في السنوات القليلة الماضية اصبحت لندن خليطا عجيبا من الثقافات والعادات المختلفة الى درجة ان ثلث من يقيمون فيها ولدوا في بلاد بعيدة ويتكلمون لغات غير الانكليزية كلغة ام. وهذا يعني ان عدد هؤلاء يزيد عن مليونين ونصف المليون من البشر. وتقول الاحصاءات ان من يقيمون في لندن ينتمون الى 270 جنسية اجنبية ويتكلمون 300 لغة غير الانكليزية.
والمهاجرون من دول اخرى الى لندن اصبحوا جزءا معتبرا من القوة العاملة في المدينة. ففي كل ما يخطر في البال من اعمال وصناعات واختصاصات هناك من يمثل الاجانب فيها – من القطاعات المصرفية الى القطاعات الطبية والاكاديمية والخدمية والتقنية وغيرها كثير. ويعمل الاجانب اساتذة جامعيين واطباء ومحامين ومصرفيين ويعملون في المطاعم والمخابز واسواق بيع اللحوم والخضار وفي قيادة سيارات النقل العام وفي اعمال التنظيف على اختلافها.
ويبدو واضحا ان هذا الخليط الثقافي الذي يعيش في لندن في طريقه الى مزيد من التوسع. فمعظم من يهاجرون الى بريطانيا للعمل او الاقامة او الدراسة يقصدون لندن في المقام الاول – سواء من الدول النامية او الدول المتقدمة او الدول التي انضمت حديثا الى الاتحاد الاوربي.
في الظاهر التنوع الثقافي في لندن يعد محركا ديناميكيا يدفع ابناء المجتمع في اتجاهات مختلفة. فكل واحد منا ينتمي الى ثقافة تبين لنا ما هو مباح وما هو غير مباح، وما هو مقبول وما هو غير مقبول، وتبين لنا السلوك المناسب والمتوقع منا. وما هو مقبول ومناسب لابناء ثقافة معينة قد لا يكون كذلك لابناء ثقافة اخرى.
الكثيرون من القادمين من الدول النامية بشكل خاص يفاجأون بالتعدد الثقافي الذي لم يعتادوا عليه في بلادهم. ففي بلادهم هم معتادون على سماع لغة واحدة في الاغلب الاعم. وهم معتادون على تلقي رسائل ثقافية منسجمة مع رؤية اجتماعية ودينية واحدة. وفي لندن - بصفتها واحدة من المدن ذات التنوع الثقافي الاكبر في العالم – الوضع مختلف. هنا كل شيء تقريبا مفتوح للمناقشة الجريئة والعميقة. لقد قرر هذا المجتمع – كغيره من المجتمعات الغربية – ان يناقش كل شيء ويظهر عيوب كل فلسفة او سياسة او فكر. وهذا البحث في الجذور يهدف في ما يهدف الى معرفة ما هو افضل لاعتناقه والسير على منواله.
وتتناول هذه الجرأة في بعض جوانبها ما يعتبر من المقدسات التي لا يتم تناولها في البلدان النامية. مثال ذلك هل الخالق موجود؟ هناك منظمات وجمعيات ترى ان بحث هذا الموضوع يخدم مصالحها ومصالح المهتمين به. انظر مثلا الى اعلان مكتوب بحروف كبيرة وملصق على الحافلات التي تجوب لندن في الليل والنهار وهو يقول: قد لا يكون الخالق موجودا. ولذلك كف عن القلق وعش حياتك واستمتع بها. مثل هذه الاعلانات تشكل ضغوطا اخلاقية ودينية كبيرة على غير المعتادين على هذا النمط من التفكير. وهنا ينشأ صراع تحت السطح يزداد او ينقص ولكنه موجود بالرغم من كل شيء.
وفي الوقت نفسه هناك جمعيات ومنظمات سياسية لا تشكك في وجود الخالق. هناك اعلانات على الحافلات تقول: لا شك ان الله موجود. لذلك انضم الى الحزب المسيحي واستمتع بحياتك.
وهناك طرف ثالث ضاق ذرعا بالجدل الدائر بين المؤمنين وغير المؤمنين في هذا الموضوع الشائك فوضع اعلانا على الحافلات يقول: ليس المهم ان يكون الخالق موجودا او غير موجود ولكن الاعلان عن ذلك على الحافلات يعني انك بالغ الغباء.
ويظهر الصراع الثقافي في اشكال اعلانات في موضوعات اخرى. هناك اعلانات على السيارات تحاول دب الرعب في قلوب المهاجرين غير الشرعيين المقيمين في لندن. فهناك اعلان يقول مثلا: الاسبوع الماضي قبضت السلطات على 106 اشخاص مقيمين بشكل غير مشروع في المنطقة التي تسكنها. عد الى بلادك او واجه الاعتقال. وهناك اطراف اخرى تعتبر اعلانا من هذا النوع عنصريا. وتدعو الى وقف مثل هذه الاعلانات.
