لم يكن الفن في الماضي البعيد يشبه ما نعتقد انه فن اليوم. فما نعتبره اليوم قطعة فنية لم يكن يعتبر في الماضي كذلك، وربما لم يعتبر صانعها فنانا كما نعتبره اليوم. فالفن وفكرة الفنان بالمعنى المعاصر هما تعبيران حديثان نسبيا. كثير من الاعمال الفنية التي نقدرها كثيرا في يومنا الحاضر – مثل التحف الفخارية الاغريقية والمخطوطات المزخرفة وما الى ذلك – وصلت الينا من مناطق ومن عصور لم يكن عند الناس فيها فكرة عن الفن تشبه افكارنا عنه. وربما نظر الناس الى هذه الاعمال نظرة اعجاب، ولكن ليس بوصفها فنا بالمعنى المتعارف عليه اليوم.
والفن في ما يبدو عصي على التعريف. من الطبيعي ان نتحدث عن الاعمال الفنية من حيث المهارة التي صنع بها والخيال الذي تمتع به الفنان الذي اوجدها. ولكن هذا لا يعني اننا بذلك نعرف الفن تعريفا مقبولا. والواقع ان اعتبار عمل ما عملا فنيا بدأ في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أي في عصر النهضة باوربة. في ذلك العصر كانت كلمة فن تشير الى اعمال الرسم والنحت والعمارة. وتوسعت هذه الدائرة عندما دخلت اليها الموسيقا والشعر وقد عرفا في ذلك الوقت بالفنون الجميلة. وهذه الفنون الخمسة هي اصل الفنون جميعا التي تفرعت عنها اعمال الزخرفة على الفخار والمعادن بالاضافة الى النسيج والاثاث، وكلها تهدف الى المنفعة المادية العملية في المقام الاول.
ولكن كيف تميز الفن كما نفهمه اليوم عن الفنون الزخرفية والاعمال اليدوية؟ كيف يختلف الفنان عن الحرفي الذي ينتج اعمالا يدوية؟
في العالم القديم وفي العصور الوسطى كان ما نعتبره اليوم فنا يطلق على أي نشاط يخضع لضوابط محددة. وكان الرسم والنحت من النشاطات الانسانية التي تشبه صناعة الاحذية والنسيج التي نعتبرها اليوم صناعات يدوية. في عصر النهضة حظى الفن باحترام جديد، وتحسنت احوال الفنان الاجتماعية والمادية. واصبح الرسامون والنحاتون يعتبرون من اصحاب الالهام والخيال، وتساوت اعمالهم باعمال الشاعر والموسيقى من حيث الاهمية. وارتقت مكانة الرسامين والنحاتين والمعماريين واقبل الناس على الفنون البصرية واعتبروها مصدرا من مصادر المتعة والثقافة. هذا بعد ان كان الرسامون والنحاتون يعتبرون افرادا من طبقة دنيا في المجتمع ماديا وثقافيا: وما ان بدأ القرن الخامس عشر حتى تعين على من يريد تعلم الرسم ان يتعلم الهندسة والحساب والتشريح.
وحدث تطور كبير في عصر النهصة بالتشديد على ضرورة تصوير الجسم البشري تصويرا واقعيا سواء كان ذلك رسما او نحتا. وبذلك اصبح الرسم والنحت يقومان على اساس فكري ونظري وادبي وعلمي جديد. واصبح بامكان الرسامين والنحاتين ان يزعموا ان مهنتهم تستلزم مهارة فكرية ومعرفة علمية واسعة. ليس هذا فحسب، بل اصبح بامكان الرسامين والنحاتين ان يعلنوا ان مهنتهم تتساوى – من حيث اهميتها - مع مهنة الشعراء. وكان هذا يقوم على اساس من اعتبار الرسم والشعر فنين شقيقين. فهوراس الذي كان شاعرا غنائيا وناقدا أدبيا لاتينيا كان يقول ان القصيدة يجب ان تكون كاللوحة. وقال انه يجب ان يكون بامكان اللوحة ان تتكلم.
