المسرحية هي عرض حي يؤديه ممثلون أمام جمهور. وهذا أعظم ما يمتاز به الفن المسرحي وهو أيضاً مفتاح لفهم هذا الفن.
وقد تنبأ بعض النقاد باندثار الفن المسرحي عندما اخترعت السينما الناطقة. ونظر البعض إلى التلفزيون والاهتمام الجديد بالسينما كفنٍّ راقٍ على أنهما تهديد للفن المسرحي. ولكن الحقيقة هي ان عدد المسارح الجديدة يزداد وأن كثيراً من المدن الصغيرة في مختلف أنحاء العالم أصبح فيها فرق مسرحية مقيمة تؤدي عروضاً مسرحية. وتقام مسارح جامعية بأفضل التجهيزات الممكنة. وواضح من زيادة عدد المسارح أن هناك حاجة حقيقية إلى العروض المسرحية.
ولا شك أن لكل من السينما والمسرح نقاط قوة ونقاط ضعف. ولما كانت أعظم نقطة قوة في المسرح هي التأثير النفسي الذي يشكله الممثلون فإن المؤلفين المسرحيين المعاصرين يؤكدون هذه الناحية في الفن المسرحي. فبعضهم مثلاً يفضل المسارح التي يحيط فيها الجمهور بالخشبة من جوانب ثلاثة. في حين أن آخرين يفضلون المسرح الدائري ويكتبون مسرحياتهم بشكل يستفيدون فيه من هذا التصميم. ويذهب بعض الكتاب الآخرين إلى أبعد من هذا فيجعلون شخصياتهم تختلط بالجمهور. ففي مسرحية وليام كارلوس وليامز (عشاق كثيرون) مثلاً يمكث المخرج والمؤلف بين صفوف الجمهور ويوقفان العرض مرة بعد مرة لمناقشة المسرحية والغرض منها متنقلين في حرية بين عالم المشاهدين وعالم الممثلين. ويشبه تأثير ذلك في الجمهور تأثير الحلم الذي يصحو منه المرء عدة مرات.
ولكن سواء كانت المسرحية تجريبية أو تقليدية كما هو الحال في مسرحية آرثر ميلر (الثمن) فإن الفن المسرحي يتميز عن كل من السينما والشعر والقصة بأنه فن حي.
ست خصائص أساسية للدراما:
للدراما خصائص تميزها، كما هو الحال في القصة. وتنجم هذه الخصائص عن كون المسرحية عرضاً حياً. وهناك مسرحيات تفتقر إلى خاصة أو خاصتين من هذه الخصائص كما تفتقر بعض قصائد شعرية إلى خاصة الايقاع كما تفتقر بعض القصص إلى الحوار. والواقع أن هذه الخصائص ليست قواعد، ولكنها مجرد صفات مميزة تتكرر في معظم المسرحيات ويعتبرها معظم المؤلفين المسرحيين مصدر قوة في هذا النوع الأدبي.
1ـ المسرحية بالتعريف هي فن درامي. وهذا يعني عموماً أن لها تأثيراً نفسياً انفعاليا. ويتشكل هذا التأثير غالباً في وقت مبكر من المسرحية بسؤال درامي يستحوذ على انتباه الجمهور قبل أن تصبح المسرحية واضحة بوقت طويل. والأسئلة الدرامية عادة مباشرة وبسيطة: هل يشكل هذا الغريب خطراً؟ من ينتظر هؤلاء؟ لماذا تمقت هذه الشخصيات بعضها بعضاً؟ وتتحول هذه الأسئلة الأولية في أغلب الحالات إلى صراعات محددة. وبالرغم من أن الحاجة إلى توتر كهذا ليست ملحة جداً في المسرحيات القصيرة والكوميديات إلا أنها في العادة أكثر إلحاحاً في الدراما منها في القصة أو الشعر.
