالحكى من جعبة ذكرياته، يحرص على التاريخ والاسم، ربما ليهبك الثقة فى صحة ما يرويه.