في تلك الحقبة اصبح المهتمون يعتبرون الفنانين من امثال مايكل انجلو وليوناردو دافنشي ورافائيل بانهم تلقوا الهامهم من السماء، واصبح الفنان يعتبر شخصا خلاقا ومبدعا. واصبحت الاعمال الفنية تعتبر فريدة بالهامها وجمالها وابداعها.
وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر اصبح الفن يدرس في اكاديميات متخصصة اولا في ايطاليا وبعد ذلك في فرنسا ثم في دول اوربية اخرى. واصبح طالب الفن يتعلم الهندسة والتشريح الى جانب الفن. وانشئت اول اكاديمية للفنون في فلورنسا بايطاليا عام 1562 على يدي جورجيو فاساري. وتتابعت الاكاديميات الفنية بعد ذلك من امثال اكاديمية سان لوقا في روما. واصبحت الاعمال الفنية تدرس من حيث ابعادها ولونها وتعبيريتها وتكوينها. ووضعت مناهج جديدة لتقييم الاعمال الفنية، وكانت تعطى علامة للعمل الفني ما بين صفر وثمانين بالاعتماد على تقييم جودة التكوين والرسم واللون والتعبير.
في حوالي منتصف القرن التاسع عشر اصبح الفنانون اقدر على التجريب فاستحدثوا مناهج وموضوعات جديدة وقيما فنية جديدة ايضا. ورفض الفنانون المحدثون - او انتقدوا - المبادىء التي كانت تدرسها الاكاديميات الفنية. وفي اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين راح الفنانون يتحدثون عن ضرورة ان يكون الفنان صادقا مع مادته ويجب ان يعي ان الالوان هي مجرد اصباغ وان اللوحة هي مجرد سطح ثنائي الابعاد. واصبح المشهد الفني بعد ذلك اكثر تعقيدا واكثر جرأة واصبح الفنانون اكثر شجاعة على التجريب.
وبالرغم من هذا التاريخ الطويل - وربما بسببه - مازلنا حتى اليوم غير قادرين على وضع تعريف مقبول للفن والفنان. يقول وليام روبن مدير متحف الفن الحديث في نيويورك انه ليس هناك مجرد تعريف واحد للفن. ويقول المؤرخ الفني روبرت روزنبلام ان امكانية وضع تعريف للفن ابعد اليوم مما كانت في اي وقت مضى الى درجة ان احدا لا يجرؤ حتى على المحاولة. بينما يقول المؤرخ توماس ماكفيلي انه ليس هناك اجماع على أي شيء وان أي شيء تقريبا يمكن ان يعتبر فنا اليوم.
zedhakim@yahoo.co.uk
والفن في ما يبدو عصي على التعريف. من الطبيعي ان نتحدث عن الاعمال الفنية من حيث المهارة التي صنع بها والخيال الذي تمتع به الفنان الذي اوجدها. ولكن هذا لا يعني اننا بذلك نعرف الفن تعريفا مقبولا. والواقع ان اعتبار عمل ما عملا فنيا بدأ في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أي في عصر النهضة باوربة. في ذلك العصر كانت كلمة فن تشير الى اعمال الرسم والنحت والعمارة. وتوسعت هذه الدائرة عندما دخلت اليها الموسيقا والشعر وقد عرفا في ذلك الوقت بالفنون الجميلة. وهذه الفنون الخمسة هي اصل الفنون جميعا التي تفرعت عنها اعمال الزخرفة على الفخار والمعادن بالاضافة الى النسيج والاثاث، وكلها تهدف الى المنفعة المادية العملية في المقام الاول.
ولكن كيف تميز الفن كما نفهمه اليوم عن الفنون الزخرفية والاعمال اليدوية؟ كيف يختلف الفنان عن الحرفي الذي ينتج اعمالا يدوية؟
في العالم القديم وفي العصور الوسطى كان ما نعتبره اليوم فنا يطلق على أي نشاط يخضع لضوابط محددة. وكان الرسم والنحت من النشاطات الانسانية التي تشبه صناعة الاحذية والنسيج التي نعتبرها اليوم صناعات يدوية. في عصر النهضة حظى الفن باحترام جديد، وتحسنت احوال الفنان الاجتماعية والمادية. واصبح الرسامون والنحاتون يعتبرون من اصحاب الالهام والخيال، وتساوت اعمالهم باعمال الشاعر والموسيقى من حيث الاهمية. وارتقت مكانة الرسامين والنحاتين والمعماريين واقبل الناس على الفنون البصرية واعتبروها مصدرا من مصادر المتعة والثقافة. هذا بعد ان كان الرسامون والنحاتون يعتبرون افرادا من طبقة دنيا في المجتمع ماديا وثقافيا: وما ان بدأ القرن الخامس عشر حتى تعين على من يريد تعلم الرسم ان يتعلم الهندسة والحساب والتشريح.
