اليوم، الأحد، لا أدري متى تأتي المعينة، وهي أخرى لأن الأولى في إجازة. لذلك استيقظت في السابعة والربع، تحسباً للاحتمالات. ورأيت أن أكتب تزجية للوقت.
كنت دائماً أتحاشى الكتابة بسبب معاملة أبي لي في طفولتي، احتراماً له، تلك المعاملة لم تكن جميلة. شاءت المصادفات أن يكون أبي مختلفاً عن بقية الرجال، وبخاصة آل الشوك، عائلته وعائلتي. عرفته منذ نعومة أظفاري، كان متديناً بإفراط، وكان يطبق النصف الثاني فقط من المقولة الدينية "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً؛ واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً". وكان يتعامل مع عائلته من هذا المنطلق الديني البحت. وهو كان يقرأ القرآن كل يوم، ويذهب الى الجامع، جامع الشيخ شكر، كل يوم، ويعود ظهراً الى البيت.
ولحسن الحظ إن أمي كانت "علمانية". وكانت هي التي أنشأتني وكوّنت مني ما أصبحت عليه. فكل ما أنا عليه الآن جاء بفضلها. ولحسن الحظ إنها لم تكن إمرأة خانعة، فهي تعتز بمحتدها العائلي. كان أبوها من بيت الجوهر، ولعله كان أثرى رجل في صوب الكرخ. كان يملك قطيعاً كبيراً من الجمال لنقل البضائع من العراق الى الشام، وبالعكس. وكانت أمها ابنة داود أبو التمن المعروف أيضاً بثرائه. من هنا كانت تواجه أبي من موقف قوة وإباء. وهذا المحتد حماني من سطوة أبي المتحكمة. ومن بين ذكرياتي عنه، إنني لم استلم منه يوماً "خرجية" (أو يومية). كانت أمي هي التي تفعل ذلك. وهي التي أدخلتني المدرسة رغماً عنه (كان يريد أن يجعل مني ربيب الجامع فقط.) فطلبت من "فهيمة"، التي كانت تقوم في خدمتنا أحياناً، أن تصطحبني الى مدرسة كرادة مريم لتسجلني فيها، وكان عمري خمس أو ست سنوات.
وللحقيقة إن أمي، وكان اسمها وفية، طلبت من فهيمة أيضاً أن تصطحب أختي "هدية" التي تكبرني الى مدرسة البنات لتسجلها فيها. كان ذلك في 1935. لكن أبي فرض إرادته بعد بضعة أيام وأجبر أختي المسكينة على الامتناع عن الذهاب الى المدرسة، بعد أن نصحه رفاقه بذلك. وهكذا حُرمت أختي من الدراسة. فأعطيت لي حقيبتها اليدوية وأقلامها ودفاترها.
وفي المدرسة كنت أرتدي البنطال القصير والسترة، وهو لباس كان يمقته أبي. ويفضل عليه الدشداشة والعرقجين. وكان يجبرني على ارتدائهما عندما يرسلني الى الجامع لتلقي دروس الدين. وكان يراقبني عندما أذهب الى الجامع ليكون على يقين من أنني لا أخلع العرقجين من رأسي. وأنا كنت أتلفت الى الوراء لأراه حين يتراجع الى البيت لأخلع العرقجين الذي أمقته لأنه لباس ((الفقراء)) من الناس.
وتسبب ذلك في ارتطامي بعمود الكهرباء الحديدي عندما كنت أتلفت الى الوراء، وأُصبت بجرح مؤلم في الجهة اليسرى من جبهتي. ولشدة خوفي من أبي واصلت الذهاب الى الجامع وأنا مدمى. لكن زملاء أبي في الجامع هرعوا لإسعافي بعد أن وجدوني في تلك الحال.
وعندما علمت أمي بجلية الأمر، أجبرت أبي على أن لايلبسني العرقجين بعد الآن. لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك. كان "يحاربني" كل يوم مادمت مواظباً على الدوام في المدرسة. فكان يسحب "اللمـبــة"، التي كنت أدرس على ضوئها، لكن أمي — الرائعة - كانت تعيد اللمـبــة لتضعها أمامي. هل تصدقون ذلك؟ ولولا حرصي على التعلّم منذ صغري، ولولا مساندة أمي، لحرمت أنا من الدراسة (مع أنني كنت من بين أكثر التلاميذ ذكاء).
وتعرضت الى حادث غرق سخيف كنت أنا مسؤولاً عنه. فظهيرة أحد أيام العطلة الصيفية كنت أتمشى على المسناة أمام نهر دجلة. وألقيت نظرة على النهر، فدخل في روعي أني أستطيع عبور النهر، مع أنني لم أكن أجيد السباحة. فاتخذت قراراً بعبور النهر سباحة، دون أن أعلم أن السباحة تتطلب دُربة. فنزلت الى الجرف، ثم خلعت دشداشتي، وألقيت بنفسي في النهر بأمل السباحة الى صوب الرصافة. فماذا حدث؟ حدث أن النهر ابتلعني على الفور، وسحبني الى القاع، وأنا أتشبث بالصعود الى أعلى بلا جدوى. ثم غرقت، وابتلعت ماء في رئتي، وشعرت بأنني سأموت غرقاً. ثم، ثم، لم أدر كيف انتشلتني من عمق الماء يدان رحمانيتان. وسحبتني هاتان اليدان الرحمانيتان الى اليابسة؛ ثم رفعتاني الى الأعلى ورأسي الى الأسفل ليخرج الماء الذي ابتلعته من رئتي. إنه محمود ابن عمتي بهية. يبدو إنه كان ماراً بالصدفة أمام موقع مغامرتي، وهرع من أعلى المسناة اليّ، ثم رمى بنفسه في الماء دون أن يخلع دشداشته.
