- الذين تفاعلوا بقوة وحماسة مع الحركة الثقافية المصرية في نهاية الخمسينات وحتي نهاية الستينات سيذكرون بلا شك الدور البارز لرابطة الأدب الحديث ورائدها الشاعر والناقد الكبير مصطفي عبداللطيف السحرتي حيث كان يجمع حوله طلائع الشعراء والقاصين والنقاد والمسرحيين والمفكرين من مصر والسودان والعالم العربي بأسره من مشرقه إلي مغربه. كانت هذه الرابطة مركز الحركة الأدبية الحديثة يتباري علي منبرها أصحاب الأدب الحديث والفكر الجديد في رعاية أقطاب النقد الأدبي في ذلك الوقت محمد مندور وعبدالقادر القط ومحمود أمين العالم وعلماء الأدب الشعبي مثل عبدالحميد يونس وكان هناك الشعراء عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب وجيلي عبدالرحمن وكمال نشأت وأحمد عبدالمعطي حجازي ومحمد الفيتوري ومجاهد عبدالمنعم مجاهد وأمل دنقل وصلاح عبدالصبور ونجيب سرور وكان السحرتي هو الراعي الأكبر لهذه الأجيال فقد كان يتمتع بأبوة عامرة بالحنان والعطف والقدرة علي التشجيع والانتصار للتيارات الجديدة. وكانت المفارقة تكمن في أن هذا الناقد الذي بدأ شاعرًا قد نشأ وترعرع في حمي مدرسة أبوللو واعتنق كل مبادئها وأفكارها وكرس جهده كناقد للتبشير بإبداعها وجاءت كتبه المبكرة معتمدة في الجانب التطبيقي علي شعر مدرسة أبوللو من أمثال إبراهيم ناجي وعلي محمود طه والعشري وأحمد زكي أبوشادي وحسن كامل الصيرفي وكان كتابه الرائد «الشعر المعاصر علي ضوء النقد الحديث خلاصة لثقافة مصطفي السحرتي وموهبته النقدية ومعايشته لواقع الشعر في الثلاثينات والأربعينات ومن أبرز معالم أصالته أنه لم يتوقف عند المرحلة الأولي لازدهار شبابه الأدبي وكانت رابطة الأدب الحديث منتدي لكبار شعراء أبوللو خاصة إبراهيم ناجي الذي رحل عن عالمنا في عام 1953. كان السحرتي يشجع الأجيال الجديدة بحماسة ويقف مع الأصالة لدي الأجيال كلها فكان يعبر عن تقديره للكلاسيكية والرومانسية والواقعية وكانت رحلته إلي باريس حيث نهل من الثقافة الأوروبية وراء تفتحه النقدي والأدبي. عرف في فرنسا أحدث المدارس النقدية ورواد هذه المدارس وكان إتقانه للغة الفرنسية قد وسع من أفقه ومنح ممارساته النقدية والإبداعية مذاقًا حديثًا. ولد الناقد الكبير والشاعر مصطفي عبداللطيف السحرتي في يوم 22 ديسمبر 1902 ورحل عن عالمنا في 19 من مايو 1983 ويقول رفيق رحلته الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي «إننا فقدنا بموته جيلاً كاملاً يمثل عظمة الروح المصرية في إبداعها وخلقها وشخصيتها» ولد في ميت غمر وانتقل إلي القاهرة ليلتحق بكلية الحقوق وكان مفعمًا بالطموح والوطنية والإرادة والموهبة الأدبية فاندفع مع رفاقه وأنداده ليشارك في الحركات الوطنية التي كانت تسعي إلي العزة والكرامة والاستقلال والتحرر والارتقاء بالوطن إلي مصاف الدول المتقدمة خاصة ثورة 1919. ذهب السحرتي إلي باريس ليدرس القانون في جامعة السربون