على أن من الصعب أن نطيل بقاء التأثير الدرامي. ولهذا السبب تصل معظم المسرحيات إلى سلسلة من الذرى مجيزة بذلك لعواطف الجمهور أن تهدأ بين ذروة وأخرى. وهذا النظام من العمل المسرحي الصاعد والهابط لا يتبع أي قانون معين. وهو في الغالب حدسي من قبل المؤلف المسرحي ــ كما هو الحال تماماً في كتابة القصة القصيرة.
2 ـ الدراما فن بصري: فالفعل المسرحي على الخشبة عادة ما يكون جزءاً مهماً وعضوياً من العرض ككل. ولا يكفي في القرن العشرين أن تتحرك الشخصيات جيئة وذهاباً على الخشبة ملقية بالشعر على غرار ما تفعله الشخصيات في المسرح الإغريقي التقليدي. إن حركة الشخصيات على الخشبة في أغلب الأحيان تساوي في أهميتها التعبيرية أهمية السطور نفسها.
ويذهب الاهتمام بالجانب المرئي في المسرحية إلى أبعد من الشخصيات. فالديكور نفسه غالباً ما يكون جزءاً مهماً آخر في العرض. ويمكن لنظام الإضاءة المعقد أن يحيل الديكور إلى عامل ديناميكي في تطوير الجو في كل مشهد. أضف إلى ذلك أن إسقاط الصور المتحركة والثابتة على الخشبة يقوي الجانب المرئي عليها.
3 ـ الدراما فن سمعي: والكلمات في المسرحية هي حديث في المقام الأول خلافاً لما هو الحال في القصة. ويقترب الكاتب المسرحي في ذلك من الشاعر أكثر مما يقترب من الروائي. ويتعين على المؤلف المسرحي أن يقرأ ما يكتب بصوت مسموع كما يفعل الشاعر ليتعرف إلى تأثير الكلمات ووقعها.
ويدفع هذا بالبعض إلى كتابة مسرحيات شعرية. في حين أن مؤلفين آخرين يعتبرون الحوار الدرامي وسيلة لتشكيل خبرة حالمة تعتمد على الانطباعات أكثر مما تعتمد على حبكة مطورة تطويراً منطقياً. وهذه خاصة مرتبطة بمسرح اللامعقول. ويمكن أن تكون فترات الصمت بين السطور ذات مغزى كبير. ففي أعمال هارولد بنتر مثلاً تعادل فترات الصمت في أهميتها أهمية السطور ذاتهاأو تكاد.
4 ـ الدراما فن حسي: ويميل المؤلفون المسرحيون المبتدئون إلى الاعتقاد بأن هذه الخاصة قيد من القيود. فالديكور يجب أن يبنى بالخشب والمسامير. ولا يستطيع النص المسرحي أن يتجاهل مصمم الديكور وطاقم الخشبة.
ولكن يعتبر الجانب الحسي في العرض المسرحي مصدر قوة كبيرة. فعندما تقدم المسرحية بشكل واقعي فإنها تكتسب نوعاً من المصداقية المكثفة. وعندما تكون المسرحية تعبيرية فإنها تفتح الخيال لما هو إيحائي ورمزي. وهناك جملة من التقنيات التي تخلط الممثلين بالجمهور والجمهور بوهم المسرحية. وهي تقنيات لا نجد لها مثيلاً في أي نوع من الفنون الأخرى بما في ذلك السينما.
5 ـ الدراما فن متصل: يختلف جمهور المسرح عن قراء القصة أو الشعر في أنه يتلقى المسرحية بالوتيرة التي يحددها المؤلف. فهو لا يستطيع التوقف للتأمل في ملاحظة حكيمة أو حادثة مؤثرة ولا يستطيع العودة إلى صفحة سابقة أو مراجعة مشهد مضى. وهذه الخاصة لا تجعل المسرحية أفضل أو أسوأ من غيرها من الفنون، ولكنها ميزة يمكن للكاتب المسرحي أن يستفيد منها.