أنا كائن هادئ، ولست مغامراً، فكيف زيّنت لي نفسي أن أقوم بهذه المغامرة الجنونية؟
(بعد يومين أو ثلاثة)
استيقظت قبل الخامسة صباحاً. وأرتديت بُلوفر. هل قلت إننا نواجه موجة برد رهيبة؟ وأعددت لي قهوة بالحليب. لا تبرح ذهني وفاة فالح عبد الجبار المفاجئة. كانت وفاته خسارة كبيرة للثقافة العراقية. كنت أفكر في أن نتعاون على صعيد العمل الفكري. لكن هل بقيت لدي ثُمالة؟
وصلتني رسالة من روزميري الهولندية بعد انقطاع سنوات. لا أدري كيف أجيب عليها. الكتابة باللغة الانكليزية ترهقني. كنت أتمنى لو أن لدي مشروعاً روائياً أكتبه. الكتابة وحدها من شأنها أن تجعلني أتحمل حياة الشيخوخة القاتلة. وليس لدي مشروع روائي يشدني إليه. إنها حالة نضوب. وهذا البرد المفاجئ لا أكاد أتحمله. وأخشى أن أرفع من حرارة المدفأة لئلا تنفجر. أيتها السوناتا، مالذي تبغيه مني؟ أيها البرد ما الذي تبغيه مني؟
بعد هذا الاستطراد أعود الى سيرة حياتي. كانت النية منعقدة على بناء مدرسة ابتدائية نموذجية. وقد تمّ بناء هذه المدرسة على أرض مقابلة تماماً لدار الإذاعة العراقية، التي ربما تأسست في نفس العام 1936 . لكنني أنا سجلت في هذه المدرسة في الصف الرابع الابتدائي عام 1938، وكان ذلك عام مفتتح المدرسة على ما أظن. وستبقى مدرسة المنصور هذه الى جانب جامعة بيركلي كاليفورنيا من أحب ذكرياتي الدراسية.
كانت مدرسة المنصور الابتدائية من ثلاث سنوات، هي الرابع، والخامس، والسادس، وكنت أنا من التلاميذ الأوائل الذين دشنوا الدراسة فيها، وهي على مبعدة خمس دقائق من بيتنا. ولعل أرضها كانت عائدة الى جدي أمين الشوك عندما باع أرض السكك الحديد الى "الألماني".
كان من بين زملائي : سعد صالح جبر؛ ومنذر إبراهيم الشاوي؛ ولؤي توفيق السويدي. وكان منذر أذكى مني، وبالتالي أذكى تلاميذ الصف، من الرابع الى السادس. لكن أقرب زميل لي كان تلميذأ مصرياً، اسمه هيكل، نسيت الآن اسم أبيه، ولعله كان ابن دبلوماسي مصري. وكان هيكل أرق تلميذ في المدرسة، وأحبهم اليّ.
وبعد المرحلة الابتدائية، أمضيت السنة الأولى في متوسطة كربلاء، لأن أبي أحب أن يجاور مرقد الحسين؛ ثم أمضيت الدراسة المتوسطة في متوسطة الرصافة للبنين. ومنذ تلك السنوات، وحتى في الاعدادية المركزية، كنت من بين أذكى الطلاب. وقد نلت في بكلوريا الصف الخامس الثانوي لعام 1947 معدل 81 في المئة. وهذا المعدل أهلني لان أكون أحد طلبة البعثة للدراسة في خارج العراق على نفقة وزارة المعارف العراقية.
لا أرى ضرورة للدخول في تفاصيل حياتي الدراسية. لكنني أود أن أؤكد أنني كنت طالب علم أكثر مني أدبياً. لذلك أرسلتني الدولة لدراسة الهندسة المعمارية، في جامعة بيركلي - كليفورنيا.
لم أوفق في دراسة الهندسة المعمارية، ولا أية هندسة أخرى، فانتقلت لدراسة الرياضيات. أنا لست لامعاً في دراسة الرياضيات، لكنني كنت أجد هذا العلم أحب شيء اليّ. ولا أذكر أنني كنت لامعاً في الفيزياء، لكنني تعلقت بهذا العلم فيما بعد، في مرحلة متأخرة من حياتي.
كنت دائما أسأل نفسي: من أكون أنا؟ أذكر أنني قلت مرة للصديق الراحل فؤاد التكرلي: "المشكلة معي هي إنني لا أستطيع أن أنظر، أي أن أكتب كتابة تنظيرية.". فقال لي: "مالك أنت والكتابة التنظيرية، أنت عندك الإطروحة الفنطازية".
لا أذكر متى دار هذا الكلام بيننا. فأنا بعد ذلك كتبت كتابة تنظيرية، لا سيما كتابي (تأملات في الفيزياء الحديثة)، الذي أعتبره من بين مفاخر الكتابات التنظيرية.
إنني دائما استيقظ في ساعات الليل الأخيرة. وفي هذه الأوقات استعيد ذكريات. وقد أدونها أحياناً، لكن الكثير منها يتبخر. وأنا دائماً أعود الى ذكرياتي الجامعية، ورفقتي لأستاذي الهندي اللامع كالياتـبـور، الذي أهداني كتاب (الدون الهادئ) بالانكليزية. وقد كتبت عن تلك العلاقة كلمة بعنوان (پروفسور كاليانـبـور) نشرت في جريدة الحياة. أريد أن أقول إن من أكثر العلاقات التي تركت بصمتها في حياتي كانت صحبتي للبروفيسور كالياتـبـور في جامعة بيركلي - كاليفورنيا. كنا نتحدث عن الأدب، مع أننا كنا مهتمين بالرياضيات. لا أدري إذا كان يتوسم فيّ مشروع كاتب. وربما لأجل هذا أهداني رواية (الدون الهادئ). ومع زميلي هادي علي كنا نشاهد أجمل الأفلام الاميركية والروسية، مثل (عناقيد الغضب)؛ و (الكساندر نيڤسكي)؛ و (المدرعة پوتيمكين)؛ و (ايڤان الرهيب) وقد ذكرت في موضع آخر أن لقاءاتنا كانت تتم سيراً على الأقدام. كنا نقضي ساعات الليل حتى أواخره مشياً على الأقدام في شوارع مدينة بيركلي. وقد كانت تلك الساعات من بين أجمل وأثقف ساعات عمري. ولعلي استطيع أن أزعم أن أحاديث تلك الساعات الليلية كان لها دور في توطيد نزعاتي الثقافية والأدبية.
