عبروا ساحة المطار القديم مندفعين رتلا واحدا فوق الحواجز ومن تحتها، يحملون عصيا وعلى ظهورهم حقائب نايلون بدت كأنها طلبية واحدة فصلت على مقاس واحد ولون واحد، الأخضر. سيور الحقائب حمراء تشدها حلقات معدنية على الظهور من تحت الإبطين. عبروا الساحة ينهبون ميدان البلدية خفافا في دشاديشهم البيضاء وكان الصباح شفيفا يسيل فضة فوق البنايات. داروا حول برج الساحة، قدام برج الساعة الذي تذكر دقاته النحاسية دوما بالصباحات الرمادية البعيدة لساحة المطار القديم، وانكسروا إلى اليمين وقطعوا الطوار الفاصل إلى الطريق المقابل والمقابل لبناية الشيراتون. ولم تكن هناك في أول الصباح سيارات تعيق العبور - في المواقف، بين غرفة التجارة والصناعة وبناية (سوني)، زعقت صافرة فالتموا صفا واحدا. تفحص المشرف - وكانت الصافرة تتدلى على صدره - الوجوه، وتمم بدقة وتأن على الجمع فردا فردا، وعصا عصا، وحقيبة حقيبة. وزعقت الصافرة ولوح المشرف عاليا ومشى ومشوا من ورائه، بالخطو المنتظم، واحد اثنان. واحد اثنان. واحد.. اثنان.
كانوا صامتين يحرثون بالخطوات المنغمة الإسفلت وكانوا مشرقين.
اشتعل الوقت تماما وابيض وكان الرتل طويلا في صورة البياض المريب بين البنوك، في وجوم الصباح، على الطريق الفاصل بين البنايات، باتجاه برج الاتصالات حيث تصعد موجات الكلام عاليا وتتبعثر. بلغوا البرج وانعطفوا يمينا وكان إلى اليسار معسكر بيت الفلج الرابض، في صمت الرصاص، خلف دمعات الفلج التي ذرفتها عيون جبل بعيد على نسر نفض ريشه وحلق وحيدا في صباح رمادي بعيد من ساحة المطار القديم.
نفخ المشرف فزعقت الصافرة وتجمع الرتل عند رأس الشارع. وكانت السيارات وقد دبت الحياة، مثل رصاصات، تدرج من على الجسر.
توزعوا واحدا واحدا، على مسافات متساوية، بالخطو المنتظم، كل في مكانه المعين، وجوههم إلى الشارع. وكان في الوجهة المقابلة رتل آخر أخذ موقعه، كل في مكانه المعين، على مسافات متساوية.
كانوا قد وصلوا في الوقت نفسه بعد أن عبروا الساحة مندفعين، بالعصي والحقائب، عبر الطريق المؤدي إلى الشيراتون ثم شمالا بموازاة شركة الكهرباء الوطنية. زعقت صافرتان فانحنى التلاميذ في الجهتين، على نغم واحد، فوق الحقائب التي حلت سيورها. أخرجوا الأعلام ونشروها وثبتوها من فتحاتها في العصي، وأخرجوا الصور وفردوها ومسحوا تبعجاتها.
عند الساعة الخامسة قبيل المغيب بان هدير الموكب قادما من فوق الجسر وظهر يزحف فدوى التصفيق وارتفعت الأعلام والصور وانطلق النشيد عاليا لدقيقة واحدة.
رمح قلب الليل
بقلم: ظبية خميس
قال لي: ارو لي مما يفيض به قلبك قلت: رويت فما ارتويت.سنام جمل يمضي بكوكبة من خلق الله، لا يعرفون إلى أين هم يذهبون. ولا يتذكرون من أين هم جاءوا، ولا كيف بدأ ذلك الحجيج المهول الذي يمضي بهم في سرداب الوقت على ظهر هذا الجمل الصامت، الصبور.