6 ـ الدراما فن للمشاهدة: واستجابة الجمهور على جانب كبير من الأهمية. ولعل موقف الجمهور هنا أكثر أهمية من موقف جمهور المباريات الرياضية. فالشعراء لا يهتمون باستجابة قراء قصائدهم. ومن النادر أن تجد شاعراً يغير بيتاً من قصيدةٍ, له استجابة لمقالة نقدية. والروائيون أكثر تأثراً بموقف القراء من الشعراء، فجمهورهم أوسع من جمهور الشعراء، وهم يعرفون ذلك. ولذلك فإن كثيراً من الروائيين يدخلون تعديلات واسعة أحياناً على رواياتهم استجابة لاقتراحات المحرر. توماس وولف مثلاً وضع ثقته في محرره ماكسويل بيركنز وأجاز له أن يحذف ما شاء من نصوص رواياته. وإف سكوت فيتزجيرالد ذهب إلى أبعد من ذلك فأعاد كتابة روايته (الليل الهادىء) بعد نشرها بسنوات محاولاً أن يتغلب على موقف القراء السلبي منها.
أما المؤلف المسرحي فهو أكثر تحسساً لاستجابة الجمهور. فهو قد يكون شديد التوتر بينما يجلس في مؤخرة صالة المسرح ليلة افتتاح العرض. وهو شديد التنبه لتلك اللحظات الرهيبة التي يضحك فيها الجمهور في الوقت غير المناسب أو التي يتململ فيها بدافع الضجر. وتجده يتسقط التعليقات التي يتبادلها الجمهور في أثناء فترة الاستراحة. وهو يهتم اهتماماً كبيراً ــ وربما أكثر مما يجب ــ بالمقالات النقدية التي تصدر في الصحف في اليوم التالي.
وهذا لا يعني أن المؤلف الجاد هو عبد لما يمليه عليه النقاد والجمهور. ففي أغلب الأحيان يكون للكاتب تصور أساسي للعمل يبقى بدون تغيير. ولكن لما كان الكاتب يتعامل مع عرض حي ومع جمهور يمر بخبرة جماعية فإن اهتمامه باستجابة مشاهديه أمر مشروع.
الحدود الطبيعية للدراما:
ليس هناك حدود قاطعة بين الفنون الأدبية. فالقصيدة قد تعتمد اعتماداً كبيراً على لغة رمزية غير غنائية وبذلك تغدو أقرب إلى النثر. والقصة التي تتوسع في السرد تبدو أقرب إلى المقالة. والقصة التي تعتمد على الحوار اعتماداً كبيراً تقترب من الدراما. ويبدو أن حدود أي نوع أدبي قد رسمت بناء على الأثر الذي يحدثه النوع في نفس المتلقي. وإذا اقترب الكاتب من نوع أدبي آخر فإن مسؤوليات معينة تتولد وعليه أن يأخذها بالاعتبار. ولكن من أجل أن نفهم الإمكانات الكاملة لأي نوع أدبي علينا أن نستكشف حدوده الخارجية.
من الممكن على سبيل المثال أن تقترب المسرحية من الشعر. فالمسرحيات الإغريقية قد كتبت شعراً. وكذلك الدراما الفرنسية الكلاسيكية في القرن السابع عشر. وتخيَّر شكسبير طريقاً وسطاً جاعلاً الشعر المرسل حراً تماماً ولجأ إلى النثر في حوار الشخصيات الهزلية والوضيعة. وكتب الكتاب الأمريكيون في القرن العشرين من أمثال ماكسويل أندرسون وروبرت لويل دراما شعرية لمعالجة موضوعات راهنة. وواضح من هذه الأمثلة أن استخدام الشعر في المسرحية لا يقلل من تأثيرها ولا يبطئ من وتيرتها.
ولكن تبدأ مشكلات الشعر في الدراما بالظهور عندما تقترب الأبيات من التعقيد اللفظي والمعنوي الذي نربطه غالباً بالشعر. فالدراما شكل مستمر ولا يستطيع الجمهور أن يراجع الأبيات لفهم استعارة معقدة. ولهذا السبب فإن الشعر المعقد فيها يعتبر نقطة ضعف وليس نقطة قوة. إذن يمكن أن تقترب الدراما من القصيدة، ولكن يجب أن لا نخلط بينها وبين الشعر نفسه.