أريد أن أعود الى تساؤلي، من أنا؟ فأنا لم أكن أعرف ماذا سأكون في قابل أيامي. أنا لم أفكر في أن أصبح طبيباً، مثلاً أو مهندساً، ولا أي شيء آخر. الشيء الوحيد الذي كنت أريد أن أكونه هو مثقف. لكن ماذا يعني هذا في حساب السوق؟ كان هذا "الضياع" يسبب لي أرقاً. وقد وجد هذا "الضياع" عند زميل لي كان يسبقني في الدراسة، وليد السلام، تعبيراً واضحاً هو أنني لا أصلح لشيء. وأنا أعتقد أن هذا التعبير كان صادقاً. فماذا تعني شهادة بكالوريوس في الرياضيات؟ ثم إنني أعلم إنني لم أكن رياضياتياً؛ ولم أكن أي شيء آخر لسبب بسيط هو أنني لم أكن لامعاً في الرياضيات، ولا في أي شيء آخر.
ماذا يعني أن أكون مدرساً للرياضيات في المدارس المتوسطة والثانوية.
ألأجل هذا رأيت أن ألجأ الى الكتابة؟ لكن ماهي الكتابة؟ أحيانا أشعر أن الكتابة هي مهنة الكسالى من الناس. هذا مع أنني كنت ألمس وزن الكاتب عندما يعلم من ألتقي بهم -في الغرب-إنني كاتب. وكانت كلمة "Iro" التي تقال عني عندما كنت في المجر لها رنينها. أنا ما أزال غير مقتنع بهذا كله.
مع ذلك لا أرى من الإنصاف أن أجور على نفسي. فلي كتابات بعضها لا يخلو من قيمة. وسأذكر من بينها كتاب (تأملات في الفيزياء الحديثة). هذا الكتاب قد لا يثير أي اهتمام لدى التفكير في عنوانه. لكنه من أجمل الكتابات كما نكرت.
والمشكلة الآن هي أن تلفوني تعطل. رن عدة رنات فحسبته نداء لي. لكنه لا يستجيب اليّ. بقي يرن بعض الوقت ثم توقف. ولم يعد في وسعي طلب أحد. تركته. ثم بعد بضع ساعات رن فاستجبت. كانت إحداهن على الخط. طلبت مني تأجيل موعد معين، فاستجبت. وهذا كل ما في الأمر، لأن التلفون بقي ميتاً أو كالميت بعد ذلك.
وهكذا، أنا الآن عاجز عن الاتصال بأحد. ولم يتصل بي أحد ثم أن جارتي غابريل ليست في البيت. سأبقى هكذا الى يوم غد في انتطار مجيء المعينة، ولسوء الحظ، أن هذه المعينة لن تفعل شيئاً، لأن الأخرى، نانسي، في إجازة. أنا في ضياع.
استيقظت في الخامسة صباحا في محاولة لفعل شيء. لكنني لا أستطيع أن أفعل شيئاً سوى الانتظار. كل شيء عاطل عندي الآن. وأنا أخشى أن ينفجر مخي من القلق.
منذ أيام وأنا أريد أن أكتب عني بدون تهويمات، أو بدون لف و دوران. أنا ذكرت في موضع آخر، لعل ذلك في سيرة حياتي، إنني اتخذت قراراً في عام 1947، أو 1948 بأن أصبح كاتباً، عندما كنت أتمشى لوحدي في حرم جامعة بيروت الأميركية. لكنني لم أبدأ بممارسة الكتابة إلا في عام 1958 ، قبل ثورة تموز، أي عندما كنت ما أزال حالماً.
وكانت بداية ممارستي الكتابة اعتيادية جداً: نقد لكتاب الدكتور علي الوردي (وعاظ السلاطين)، لكن مجلة (المثقف) التي أنشأناها في نفس السنة، وقبل ثورة تموز، كانت محفزي للإبداع. وأنا عندي نزعة سريالية، الى جانب اهتماماتي بالرياضيات. ولأعترف بأن قراءاتي الكثيرة كانت تقدم العالم أمامي كقطعة كيك هائلة بحجم الكون. ومن بين هذه القراءات، في الآداب القديمة والحديثة، وقفت على بيت شعر لابن الرومي، هو :
حبر أبي حفص لعاب الليل
يسيل للأخوان أي سيل
فتكهربت (إنني أكرر نفسي، فمعذرة)
تكهربت، وشعرت أنني سأصبح مقبلاً على ولادة جديدة. ذلك أنني لم أكن قد ولدت بعد. أنا كنت أعلم أن عندي مخاضاً أدبياً ورياضياًتياً في نفس الوقت. كنت أشعر بهذا المخاض منذ أيام جامعة بيركلي، وبالذات منذ رفقتي للـبـروفيسور كالياتبـور. كان هذا الـبـروفيسور الهندي، العبقري في نظرية الاحتمالات الرياضية (ربما لم يكن ليضاهيه أحد في ذلك سوى الرياضياتين الروس، الذين كنا نسميهم سوڤيتاً يومذاك).