غمامة قذفت بهم فإذا هم من الغمامة إلى السراب. تائهون مثل تلال الصحراء.. لا ينتابهم العطش، ولا الجوع، ولا يعرفون لهم محطة للراحة أو الانتظار.
يسوسهم ضبع ينظر إلى خلفه، ولا يرى ما أمامه.. وتصحبهم الذئاب والغربان من مكان إلى مكان
يزدادون عددا، ويتركون لمن يقتفي آثارهم أشلاء ودماء لا تجف أبدا، يندمون على شيء لم يدركوه.. ويتوقون إلى ما لا تستطيع أبصارهم الرمي إليه.
هم صفوة الأحياء.. وآخر الموتى.. يدركهم قيظ لا ملاذ منه.. وينام فوق رءوسهم ليل دامس تسمع فيه حفيف ثياب الجن، واحتضار القتلى. ، قال لي: قول لا أحن إليه، وأمر لم أبحث عنه.. أين هو العذب، النقي، الشافي، المشفي، الرائق في ذلك الفيض.
قلت: ما خاصمته.. لكنه خذلني أيها السائل عن ذوب القلب. كرامتك قد ردت إليك.. وسابيك هو المسبي نور من دفق الظلمات تطلب.. والروع ما زال يشعل أطراف شعري المخضب ببياض الهول. ما سرني إلا الذي تطلب لكنه في هباء الروح قد سار بعيدا.. ما مسسته إلا بشغف القول.. وما الذي أرى.. وذلك الذي أسمع. وهذا الذي يمسك بقلبي بين يديه إلا صخب المطموس بحلقي.. مثل غراب أسود.. ينعق كلما نطق لساني بوقع الحال.
قال لي: امضي إذن.. ودعيني لصوتي يقول لي ما يطيب له من القول.
ومضيت إلا أنني كنت أرقبه من البعيد.. وأنظر إلى ظلال صوته تأتي إلى أذني.
غنى وأطرب.. ثم قام للرقص منتشيا.. وأقام عرسا على الأرض.. أيقظ فيه أولئك النيام.. وأولئك الموتى.
غنى ولم يصمت حتى نام الظلام وأشرقت شمس تنعم بضجيجها.
ساورتني الشكوك في فرح هذا الذي يقول.. وخيل إلي أن به مسا أو خبلا ما.. وخشيت أن يكون حديثي لمعتوه يفرح.. وأنا أصب في أذنيه ما آلت له الدنيا.. جددت النظر إليه فلم أجده.. كان قد اختفى عندما مر الركب على الهودج. ووراءه رأيت الطبل.. والمزمار.. وآثار أقدام كانت ترقص فوق طمي الليل.
كانوا صامتين يحرثون بالخطوات المنغمة الإسفلت وكانوا مشرقين.
اشتعل الوقت تماما وابيض وكان الرتل طويلا في صورة البياض المريب بين البنوك، في وجوم الصباح، على الطريق الفاصل بين البنايات، باتجاه برج الاتصالات حيث تصعد موجات الكلام عاليا وتتبعثر. بلغوا البرج وانعطفوا يمينا وكان إلى اليسار معسكر بيت الفلج الرابض، في صمت الرصاص، خلف دمعات الفلج التي ذرفتها عيون جبل بعيد على نسر نفض ريشه وحلق وحيدا في صباح رمادي بعيد من ساحة المطار القديم.
نفخ المشرف فزعقت الصافرة وتجمع الرتل عند رأس الشارع. وكانت السيارات وقد دبت الحياة، مثل رصاصات، تدرج من على الجسر.
توزعوا واحدا واحدا، على مسافات متساوية، بالخطو المنتظم، كل في مكانه المعين، وجوههم إلى الشارع. وكان في الوجهة المقابلة رتل آخر أخذ موقعه، كل في مكانه المعين، على مسافات متساوية.