وبالمثل نجد في الدراما عناصر المقالة. فتعطى الشخصيات غالباً سطوراً تبدو في القصة ذات نزعة تعليمية وتوجيهية. وقد يلجأ الكاتب المسرحي إلى هذا ضمن حدود معينة لأن النوع الدرامي ليس فيه سرد كما في القصة ولأن وتيرة الدراما أسرع من وتيرة الرواية. وتتمتع المسرحية بقوة دفع معينة تستحوذ على الجمهور من خلال مناجاة تشبه المقالة، إذا كانت هذه المناجاة ليست أطول مما يجب.
وتتوسع بعض المسرحيات في معالجة موضوعات أخلاقية أو اجتماعية أو سياسية. فمسرح المقاومة والاحتجاج، والدراما العمالية في الثلاثينات من القرن العشرين في الولايات المتحدة كما في مسرحية (بانتظار لفتي) للكاتب كليفورد أوديت مثلاً، والمسرحيات الأخلاقية في العصور الوسطى - كلها دراما هادفة بمعنى أن كلاً منها يحمل رسالة معينة ويناصرها. وكان معظمها خبرات مسرحية مؤثرة بالنسبة إلى الجمهور في ذلك الوقت.
وتتميز هذه المسرحيات بكونها مبسطة من الناحية الأدبية. وهي تعتمد على موضوعات الساعة سواء السياسية منها أو الأخلاقية. ولكن ما أن يفوت الوقت على هذه الموضوعات حتى تغدو المسرحيات عتيقة الطراز. إن مسرحية (مغزى) للكاتب سكلتون مثلاً حظيت بنجاح وافر عند أولئك الذي عانوا من تطرف الملك هنري الثامن قبل خمسمائة عام. وأمتعت مسرحية (ماكبرد) للكاتبة باربرا غارسون نقاد الرئيس الامريكي ليندون جونسون عام 1966. غير أن المسرحيتين مبنيتان على موضوعات سياسية واجتماعية لا تغري رواد المسرح اليوم بمشاهدتها.
ومن غير المفيد أن نجادل فيما إذا كان يجب على المسرحية أن تعالج قضايا اجتماعية راهنة أو أن تكون ذات رسالة كما هو الحال في المقالة أو فيما إذا كان يجب عليها أن تهتم بالموضوعات الإنسانية ذات المضامين التي لا يمكن ان ينال منها الزمن. إن لكل من هذين الاتجاهين فوائده المختلفة ويؤدي وظائف مختلفة: فالأول يؤثر في المجتمع الراهن تأثيراً محدداً، وبذلك يقوم بمهمة الإصلاح، في حين أن الثاني يتمتع بصفة الاستمرارية والبقاء والقدرة على مخاطبة الثقافات المختلفة عبر القرون.
وكما هو الحال في الدراما الشعرية هناك مشكلة ضعف التأثير. فإذا كانت المسرحية تشبه المقالة شبهاً كبيراً فإنها تفقد الوهم الدرامي الذي يجيز للجمهور أن يدخل إلى العمل المسرحي وأن يتأثر به. فيظل المشاهد خارج العمل كما لو كان يستمع إلى خطبة. وفي هذه الحال تفقد الدراما القدرة على إثارة عواطف الجمهور وذكرياته وتفقد القدرة على التعليم عن طريق المثال الحي. إذن يستطيع الكاتب المسرحي أن يتحرك باتجاه المقالة ولكنه يجب أن لا يخلط بين المسرحية والمقالة كنوعين أدبيين.