هل كانت النزعة السريالية هي المحرك؟ قلت: القراءات الكثيرة، والاطلاعات، بما في ذلك أفلام المخرج السوڤييتي المذهل سيرغي آيزنشتاين، لاسيما في فيلمه المسحوب من السوق عن تجربته في المكسيك، لكنني استطعت الاطلاع عليه لأنني طالب في جامعة بيركلي، حيث أتيح لي أن أصبح عضوأ في نادي السينما (المنهل).
إنني استطرد كثيراً، وأتبعثر. فأنا أريد العودة الى قصيدة ابن الرومي ، التي كانت مخاض كتابي (الأطروحة الفنطازية)... آه، طبعاً، كانت أشياء أخرى، أيضاً، مخاض الاطروحة الفنطازية، بما في ذلك حرم جامعة بيركلي الذي كنت أتمشى فيه آخر الليل ونحن نتحدث، ونتحدث، حتى عن الهندية الحمراء في فيلم سيرغي آيزنشتابن المسحوب من السوق، عن المكسيك. كانت عارية تتأرجح في أرجوحة... أقول إن هذا المشهد كان أيضاً في تلافيف مخي عندما كتبت الأطروحة الفنطازية. هل نلملم المتبعثرات التي كانت مخاضاً؟ حسنٌ، إن من بينها كتاب (رسالة الغفران) التي اقتنيتها من مكتبة في الإسكندرية عند عودتي من الولايات المتحدة في صيف 1952. هذا الكتاب، الذي حاولت محققته بنت الشاطئ، أن تهمل جوانب مهمة عند أبي العلاء بسبب من ذهنيتها المحافظة. أقول إن هذا الكتاب، رسالة الغفران، كان من بين مخاضات كتابي (الأطروحة). وماذا أيضاً؟ جنوني بجمال شخصيات نسائية روائية، من بينهن محبوبتي ماتيلد دي لامول في رواية (الأحمر والأسود)؟ كلا، هذه من خلفيات الخلفية...
لكنني نسيت التفاضل والتكامل ، بما فيها المماسات، وحديث الصفر، وسيرة حياة فكرة خطيرة: مرة أخرى، الصفر.
كنت أريد أن أدرس علم الفلك، كنت أريد ذلك من صميم قلبي، لكنني كنت أخشى أن لا توافق على ذلك مديرية البعثات التي كنت أدرس على نفقتها. فذهبت الى الرياضيات.
إذن، هي الرياضيات، التي كانت وراء كتاب (الإطروحة)، وحبر أبي حفص. لم أكن قبل ذلك مقتنعاً بكل الذي كتبته. إن الذي كتبته قبل الأطروحة الفنطازية كان من بين المتبعثرات. ولم أكن قد اعترفت لنفسي إنني كاتب. ما هي الكتابة؟ الكتابة هي الرواية. وأنا لم أجرب كتابة الرواية بعد. أنا قد لا أكون محقاً في اعتباري فن الكتابة هو فن كتابة الرواية. وهنا قد يخالفني الصديق فخري كريم، لأنه لا يعير اهتماماتي الروائية قلامة ظفر. عندما قرأ كتابي (تأملات في الفيزياء الحديثة) (فخري يقرأ كل شيء)، تلفن اليّ، وقال: بما معناه، إن كل محاولاتي لا أهمية لها قبل كتابي (تأملات). لقد أسكرته تأملاتي الرياضياتية، ولا أقول جننته. وكان يتمنى أن أبقى "رياضياتياً"، ولا أتبعثر روائياً.
آه، إن هذا الحديث لذو شجون. فالصديق فخري الذي أغبطه على إلتفاتته الأدبية، أصر في مكالمته التلفونية تلك على موقفه "الرياضياتي" مستهيناً بمحاولاتي الروائية. فخري يعتبرني رياضياتياً. وأنا لا أختلف معه، فكتابي (تأملات في الفيزياء الحديثة) لا نظير له في مجاله، في عالمنا العربي. وماذا يعني هذا؟ إن هذا يعني إنني فرطت في قدرات "رياضياتية"أو "علمية" . مع أن هذا المنحى هو المنحى الصحيح الذي يصلح لي... واعترف بأنني، أنا شخصياً، مغرم الى حد كبير بكتابي (تأملات في الفيزياء الحديثة)، هذا الكتاب الذي أسهم العزيز الراحل فالح عبد الجبار، في إخراجه، بعد أن أسكرته حكاية "شيئية اللاشيء، ولا شيئية الشيء".
وهذا سيجعلني أفصل (التأملات) على الأطروحة الفنطازية. إنني أحث أصدقائي على قراءته. فهو كتاب لذيذ (إذا استعرت لغة نابوكوف). لكنني لا أريد أن أستهين بمحاولاتي في الرواية.
فقبل كل شيء أنا لا أريد أن أعتبر نفسي رياضياتياً، لأنني لست موهوباً في الرياضيات. أنا كاتب، والدليل على ذلك أنني كتبت أكثر من عشرين كتاباً، بعضها ما يزال ينتظر الطبع أو النشر. وأنا أحمل في ذلك الصديق فخري كريم (كناشر) أعني التأخر في النشر. مع إنه قال لابنتي زينب إنه يتعامل معي في قضايا النشر كخمس نجوم.
قبل سنوات علم الصديق فخري كريم أنني في صدد أن أكتب شيئا عن إمرئ القيس، وطه حسين مما يضع الأخير على المحك. ونصحتي أن أمتنع عن ذكر هذا الخبر. فامتنعت. وفي واقع الحال أنا لا أنكر الآن أين وقفت على هذا الخبر. ولعلي في محاولة للوقوف على مصدر هذا الخبر، رويته للسيد محمود درويش حينما جمعني به لقاء في فندق انتركونتننتال في عمان. فأكد فقط إنه قرأ البيتين من الشعر اللذين ينسبان الى إمرئ القيس، في ديوان هذا الأخير. وسأبقى ملتزماً بكلمتي التي قطعتها للصديق فخري كريم، بالامتناع عن ذكر الخبر.