لا شك ان الازدحام في لندن وضع ضغوطا كبيرة على مؤسسة الخدمات الصحية العامة التي تقدم خدماتها الطبية بالمجان. وهناك اعلانات تنشرها هذه المؤسسة تقول: نريد ان نقدم المساعدة. فلا تعاملونا بخشونة. كفوا عن مضايقة موظفي الخدمات الطبية. فالمضايقات اللفظية والبدنية قد تؤدي الى المقاضاة. لا شك ان القادمين من بعض الدول سيفاجأون باعلان من هذا النوع.
وهناك اعلانات على الحافلات اللندنية تدعو الى قبول المثليين بصفتهم اشخاصا طبيعيين: انظر الى ما يقول اعلان على بعض الحافلات: بعض الناس مثليون. وعليك ان تقبل ذلك.
ولندن مركز اقتصادي ومالي عالمي يجذب المستثمرين من كل انحاء العالم. وقد يفاجأ البعض بالفجوة الكبيرة بين الاغنياء والفقراء في لندن. ففي لندن يقيم الاف من اغنى اغنياء العالم. وفيها ايضا يقيم من هو اقل حظا من هؤلاء. هنا نسبة البطالة عالية. ونسبة المتشردين الذين لا مأوى لهم نسبة عالية ايضا. وبالتالي فان معدل الجريمة اعلى مما يتوقع القادمون من بلدان تختلف ثقافيا عن بريطانيا. ولكن هذا لا يدعو الى كثير من القلق. فالجرائم العنيفة في لندن تقع بين من يتعاطون المخدرات. واحتمال ان يتعرض المرء لجريمة كبيرة خارج هذه الدائرة هو احتمال صغير.
وبما ان لندن اصبحت مدينة تمتاز بتنوع ثقافي كبير فان اللهجات المحلية مثل لهجة الكوكني اصبحت في طريقها الى الزوال. واخذت لهجة خاصة بسكان لندن تتميز عن غيرها من اللهجات. وتسمى لغة اللندنيين: انكليزية لندن المتعددة الثقافات وهي انكليزية عامية تأخذ بعض مفرداتها وقواعدها النحوية من مختلف الثقافات المنتشرة في لندن. اذن الاقامة في لندن تؤثر ايضا على لغة الناس المقيمين.
هذا التنوع الثقافي والمعرفي واللغوي والديني والسلوكي للمقيمين في لندن – التي كانت في معظم سنوات القرن التاسع عشر اكبر المدن في العالم – ينعكس على كل مناحي الحياة اللندنية ويولد صراعات تبقى تحت السطح في الاغلب الاعم. ويعاقب القانون بشدة كل من يسيء الى هذا التنوع الثقافي الذي اصبح سمة بارزة من سمات الحياة اللندنية.
-----------------------------------------
هذا مجمل ما قلته في مقابلة صحفية اجرتها معي صحيفة عربية صادرة في لندن. وأرى انه يشكل خلفية للادب الانكليزي في بداية القرن الحادي والعشرين.
والمهاجرون من دول اخرى الى لندن اصبحوا جزءا معتبرا من القوة العاملة في المدينة. ففي كل ما يخطر في البال من اعمال وصناعات واختصاصات هناك من يمثل الاجانب فيها – من القطاعات المصرفية الى القطاعات الطبية والاكاديمية والخدمية والتقنية وغيرها كثير. ويعمل الاجانب اساتذة جامعيين واطباء ومحامين ومصرفيين ويعملون في المطاعم والمخابز واسواق بيع اللحوم والخضار وفي قيادة سيارات النقل العام وفي اعمال التنظيف على اختلافها.
ويبدو واضحا ان هذا الخليط الثقافي الذي يعيش في لندن في طريقه الى مزيد من التوسع. فمعظم من يهاجرون الى بريطانيا للعمل او الاقامة او الدراسة يقصدون لندن في المقام الاول – سواء من الدول النامية او الدول المتقدمة او الدول التي انضمت حديثا الى الاتحاد الاوربي.
في الظاهر التنوع الثقافي في لندن يعد محركا ديناميكيا يدفع ابناء المجتمع في اتجاهات مختلفة. فكل واحد منا ينتمي الى ثقافة تبين لنا ما هو مباح وما هو غير مباح، وما هو مقبول وما هو غير مقبول، وتبين لنا السلوك المناسب والمتوقع منا. وما هو مقبول ومناسب لابناء ثقافة معينة قد لا يكون كذلك لابناء ثقافة اخرى.
الكثيرون من القادمين من الدول النامية بشكل خاص يفاجأون بالتعدد الثقافي الذي لم يعتادوا عليه في بلادهم. ففي بلادهم هم معتادون على سماع لغة واحدة في الاغلب الاعم. وهم معتادون على تلقي رسائل ثقافية منسجمة مع رؤية اجتماعية ودينية واحدة. وفي لندن - بصفتها واحدة من المدن ذات التنوع الثقافي الاكبر في العالم – الوضع مختلف. هنا كل شيء تقريبا مفتوح للمناقشة الجريئة والعميقة. لقد قرر هذا المجتمع – كغيره من المجتمعات الغربية – ان يناقش كل شيء ويظهر عيوب كل فلسفة او سياسة او فكر. وهذا البحث في الجذور يهدف في ما يهدف الى معرفة ما هو افضل لاعتناقه والسير على منواله.