وبالرغم من أن الدراما في بعض نواحيها تشبه القصة إلا أنها تفقد الكثير من فعاليتها إذا أجيز لها أن تهيم بعيداً في هذا الاتجاه أيضاً. فالحبكات القصصية في الغالب تفتقر إلى الوحدة الدرامية الضرورية في العروض المسرحية. وهي تقفز عدة قفزات في الزمان والمكان. أما الدراما من الناحية الأخرى فتمتاز بوحدة أكبر. وهناك استثناءات كثيرة، غير أن القيود الميكانيكية للديكور والحاجة إلى الانسجام تشجع الكاتب المسرحي على جعل حبكته تتحرك في نسق تاريخي وبدون تنقل كثير في المكان.
ومن الخصائص الأخرى للقصة أنها تستعمل الخاطرة. وبإمكان الدراما الإفادة من هذه الخاصة بجعل الشخصيات تتحدث عن نفسها أو تخاطب الجمهور مباشرة أو باستخدام الجوقة أو بالاستماع إلى شريط مسجل. وعلى أي حال، تعتمد المسرحية عموماً على مصادر القوة فيها أي على الفعل المسرحي والحوار فبإمكان الجمهور التعرف إلى أفكار الشخصية بالاعتماد على ما تفعله وما تقوله. ومن شأن التعبير عن الخواطر بصورة مباشرة أن يبطئ الوتيرة في المسرحية، وهو أقل استخداماً في المسرحية مما هو في القصة.
هناك استثناءات لكل ما ذكرناه عن حدود الدراما. فالتجريب في المسرح اليوم يفوق ما كان عليه في أي وقت في التاريخ. إننا نجد مسرحيات تتحرك بحرية إلى أمام وإلى وراء زمنياً مثل أي رواية فضفاضة، كما في مسرحية (بعد السقوط) لارثر ميلر. وهناك مسرحيات لا تستفيد من العنصر البصري كما في مسرحية (المذكرات الكاملة لبرنارد ميرجينديلر) لجولز فيفر، وهي مسرحية تعرض في ظلام دامس. وهناك مسرحيات ليس فيها ممثلون كما في مسرحية (الرغبة) لبيكاسو، وهي مؤلفة من مشهد كامل يصور \"رقصة\" لجسمين متحركين.
ولكن لا شك أن العروض الحية التي تقدم على الخشبة تمتاز بمصادر قوة لا نجد لها مثيلاً في الأنواع الأدبية الأخرى. ويهتم معظم المؤلفين المسرحيين بتطوير هذه المصادر والاستفادة منها أكثر مما يهتمون بمحاكاة تلك الأنواع الأدبية.
zedhakim@yahoo.co.uk
لندن - بريطانيا
وقد تنبأ بعض النقاد باندثار الفن المسرحي عندما اخترعت السينما الناطقة. ونظر البعض إلى التلفزيون والاهتمام الجديد بالسينما كفنٍّ راقٍ على أنهما تهديد للفن المسرحي. ولكن الحقيقة هي ان عدد المسارح الجديدة يزداد وأن كثيراً من المدن الصغيرة في مختلف أنحاء العالم أصبح فيها فرق مسرحية مقيمة تؤدي عروضاً مسرحية. وتقام مسارح جامعية بأفضل التجهيزات الممكنة. وواضح من زيادة عدد المسارح أن هناك حاجة حقيقية إلى العروض المسرحية.
ولا شك أن لكل من السينما والمسرح نقاط قوة ونقاط ضعف. ولما كانت أعظم نقطة قوة في المسرح هي التأثير النفسي الذي يشكله الممثلون فإن المؤلفين المسرحيين المعاصرين يؤكدون هذه الناحية في الفن المسرحي. فبعضهم مثلاً يفضل المسارح التي يحيط فيها الجمهور بالخشبة من جوانب ثلاثة. في حين أن آخرين يفضلون المسرح الدائري ويكتبون مسرحياتهم بشكل يستفيدون فيه من هذا التصميم. ويذهب بعض الكتاب الآخرين إلى أبعد من هذا فيجعلون شخصياتهم تختلط بالجمهور. ففي مسرحية وليام كارلوس وليامز (عشاق كثيرون) مثلاً يمكث المخرج والمؤلف بين صفوف الجمهور ويوقفان العرض مرة بعد مرة لمناقشة المسرحية والغرض منها متنقلين في حرية بين عالم المشاهدين وعالم الممثلين. ويشبه تأثير ذلك في الجمهور تأثير الحلم الذي يصحو منه المرء عدة مرات.