كنت دائماً أتحاشى الكتابة بسبب معاملة أبي لي في طفولتي، احتراماً له، تلك المعاملة لم تكن جميلة. شاءت المصادفات أن يكون أبي مختلفاً عن بقية الرجال، وبخاصة آل الشوك، عائلته وعائلتي. عرفته منذ نعومة أظفاري، كان متديناً بإفراط، وكان يطبق النصف الثاني فقط من المقولة الدينية "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً؛ واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً". وكان يتعامل مع عائلته من هذا المنطلق الديني البحت. وهو كان يقرأ القرآن كل يوم، ويذهب الى الجامع، جامع الشيخ شكر، كل يوم، ويعود ظهراً الى البيت.
ولحسن الحظ إن أمي كانت "علمانية". وكانت هي التي أنشأتني وكوّنت مني ما أصبحت عليه. فكل ما أنا عليه الآن جاء بفضلها. ولحسن الحظ إنها لم تكن إمرأة خانعة، فهي تعتز بمحتدها العائلي. كان أبوها من بيت الجوهر، ولعله كان أثرى رجل في صوب الكرخ. كان يملك قطيعاً كبيراً من الجمال لنقل البضائع من العراق الى الشام، وبالعكس. وكانت أمها ابنة داود أبو التمن المعروف أيضاً بثرائه. من هنا كانت تواجه أبي من موقف قوة وإباء. وهذا المحتد حماني من سطوة أبي المتحكمة. ومن بين ذكرياتي عنه، إنني لم استلم منه يوماً "خرجية" (أو يومية). كانت أمي هي التي تفعل ذلك. وهي التي أدخلتني المدرسة رغماً عنه (كان يريد أن يجعل مني ربيب الجامع فقط.) فطلبت من "فهيمة"، التي كانت تقوم في خدمتنا أحياناً، أن تصطحبني الى مدرسة كرادة مريم لتسجلني فيها، وكان عمري خمس أو ست سنوات.
وللحقيقة إن أمي، وكان اسمها وفية، طلبت من فهيمة أيضاً أن تصطحب أختي "هدية" التي تكبرني الى مدرسة البنات لتسجلها فيها. كان ذلك في 1935. لكن أبي فرض إرادته بعد بضعة أيام وأجبر أختي المسكينة على الامتناع عن الذهاب الى المدرسة، بعد أن نصحه رفاقه بذلك. وهكذا حُرمت أختي من الدراسة. فأعطيت لي حقيبتها اليدوية وأقلامها ودفاترها.
وفي المدرسة كنت أرتدي البنطال القصير والسترة، وهو لباس كان يمقته أبي. ويفضل عليه الدشداشة والعرقجين. وكان يجبرني على ارتدائهما عندما يرسلني الى الجامع لتلقي دروس الدين. وكان يراقبني عندما أذهب الى الجامع ليكون على يقين من أنني لا أخلع العرقجين من رأسي. وأنا كنت أتلفت الى الوراء لأراه حين يتراجع الى البيت لأخلع العرقجين الذي أمقته لأنه لباس ((الفقراء)) من الناس.
وتسبب ذلك في ارتطامي بعمود الكهرباء الحديدي عندما كنت أتلفت الى الوراء، وأُصبت بجرح مؤلم في الجهة اليسرى من جبهتي. ولشدة خوفي من أبي واصلت الذهاب الى الجامع وأنا مدمى. لكن زملاء أبي في الجامع هرعوا لإسعافي بعد أن وجدوني في تلك الحال.
وعندما علمت أمي بجلية الأمر، أجبرت أبي على أن لايلبسني العرقجين بعد الآن. لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك. كان "يحاربني" كل يوم مادمت مواظباً على الدوام في المدرسة. فكان يسحب "اللمـبــة"، التي كنت أدرس على ضوئها، لكن أمي — الرائعة - كانت تعيد اللمـبــة لتضعها أمامي. هل تصدقون ذلك؟ ولولا حرصي على التعلّم منذ صغري، ولولا مساندة أمي، لحرمت أنا من الدراسة (مع أنني كنت من بين أكثر التلاميذ ذكاء).
وتعرضت الى حادث غرق سخيف كنت أنا مسؤولاً عنه. فظهيرة أحد أيام العطلة الصيفية كنت أتمشى على المسناة أمام نهر دجلة. وألقيت نظرة على النهر، فدخل في روعي أني أستطيع عبور النهر، مع أنني لم أكن أجيد السباحة. فاتخذت قراراً بعبور النهر سباحة، دون أن أعلم أن السباحة تتطلب دُربة. فنزلت الى الجرف، ثم خلعت دشداشتي، وألقيت بنفسي في النهر بأمل السباحة الى صوب الرصافة. فماذا حدث؟ حدث أن النهر ابتلعني على الفور، وسحبني الى القاع، وأنا أتشبث بالصعود الى أعلى بلا جدوى. ثم غرقت، وابتلعت ماء في رئتي، وشعرت بأنني سأموت غرقاً. ثم، ثم، لم أدر كيف انتشلتني من عمق الماء يدان رحمانيتان. وسحبتني هاتان اليدان الرحمانيتان الى اليابسة؛ ثم رفعتاني الى الأعلى ورأسي الى الأسفل ليخرج الماء الذي ابتلعته من رئتي. إنه محمود ابن عمتي بهية. يبدو إنه كان ماراً بالصدفة أمام موقع مغامرتي، وهرع من أعلى المسناة اليّ، ثم رمى بنفسه في الماء دون أن يخلع دشداشته.