وحدث تطور كبير في عصر النهصة بالتشديد على ضرورة تصوير الجسم البشري تصويرا واقعيا سواء كان ذلك رسما او نحتا. وبذلك اصبح الرسم والنحت يقومان على اساس فكري ونظري وادبي وعلمي جديد. واصبح بامكان الرسامين والنحاتين ان يزعموا ان مهنتهم تستلزم مهارة فكرية ومعرفة علمية واسعة. ليس هذا فحسب، بل اصبح بامكان الرسامين والنحاتين ان يعلنوا ان مهنتهم تتساوى – من حيث اهميتها - مع مهنة الشعراء. وكان هذا يقوم على اساس من اعتبار الرسم والشعر فنين شقيقين. فهوراس الذي كان شاعرا غنائيا وناقدا أدبيا لاتينيا كان يقول ان القصيدة يجب ان تكون كاللوحة. وقال انه يجب ان يكون بامكان اللوحة ان تتكلم.
في تلك الحقبة اصبح المهتمون يعتبرون الفنانين من امثال مايكل انجلو وليوناردو دافنشي ورافائيل بانهم تلقوا الهامهم من السماء، واصبح الفنان يعتبر شخصا خلاقا ومبدعا. واصبحت الاعمال الفنية تعتبر فريدة بالهامها وجمالها وابداعها.
وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر اصبح الفن يدرس في اكاديميات متخصصة اولا في ايطاليا وبعد ذلك في فرنسا ثم في دول اوربية اخرى. واصبح طالب الفن يتعلم الهندسة والتشريح الى جانب الفن. وانشئت اول اكاديمية للفنون في فلورنسا بايطاليا عام 1562 على يدي جورجيو فاساري. وتتابعت الاكاديميات الفنية بعد ذلك من امثال اكاديمية سان لوقا في روما. واصبحت الاعمال الفنية تدرس من حيث ابعادها ولونها وتعبيريتها وتكوينها. ووضعت مناهج جديدة لتقييم الاعمال الفنية، وكانت تعطى علامة للعمل الفني ما بين صفر وثمانين بالاعتماد على تقييم جودة التكوين والرسم واللون والتعبير.
في حوالي منتصف القرن التاسع عشر اصبح الفنانون اقدر على التجريب فاستحدثوا مناهج وموضوعات جديدة وقيما فنية جديدة ايضا. ورفض الفنانون المحدثون - او انتقدوا - المبادىء التي كانت تدرسها الاكاديميات الفنية. وفي اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين راح الفنانون يتحدثون عن ضرورة ان يكون الفنان صادقا مع مادته ويجب ان يعي ان الالوان هي مجرد اصباغ وان اللوحة هي مجرد سطح ثنائي الابعاد. واصبح المشهد الفني بعد ذلك اكثر تعقيدا واكثر جرأة واصبح الفنانون اكثر شجاعة على التجريب.
وبالرغم من هذا التاريخ الطويل - وربما بسببه - مازلنا حتى اليوم غير قادرين على وضع تعريف مقبول للفن والفنان. يقول وليام روبن مدير متحف الفن الحديث في نيويورك انه ليس هناك مجرد تعريف واحد للفن. ويقول المؤرخ الفني روبرت روزنبلام ان امكانية وضع تعريف للفن ابعد اليوم مما كانت في اي وقت مضى الى درجة ان احدا لا يجرؤ حتى على المحاولة. بينما يقول المؤرخ توماس ماكفيلي انه ليس هناك اجماع على أي شيء وان أي شيء تقريبا يمكن ان يعتبر فنا اليوم.
zedhakim@yahoo.co.uk