ولكن سواء كانت المسرحية تجريبية أو تقليدية كما هو الحال في مسرحية آرثر ميلر (الثمن) فإن الفن المسرحي يتميز عن كل من السينما والشعر والقصة بأنه فن حي.
ست خصائص أساسية للدراما:
للدراما خصائص تميزها، كما هو الحال في القصة. وتنجم هذه الخصائص عن كون المسرحية عرضاً حياً. وهناك مسرحيات تفتقر إلى خاصة أو خاصتين من هذه الخصائص كما تفتقر بعض قصائد شعرية إلى خاصة الايقاع كما تفتقر بعض القصص إلى الحوار. والواقع أن هذه الخصائص ليست قواعد، ولكنها مجرد صفات مميزة تتكرر في معظم المسرحيات ويعتبرها معظم المؤلفين المسرحيين مصدر قوة في هذا النوع الأدبي.
1ـ المسرحية بالتعريف هي فن درامي. وهذا يعني عموماً أن لها تأثيراً نفسياً انفعاليا. ويتشكل هذا التأثير غالباً في وقت مبكر من المسرحية بسؤال درامي يستحوذ على انتباه الجمهور قبل أن تصبح المسرحية واضحة بوقت طويل. والأسئلة الدرامية عادة مباشرة وبسيطة: هل يشكل هذا الغريب خطراً؟ من ينتظر هؤلاء؟ لماذا تمقت هذه الشخصيات بعضها بعضاً؟ وتتحول هذه الأسئلة الأولية في أغلب الحالات إلى صراعات محددة. وبالرغم من أن الحاجة إلى توتر كهذا ليست ملحة جداً في المسرحيات القصيرة والكوميديات إلا أنها في العادة أكثر إلحاحاً في الدراما منها في القصة أو الشعر.
على أن من الصعب أن نطيل بقاء التأثير الدرامي. ولهذا السبب تصل معظم المسرحيات إلى سلسلة من الذرى مجيزة بذلك لعواطف الجمهور أن تهدأ بين ذروة وأخرى. وهذا النظام من العمل المسرحي الصاعد والهابط لا يتبع أي قانون معين. وهو في الغالب حدسي من قبل المؤلف المسرحي ــ كما هو الحال تماماً في كتابة القصة القصيرة.
2 ـ الدراما فن بصري: فالفعل المسرحي على الخشبة عادة ما يكون جزءاً مهماً وعضوياً من العرض ككل. ولا يكفي في القرن العشرين أن تتحرك الشخصيات جيئة وذهاباً على الخشبة ملقية بالشعر على غرار ما تفعله الشخصيات في المسرح الإغريقي التقليدي. إن حركة الشخصيات على الخشبة في أغلب الأحيان تساوي في أهميتها التعبيرية أهمية السطور نفسها.
ويذهب الاهتمام بالجانب المرئي في المسرحية إلى أبعد من الشخصيات. فالديكور نفسه غالباً ما يكون جزءاً مهماً آخر في العرض. ويمكن لنظام الإضاءة المعقد أن يحيل الديكور إلى عامل ديناميكي في تطوير الجو في كل مشهد. أضف إلى ذلك أن إسقاط الصور المتحركة والثابتة على الخشبة يقوي الجانب المرئي عليها.
3 ـ الدراما فن سمعي: والكلمات في المسرحية هي حديث في المقام الأول خلافاً لما هو الحال في القصة. ويقترب الكاتب المسرحي في ذلك من الشاعر أكثر مما يقترب من الروائي. ويتعين على المؤلف المسرحي أن يقرأ ما يكتب بصوت مسموع كما يفعل الشاعر ليتعرف إلى تأثير الكلمات ووقعها.