أنا كائن هادئ، ولست مغامراً، فكيف زيّنت لي نفسي أن أقوم بهذه المغامرة الجنونية؟
(بعد يومين أو ثلاثة)
استيقظت قبل الخامسة صباحاً. وأرتديت بُلوفر. هل قلت إننا نواجه موجة برد رهيبة؟ وأعددت لي قهوة بالحليب. لا تبرح ذهني وفاة فالح عبد الجبار المفاجئة. كانت وفاته خسارة كبيرة للثقافة العراقية. كنت أفكر في أن نتعاون على صعيد العمل الفكري. لكن هل بقيت لدي ثُمالة؟
وصلتني رسالة من روزميري الهولندية بعد انقطاع سنوات. لا أدري كيف أجيب عليها. الكتابة باللغة الانكليزية ترهقني. كنت أتمنى لو أن لدي مشروعاً روائياً أكتبه. الكتابة وحدها من شأنها أن تجعلني أتحمل حياة الشيخوخة القاتلة. وليس لدي مشروع روائي يشدني إليه. إنها حالة نضوب. وهذا البرد المفاجئ لا أكاد أتحمله. وأخشى أن أرفع من حرارة المدفأة لئلا تنفجر. أيتها السوناتا، مالذي تبغيه مني؟ أيها البرد ما الذي تبغيه مني؟
بعد هذا الاستطراد أعود الى سيرة حياتي. كانت النية منعقدة على بناء مدرسة ابتدائية نموذجية. وقد تمّ بناء هذه المدرسة على أرض مقابلة تماماً لدار الإذاعة العراقية، التي ربما تأسست في نفس العام 1936 . لكنني أنا سجلت في هذه المدرسة في الصف الرابع الابتدائي عام 1938، وكان ذلك عام مفتتح المدرسة على ما أظن. وستبقى مدرسة المنصور هذه الى جانب جامعة بيركلي كاليفورنيا من أحب ذكرياتي الدراسية.
كانت مدرسة المنصور الابتدائية من ثلاث سنوات، هي الرابع، والخامس، والسادس، وكنت أنا من التلاميذ الأوائل الذين دشنوا الدراسة فيها، وهي على مبعدة خمس دقائق من بيتنا. ولعل أرضها كانت عائدة الى جدي أمين الشوك عندما باع أرض السكك الحديد الى "الألماني".
كان من بين زملائي : سعد صالح جبر؛ ومنذر إبراهيم الشاوي؛ ولؤي توفيق السويدي. وكان منذر أذكى مني، وبالتالي أذكى تلاميذ الصف، من الرابع الى السادس. لكن أقرب زميل لي كان تلميذأ مصرياً، اسمه هيكل، نسيت الآن اسم أبيه، ولعله كان ابن دبلوماسي مصري. وكان هيكل أرق تلميذ في المدرسة، وأحبهم اليّ.
وبعد المرحلة الابتدائية، أمضيت السنة الأولى في متوسطة كربلاء، لأن أبي أحب أن يجاور مرقد الحسين؛ ثم أمضيت الدراسة المتوسطة في متوسطة الرصافة للبنين. ومنذ تلك السنوات، وحتى في الاعدادية المركزية، كنت من بين أذكى الطلاب. وقد نلت في بكلوريا الصف الخامس الثانوي لعام 1947 معدل 81 في المئة. وهذا المعدل أهلني لان أكون أحد طلبة البعثة للدراسة في خارج العراق على نفقة وزارة المعارف العراقية.
لا أرى ضرورة للدخول في تفاصيل حياتي الدراسية. لكنني أود أن أؤكد أنني كنت طالب علم أكثر مني أدبياً. لذلك أرسلتني الدولة لدراسة الهندسة المعمارية، في جامعة بيركلي - كليفورنيا.
لم أوفق في دراسة الهندسة المعمارية، ولا أية هندسة أخرى، فانتقلت لدراسة الرياضيات. أنا لست لامعاً في دراسة الرياضيات، لكنني كنت أجد هذا العلم أحب شيء اليّ. ولا أذكر أنني كنت لامعاً في الفيزياء، لكنني تعلقت بهذا العلم فيما بعد، في مرحلة متأخرة من حياتي.
كنت دائما أسأل نفسي: من أكون أنا؟ أذكر أنني قلت مرة للصديق الراحل فؤاد التكرلي: "المشكلة معي هي إنني لا أستطيع أن أنظر، أي أن أكتب كتابة تنظيرية.". فقال لي: "مالك أنت والكتابة التنظيرية، أنت عندك الإطروحة الفنطازية".
لا أذكر متى دار هذا الكلام بيننا. فأنا بعد ذلك كتبت كتابة تنظيرية، لا سيما كتابي (تأملات في الفيزياء الحديثة)، الذي أعتبره من بين مفاخر الكتابات التنظيرية.
إنني دائما استيقظ في ساعات الليل الأخيرة. وفي هذه الأوقات استعيد ذكريات. وقد أدونها أحياناً، لكن الكثير منها يتبخر. وأنا دائماً أعود الى ذكرياتي الجامعية، ورفقتي لأستاذي الهندي اللامع كالياتـبـور، الذي أهداني كتاب (الدون الهادئ) بالانكليزية. وقد كتبت عن تلك العلاقة كلمة بعنوان (پروفسور كاليانـبـور) نشرت في جريدة الحياة. أريد أن أقول إن من أكثر العلاقات التي تركت بصمتها في حياتي كانت صحبتي للبروفيسور كالياتـبـور في جامعة بيركلي - كاليفورنيا. كنا نتحدث عن الأدب، مع أننا كنا مهتمين بالرياضيات. لا أدري إذا كان يتوسم فيّ مشروع كاتب. وربما لأجل هذا أهداني رواية (الدون الهادئ). ومع زميلي هادي علي كنا نشاهد أجمل الأفلام الاميركية والروسية، مثل (عناقيد الغضب)؛ و (الكساندر نيڤسكي)؛ و (المدرعة پوتيمكين)؛ و (ايڤان الرهيب) وقد ذكرت في موضع آخر أن لقاءاتنا كانت تتم سيراً على الأقدام. كنا نقضي ساعات الليل حتى أواخره مشياً على الأقدام في شوارع مدينة بيركلي. وقد كانت تلك الساعات من بين أجمل وأثقف ساعات عمري. ولعلي استطيع أن أزعم أن أحاديث تلك الساعات الليلية كان لها دور في توطيد نزعاتي الثقافية والأدبية.