كانوا قد وصلوا في الوقت نفسه بعد أن عبروا الساحة مندفعين، بالعصي والحقائب، عبر الطريق المؤدي إلى الشيراتون ثم شمالا بموازاة شركة الكهرباء الوطنية. زعقت صافرتان فانحنى التلاميذ في الجهتين، على نغم واحد، فوق الحقائب التي حلت سيورها. أخرجوا الأعلام ونشروها وثبتوها من فتحاتها في العصي، وأخرجوا الصور وفردوها ومسحوا تبعجاتها.
عند الساعة الخامسة قبيل المغيب بان هدير الموكب قادما من فوق الجسر وظهر يزحف فدوى التصفيق وارتفعت الأعلام والصور وانطلق النشيد عاليا لدقيقة واحدة.
رمح قلب الليل
بقلم: ظبية خميس
قال لي: ارو لي مما يفيض به قلبك قلت: رويت فما ارتويت.سنام جمل يمضي بكوكبة من خلق الله، لا يعرفون إلى أين هم يذهبون. ولا يتذكرون من أين هم جاءوا، ولا كيف بدأ ذلك الحجيج المهول الذي يمضي بهم في سرداب الوقت على ظهر هذا الجمل الصامت، الصبور.
غمامة قذفت بهم فإذا هم من الغمامة إلى السراب. تائهون مثل تلال الصحراء.. لا ينتابهم العطش، ولا الجوع، ولا يعرفون لهم محطة للراحة أو الانتظار.
يسوسهم ضبع ينظر إلى خلفه، ولا يرى ما أمامه.. وتصحبهم الذئاب والغربان من مكان إلى مكان
يزدادون عددا، ويتركون لمن يقتفي آثارهم أشلاء ودماء لا تجف أبدا، يندمون على شيء لم يدركوه.. ويتوقون إلى ما لا تستطيع أبصارهم الرمي إليه.
هم صفوة الأحياء.. وآخر الموتى.. يدركهم قيظ لا ملاذ منه.. وينام فوق رءوسهم ليل دامس تسمع فيه حفيف ثياب الجن، واحتضار القتلى. ، قال لي: قول لا أحن إليه، وأمر لم أبحث عنه.. أين هو العذب، النقي، الشافي، المشفي، الرائق في ذلك الفيض.
قلت: ما خاصمته.. لكنه خذلني أيها السائل عن ذوب القلب. كرامتك قد ردت إليك.. وسابيك هو المسبي نور من دفق الظلمات تطلب.. والروع ما زال يشعل أطراف شعري المخضب ببياض الهول. ما سرني إلا الذي تطلب لكنه في هباء الروح قد سار بعيدا.. ما مسسته إلا بشغف القول.. وما الذي أرى.. وذلك الذي أسمع. وهذا الذي يمسك بقلبي بين يديه إلا صخب المطموس بحلقي.. مثل غراب أسود.. ينعق كلما نطق لساني بوقع الحال.
قال لي: امضي إذن.. ودعيني لصوتي يقول لي ما يطيب له من القول.
ومضيت إلا أنني كنت أرقبه من البعيد.. وأنظر إلى ظلال صوته تأتي إلى أذني.
غنى وأطرب.. ثم قام للرقص منتشيا.. وأقام عرسا على الأرض.. أيقظ فيه أولئك النيام.. وأولئك الموتى.
غنى ولم يصمت حتى نام الظلام وأشرقت شمس تنعم بضجيجها.
ساورتني الشكوك في فرح هذا الذي يقول.. وخيل إلي أن به مسا أو خبلا ما.. وخشيت أن يكون حديثي لمعتوه يفرح.. وأنا أصب في أذنيه ما آلت له الدنيا.. جددت النظر إليه فلم أجده.. كان قد اختفى عندما مر الركب على الهودج. ووراءه رأيت الطبل.. والمزمار.. وآثار أقدام كانت ترقص فوق طمي الليل.