ولكن الثقافة الفرنسية اختطفته كما اختطفت الأدباء من أبناء جيله مثل توفيق الحكيم ومن هنا عكف السحرتي علي تأمل الإبداع الشعري والنثري والمسرحي والنقدي في فرنسا، تزود من الدراسات الأدبية ثم عاد ليعمل بالمحاماة وبدأ يكتب مقالاته ودراساته في المجلات مثل السياسة الأسبوعية وغيرها من المجلات الأدبية وأصبح واحدًا من أعمدة مدرسة أبوللو عند إنشائها في عام 1932 واقترب من شعرائها ورموزها وكانت شاعريته قد تفتحت وأصدر ديوانه «أزهار الذكري» ثم تتابعت أعماله فقد أصدر هذه الأعمال «الطبيعة في الشعر العربي» و«الشعر المعاصر علي ضوء النقد الحديث» و«النقد الأدبي من خلال «تجاربي» و«شعر اليوم» و«شعراء مجددون» و«الفن الأدبي»، و«دراسات نقدية» و«دراسات نقدية في الأدب المعاصر» و«الأصالة الأدبية» أصبح رئيسًا لرابطة الأدب الحديث وبعد تقاعده عندما بلغ الستين تفرغ للدراسات الأدبية والنقدية. كان مولعًا بفكرة الأصالة الأدبية وهذا الكتاب يعبر عن رؤيته لتجليات هذا المفهوم في الأنواع الأدبية المختلفة فقد عبر في الفصل الأول عن معني الأصالة الأدبية حيث يقول الناقد الكبير مصطفي عبداللطيف السحرتي «الأصالة الأدبية هي ما يطلق عليه الإنجليز كلمة Originality وهي الفكرة الجديدة التي تلبس ثوب الطرافة أو الغرابة والتفرد والبعد عن المألوف. وهذه الأصالة تكون موضوعية أو تعبيرية أو جامعة بين الموضوع والتعبير في الشعر أو في النثر. وهي ليست خلقًا فقط ولكنها خلق فريد يثير العجب والدهشة والطرافة ويأسر الذهن والقلب معا وهي لا تنمو من العدم ولا من الإشراق العفوي بل تنمو من التفكير الذكي والتأمل الطويل وتستمد مادتها من واقع الحياة أو مما فوق الواقع أو الوهم أو من فكرة معروفة ارتدت رداء جديدًا قشيبًا متميزًا أو رداء غريبًا لا عهد لنا به. وهي بلا ريب ميزة سامية للأعمال الأدبية قامت علي تفكير مركز وتجربة شعورية ناضجة وبصيرة نافذة ثم يري أن هذه الأصالة الأدبية تتجلي في التراث القديم وفي النتاج الأدبي الحديث المعاصر علي السواء ولا تتقيد بزمان ولا مكان إلا أنها تزدهر في أجواء الحرية وعصور التقدم والتنوير» لقد حمل السحرتي مفهومه عن الأصالة الأدبية ليغوص عبر كتابه هذا في نماذج أساسية لها حضورها الدائم في تاريخ الأدب والتراث الحضاري للأمة مثل كتاب «ألف ليلة وليلة» حيث يري الأستاذ السحرتي أن هذا الكتاب زاخر بالتحولات والخوارق وجمع في كثير من حكاياته بين الواقعية والفطنة واحتوي علي كثير من القيم الرفيعة أو قيم نقدية للناس أو المجتمع فضلاً عما يحتويه من متعة وتسلية فائقة وقد أصبح هذا العمل بهذه السمات جزءًا من الأدب العالمي كما تقول الدكتورة سهير القلماوي في كتابها «ألف ليلة وليلة» حيث تأثر به من الفرنسيين أمثال فولتير ومونتسكيو وبومارشيه فقد تأثر به فولتير في قصته زفايج ومونتسكيو في كتابه «رسائل فارسية» وبومارشيه في مسرحيته «حلاق إشبيلية».