أريد أن أعود الى تساؤلي، من أنا؟ فأنا لم أكن أعرف ماذا سأكون في قابل أيامي. أنا لم أفكر في أن أصبح طبيباً، مثلاً أو مهندساً، ولا أي شيء آخر. الشيء الوحيد الذي كنت أريد أن أكونه هو مثقف. لكن ماذا يعني هذا في حساب السوق؟ كان هذا "الضياع" يسبب لي أرقاً. وقد وجد هذا "الضياع" عند زميل لي كان يسبقني في الدراسة، وليد السلام، تعبيراً واضحاً هو أنني لا أصلح لشيء. وأنا أعتقد أن هذا التعبير كان صادقاً. فماذا تعني شهادة بكالوريوس في الرياضيات؟ ثم إنني أعلم إنني لم أكن رياضياتياً؛ ولم أكن أي شيء آخر لسبب بسيط هو أنني لم أكن لامعاً في الرياضيات، ولا في أي شيء آخر.
ماذا يعني أن أكون مدرساً للرياضيات في المدارس المتوسطة والثانوية.
ألأجل هذا رأيت أن ألجأ الى الكتابة؟ لكن ماهي الكتابة؟ أحيانا أشعر أن الكتابة هي مهنة الكسالى من الناس. هذا مع أنني كنت ألمس وزن الكاتب عندما يعلم من ألتقي بهم -في الغرب-إنني كاتب. وكانت كلمة "Iro" التي تقال عني عندما كنت في المجر لها رنينها. أنا ما أزال غير مقتنع بهذا كله.
مع ذلك لا أرى من الإنصاف أن أجور على نفسي. فلي كتابات بعضها لا يخلو من قيمة. وسأذكر من بينها كتاب (تأملات في الفيزياء الحديثة). هذا الكتاب قد لا يثير أي اهتمام لدى التفكير في عنوانه. لكنه من أجمل الكتابات كما نكرت.
والمشكلة الآن هي أن تلفوني تعطل. رن عدة رنات فحسبته نداء لي. لكنه لا يستجيب اليّ. بقي يرن بعض الوقت ثم توقف. ولم يعد في وسعي طلب أحد. تركته. ثم بعد بضع ساعات رن فاستجبت. كانت إحداهن على الخط. طلبت مني تأجيل موعد معين، فاستجبت. وهذا كل ما في الأمر، لأن التلفون بقي ميتاً أو كالميت بعد ذلك.
وهكذا، أنا الآن عاجز عن الاتصال بأحد. ولم يتصل بي أحد ثم أن جارتي غابريل ليست في البيت. سأبقى هكذا الى يوم غد في انتطار مجيء المعينة، ولسوء الحظ، أن هذه المعينة لن تفعل شيئاً، لأن الأخرى، نانسي، في إجازة. أنا في ضياع.
استيقظت في الخامسة صباحا في محاولة لفعل شيء. لكنني لا أستطيع أن أفعل شيئاً سوى الانتظار. كل شيء عاطل عندي الآن. وأنا أخشى أن ينفجر مخي من القلق.
منذ أيام وأنا أريد أن أكتب عني بدون تهويمات، أو بدون لف و دوران. أنا ذكرت في موضع آخر، لعل ذلك في سيرة حياتي، إنني اتخذت قراراً في عام 1947، أو 1948 بأن أصبح كاتباً، عندما كنت أتمشى لوحدي في حرم جامعة بيروت الأميركية. لكنني لم أبدأ بممارسة الكتابة إلا في عام 1958 ، قبل ثورة تموز، أي عندما كنت ما أزال حالماً.
وكانت بداية ممارستي الكتابة اعتيادية جداً: نقد لكتاب الدكتور علي الوردي (وعاظ السلاطين)، لكن مجلة (المثقف) التي أنشأناها في نفس السنة، وقبل ثورة تموز، كانت محفزي للإبداع. وأنا عندي نزعة سريالية، الى جانب اهتماماتي بالرياضيات. ولأعترف بأن قراءاتي الكثيرة كانت تقدم العالم أمامي كقطعة كيك هائلة بحجم الكون. ومن بين هذه القراءات، في الآداب القديمة والحديثة، وقفت على بيت شعر لابن الرومي، هو :
حبر أبي حفص لعاب الليل
يسيل للأخوان أي سيل
فتكهربت (إنني أكرر نفسي، فمعذرة)
تكهربت، وشعرت أنني سأصبح مقبلاً على ولادة جديدة. ذلك أنني لم أكن قد ولدت بعد. أنا كنت أعلم أن عندي مخاضاً أدبياً ورياضياًتياً في نفس الوقت. كنت أشعر بهذا المخاض منذ أيام جامعة بيركلي، وبالذات منذ رفقتي للـبـروفيسور كالياتبـور. كان هذا الـبـروفيسور الهندي، العبقري في نظرية الاحتمالات الرياضية (ربما لم يكن ليضاهيه أحد في ذلك سوى الرياضياتين الروس، الذين كنا نسميهم سوڤيتاً يومذاك).
هل كانت النزعة السريالية هي المحرك؟ قلت: القراءات الكثيرة، والاطلاعات، بما في ذلك أفلام المخرج السوڤييتي المذهل سيرغي آيزنشتاين، لاسيما في فيلمه المسحوب من السوق عن تجربته في المكسيك، لكنني استطعت الاطلاع عليه لأنني طالب في جامعة بيركلي، حيث أتيح لي أن أصبح عضوأ في نادي السينما (المنهل).