ويدفع هذا بالبعض إلى كتابة مسرحيات شعرية. في حين أن مؤلفين آخرين يعتبرون الحوار الدرامي وسيلة لتشكيل خبرة حالمة تعتمد على الانطباعات أكثر مما تعتمد على حبكة مطورة تطويراً منطقياً. وهذه خاصة مرتبطة بمسرح اللامعقول. ويمكن أن تكون فترات الصمت بين السطور ذات مغزى كبير. ففي أعمال هارولد بنتر مثلاً تعادل فترات الصمت في أهميتها أهمية السطور ذاتهاأو تكاد.
4 ـ الدراما فن حسي: ويميل المؤلفون المسرحيون المبتدئون إلى الاعتقاد بأن هذه الخاصة قيد من القيود. فالديكور يجب أن يبنى بالخشب والمسامير. ولا يستطيع النص المسرحي أن يتجاهل مصمم الديكور وطاقم الخشبة.
ولكن يعتبر الجانب الحسي في العرض المسرحي مصدر قوة كبيرة. فعندما تقدم المسرحية بشكل واقعي فإنها تكتسب نوعاً من المصداقية المكثفة. وعندما تكون المسرحية تعبيرية فإنها تفتح الخيال لما هو إيحائي ورمزي. وهناك جملة من التقنيات التي تخلط الممثلين بالجمهور والجمهور بوهم المسرحية. وهي تقنيات لا نجد لها مثيلاً في أي نوع من الفنون الأخرى بما في ذلك السينما.
5 ـ الدراما فن متصل: يختلف جمهور المسرح عن قراء القصة أو الشعر في أنه يتلقى المسرحية بالوتيرة التي يحددها المؤلف. فهو لا يستطيع التوقف للتأمل في ملاحظة حكيمة أو حادثة مؤثرة ولا يستطيع العودة إلى صفحة سابقة أو مراجعة مشهد مضى. وهذه الخاصة لا تجعل المسرحية أفضل أو أسوأ من غيرها من الفنون، ولكنها ميزة يمكن للكاتب المسرحي أن يستفيد منها.
6 ـ الدراما فن للمشاهدة: واستجابة الجمهور على جانب كبير من الأهمية. ولعل موقف الجمهور هنا أكثر أهمية من موقف جمهور المباريات الرياضية. فالشعراء لا يهتمون باستجابة قراء قصائدهم. ومن النادر أن تجد شاعراً يغير بيتاً من قصيدةٍ, له استجابة لمقالة نقدية. والروائيون أكثر تأثراً بموقف القراء من الشعراء، فجمهورهم أوسع من جمهور الشعراء، وهم يعرفون ذلك. ولذلك فإن كثيراً من الروائيين يدخلون تعديلات واسعة أحياناً على رواياتهم استجابة لاقتراحات المحرر. توماس وولف مثلاً وضع ثقته في محرره ماكسويل بيركنز وأجاز له أن يحذف ما شاء من نصوص رواياته. وإف سكوت فيتزجيرالد ذهب إلى أبعد من ذلك فأعاد كتابة روايته (الليل الهادىء) بعد نشرها بسنوات محاولاً أن يتغلب على موقف القراء السلبي منها.
أما المؤلف المسرحي فهو أكثر تحسساً لاستجابة الجمهور. فهو قد يكون شديد التوتر بينما يجلس في مؤخرة صالة المسرح ليلة افتتاح العرض. وهو شديد التنبه لتلك اللحظات الرهيبة التي يضحك فيها الجمهور في الوقت غير المناسب أو التي يتململ فيها بدافع الضجر. وتجده يتسقط التعليقات التي يتبادلها الجمهور في أثناء فترة الاستراحة. وهو يهتم اهتماماً كبيراً ــ وربما أكثر مما يجب ــ بالمقالات النقدية التي تصدر في الصحف في اليوم التالي.
وهذا لا يعني أن المؤلف الجاد هو عبد لما يمليه عليه النقاد والجمهور. ففي أغلب الأحيان يكون للكاتب تصور أساسي للعمل يبقى بدون تغيير. ولكن لما كان الكاتب يتعامل مع عرض حي ومع جمهور يمر بخبرة جماعية فإن اهتمامه باستجابة مشاهديه أمر مشروع.