وتتناول هذه الجرأة في بعض جوانبها ما يعتبر من المقدسات التي لا يتم تناولها في البلدان النامية. مثال ذلك هل الخالق موجود؟ هناك منظمات وجمعيات ترى ان بحث هذا الموضوع يخدم مصالحها ومصالح المهتمين به. انظر مثلا الى اعلان مكتوب بحروف كبيرة وملصق على الحافلات التي تجوب لندن في الليل والنهار وهو يقول: قد لا يكون الخالق موجودا. ولذلك كف عن القلق وعش حياتك واستمتع بها. مثل هذه الاعلانات تشكل ضغوطا اخلاقية ودينية كبيرة على غير المعتادين على هذا النمط من التفكير. وهنا ينشأ صراع تحت السطح يزداد او ينقص ولكنه موجود بالرغم من كل شيء.
وفي الوقت نفسه هناك جمعيات ومنظمات سياسية لا تشكك في وجود الخالق. هناك اعلانات على الحافلات تقول: لا شك ان الله موجود. لذلك انضم الى الحزب المسيحي واستمتع بحياتك.
وهناك طرف ثالث ضاق ذرعا بالجدل الدائر بين المؤمنين وغير المؤمنين في هذا الموضوع الشائك فوضع اعلانا على الحافلات يقول: ليس المهم ان يكون الخالق موجودا او غير موجود ولكن الاعلان عن ذلك على الحافلات يعني انك بالغ الغباء.
ويظهر الصراع الثقافي في اشكال اعلانات في موضوعات اخرى. هناك اعلانات على السيارات تحاول دب الرعب في قلوب المهاجرين غير الشرعيين المقيمين في لندن. فهناك اعلان يقول مثلا: الاسبوع الماضي قبضت السلطات على 106 اشخاص مقيمين بشكل غير مشروع في المنطقة التي تسكنها. عد الى بلادك او واجه الاعتقال. وهناك اطراف اخرى تعتبر اعلانا من هذا النوع عنصريا. وتدعو الى وقف مثل هذه الاعلانات.
لا شك ان الازدحام في لندن وضع ضغوطا كبيرة على مؤسسة الخدمات الصحية العامة التي تقدم خدماتها الطبية بالمجان. وهناك اعلانات تنشرها هذه المؤسسة تقول: نريد ان نقدم المساعدة. فلا تعاملونا بخشونة. كفوا عن مضايقة موظفي الخدمات الطبية. فالمضايقات اللفظية والبدنية قد تؤدي الى المقاضاة. لا شك ان القادمين من بعض الدول سيفاجأون باعلان من هذا النوع.
وهناك اعلانات على الحافلات اللندنية تدعو الى قبول المثليين بصفتهم اشخاصا طبيعيين: انظر الى ما يقول اعلان على بعض الحافلات: بعض الناس مثليون. وعليك ان تقبل ذلك.
ولندن مركز اقتصادي ومالي عالمي يجذب المستثمرين من كل انحاء العالم. وقد يفاجأ البعض بالفجوة الكبيرة بين الاغنياء والفقراء في لندن. ففي لندن يقيم الاف من اغنى اغنياء العالم. وفيها ايضا يقيم من هو اقل حظا من هؤلاء. هنا نسبة البطالة عالية. ونسبة المتشردين الذين لا مأوى لهم نسبة عالية ايضا. وبالتالي فان معدل الجريمة اعلى مما يتوقع القادمون من بلدان تختلف ثقافيا عن بريطانيا. ولكن هذا لا يدعو الى كثير من القلق. فالجرائم العنيفة في لندن تقع بين من يتعاطون المخدرات. واحتمال ان يتعرض المرء لجريمة كبيرة خارج هذه الدائرة هو احتمال صغير.
وبما ان لندن اصبحت مدينة تمتاز بتنوع ثقافي كبير فان اللهجات المحلية مثل لهجة الكوكني اصبحت في طريقها الى الزوال. واخذت لهجة خاصة بسكان لندن تتميز عن غيرها من اللهجات. وتسمى لغة اللندنيين: انكليزية لندن المتعددة الثقافات وهي انكليزية عامية تأخذ بعض مفرداتها وقواعدها النحوية من مختلف الثقافات المنتشرة في لندن. اذن الاقامة في لندن تؤثر ايضا على لغة الناس المقيمين.
هذا التنوع الثقافي والمعرفي واللغوي والديني والسلوكي للمقيمين في لندن – التي كانت في معظم سنوات القرن التاسع عشر اكبر المدن في العالم – ينعكس على كل مناحي الحياة اللندنية ويولد صراعات تبقى تحت السطح في الاغلب الاعم. ويعاقب القانون بشدة كل من يسيء الى هذا التنوع الثقافي الذي اصبح سمة بارزة من سمات الحياة اللندنية.
-----------------------------------------
هذا مجمل ما قلته في مقابلة صحفية اجرتها معي صحيفة عربية صادرة في لندن. وأرى انه يشكل خلفية للادب الانكليزي في بداية القرن الحادي والعشرين.