إنني استطرد كثيراً، وأتبعثر. فأنا أريد العودة الى قصيدة ابن الرومي ، التي كانت مخاض كتابي (الأطروحة الفنطازية)... آه، طبعاً، كانت أشياء أخرى، أيضاً، مخاض الاطروحة الفنطازية، بما في ذلك حرم جامعة بيركلي الذي كنت أتمشى فيه آخر الليل ونحن نتحدث، ونتحدث، حتى عن الهندية الحمراء في فيلم سيرغي آيزنشتابن المسحوب من السوق، عن المكسيك. كانت عارية تتأرجح في أرجوحة... أقول إن هذا المشهد كان أيضاً في تلافيف مخي عندما كتبت الأطروحة الفنطازية. هل نلملم المتبعثرات التي كانت مخاضاً؟ حسنٌ، إن من بينها كتاب (رسالة الغفران) التي اقتنيتها من مكتبة في الإسكندرية عند عودتي من الولايات المتحدة في صيف 1952. هذا الكتاب، الذي حاولت محققته بنت الشاطئ، أن تهمل جوانب مهمة عند أبي العلاء بسبب من ذهنيتها المحافظة. أقول إن هذا الكتاب، رسالة الغفران، كان من بين مخاضات كتابي (الأطروحة). وماذا أيضاً؟ جنوني بجمال شخصيات نسائية روائية، من بينهن محبوبتي ماتيلد دي لامول في رواية (الأحمر والأسود)؟ كلا، هذه من خلفيات الخلفية...
لكنني نسيت التفاضل والتكامل ، بما فيها المماسات، وحديث الصفر، وسيرة حياة فكرة خطيرة: مرة أخرى، الصفر.
كنت أريد أن أدرس علم الفلك، كنت أريد ذلك من صميم قلبي، لكنني كنت أخشى أن لا توافق على ذلك مديرية البعثات التي كنت أدرس على نفقتها. فذهبت الى الرياضيات.
إذن، هي الرياضيات، التي كانت وراء كتاب (الإطروحة)، وحبر أبي حفص. لم أكن قبل ذلك مقتنعاً بكل الذي كتبته. إن الذي كتبته قبل الأطروحة الفنطازية كان من بين المتبعثرات. ولم أكن قد اعترفت لنفسي إنني كاتب. ما هي الكتابة؟ الكتابة هي الرواية. وأنا لم أجرب كتابة الرواية بعد. أنا قد لا أكون محقاً في اعتباري فن الكتابة هو فن كتابة الرواية. وهنا قد يخالفني الصديق فخري كريم، لأنه لا يعير اهتماماتي الروائية قلامة ظفر. عندما قرأ كتابي (تأملات في الفيزياء الحديثة) (فخري يقرأ كل شيء)، تلفن اليّ، وقال: بما معناه، إن كل محاولاتي لا أهمية لها قبل كتابي (تأملات). لقد أسكرته تأملاتي الرياضياتية، ولا أقول جننته. وكان يتمنى أن أبقى "رياضياتياً"، ولا أتبعثر روائياً.
آه، إن هذا الحديث لذو شجون. فالصديق فخري الذي أغبطه على إلتفاتته الأدبية، أصر في مكالمته التلفونية تلك على موقفه "الرياضياتي" مستهيناً بمحاولاتي الروائية. فخري يعتبرني رياضياتياً. وأنا لا أختلف معه، فكتابي (تأملات في الفيزياء الحديثة) لا نظير له في مجاله، في عالمنا العربي. وماذا يعني هذا؟ إن هذا يعني إنني فرطت في قدرات "رياضياتية"أو "علمية" . مع أن هذا المنحى هو المنحى الصحيح الذي يصلح لي... واعترف بأنني، أنا شخصياً، مغرم الى حد كبير بكتابي (تأملات في الفيزياء الحديثة)، هذا الكتاب الذي أسهم العزيز الراحل فالح عبد الجبار، في إخراجه، بعد أن أسكرته حكاية "شيئية اللاشيء، ولا شيئية الشيء".
وهذا سيجعلني أفصل (التأملات) على الأطروحة الفنطازية. إنني أحث أصدقائي على قراءته. فهو كتاب لذيذ (إذا استعرت لغة نابوكوف). لكنني لا أريد أن أستهين بمحاولاتي في الرواية.
فقبل كل شيء أنا لا أريد أن أعتبر نفسي رياضياتياً، لأنني لست موهوباً في الرياضيات. أنا كاتب، والدليل على ذلك أنني كتبت أكثر من عشرين كتاباً، بعضها ما يزال ينتظر الطبع أو النشر. وأنا أحمل في ذلك الصديق فخري كريم (كناشر) أعني التأخر في النشر. مع إنه قال لابنتي زينب إنه يتعامل معي في قضايا النشر كخمس نجوم.
قبل سنوات علم الصديق فخري كريم أنني في صدد أن أكتب شيئا عن إمرئ القيس، وطه حسين مما يضع الأخير على المحك. ونصحتي أن أمتنع عن ذكر هذا الخبر. فامتنعت. وفي واقع الحال أنا لا أنكر الآن أين وقفت على هذا الخبر. ولعلي في محاولة للوقوف على مصدر هذا الخبر، رويته للسيد محمود درويش حينما جمعني به لقاء في فندق انتركونتننتال في عمان. فأكد فقط إنه قرأ البيتين من الشعر اللذين ينسبان الى إمرئ القيس، في ديوان هذا الأخير. وسأبقى ملتزماً بكلمتي التي قطعتها للصديق فخري كريم، بالامتناع عن ذكر الخبر.