الحدود الطبيعية للدراما:
ليس هناك حدود قاطعة بين الفنون الأدبية. فالقصيدة قد تعتمد اعتماداً كبيراً على لغة رمزية غير غنائية وبذلك تغدو أقرب إلى النثر. والقصة التي تتوسع في السرد تبدو أقرب إلى المقالة. والقصة التي تعتمد على الحوار اعتماداً كبيراً تقترب من الدراما. ويبدو أن حدود أي نوع أدبي قد رسمت بناء على الأثر الذي يحدثه النوع في نفس المتلقي. وإذا اقترب الكاتب من نوع أدبي آخر فإن مسؤوليات معينة تتولد وعليه أن يأخذها بالاعتبار. ولكن من أجل أن نفهم الإمكانات الكاملة لأي نوع أدبي علينا أن نستكشف حدوده الخارجية.
من الممكن على سبيل المثال أن تقترب المسرحية من الشعر. فالمسرحيات الإغريقية قد كتبت شعراً. وكذلك الدراما الفرنسية الكلاسيكية في القرن السابع عشر. وتخيَّر شكسبير طريقاً وسطاً جاعلاً الشعر المرسل حراً تماماً ولجأ إلى النثر في حوار الشخصيات الهزلية والوضيعة. وكتب الكتاب الأمريكيون في القرن العشرين من أمثال ماكسويل أندرسون وروبرت لويل دراما شعرية لمعالجة موضوعات راهنة. وواضح من هذه الأمثلة أن استخدام الشعر في المسرحية لا يقلل من تأثيرها ولا يبطئ من وتيرتها.
ولكن تبدأ مشكلات الشعر في الدراما بالظهور عندما تقترب الأبيات من التعقيد اللفظي والمعنوي الذي نربطه غالباً بالشعر. فالدراما شكل مستمر ولا يستطيع الجمهور أن يراجع الأبيات لفهم استعارة معقدة. ولهذا السبب فإن الشعر المعقد فيها يعتبر نقطة ضعف وليس نقطة قوة. إذن يمكن أن تقترب الدراما من القصيدة، ولكن يجب أن لا نخلط بينها وبين الشعر نفسه.
وبالمثل نجد في الدراما عناصر المقالة. فتعطى الشخصيات غالباً سطوراً تبدو في القصة ذات نزعة تعليمية وتوجيهية. وقد يلجأ الكاتب المسرحي إلى هذا ضمن حدود معينة لأن النوع الدرامي ليس فيه سرد كما في القصة ولأن وتيرة الدراما أسرع من وتيرة الرواية. وتتمتع المسرحية بقوة دفع معينة تستحوذ على الجمهور من خلال مناجاة تشبه المقالة، إذا كانت هذه المناجاة ليست أطول مما يجب.
وتتوسع بعض المسرحيات في معالجة موضوعات أخلاقية أو اجتماعية أو سياسية. فمسرح المقاومة والاحتجاج، والدراما العمالية في الثلاثينات من القرن العشرين في الولايات المتحدة كما في مسرحية (بانتظار لفتي) للكاتب كليفورد أوديت مثلاً، والمسرحيات الأخلاقية في العصور الوسطى - كلها دراما هادفة بمعنى أن كلاً منها يحمل رسالة معينة ويناصرها. وكان معظمها خبرات مسرحية مؤثرة بالنسبة إلى الجمهور في ذلك الوقت.
وتتميز هذه المسرحيات بكونها مبسطة من الناحية الأدبية. وهي تعتمد على موضوعات الساعة سواء السياسية منها أو الأخلاقية. ولكن ما أن يفوت الوقت على هذه الموضوعات حتى تغدو المسرحيات عتيقة الطراز. إن مسرحية (مغزى) للكاتب سكلتون مثلاً حظيت بنجاح وافر عند أولئك الذي عانوا من تطرف الملك هنري الثامن قبل خمسمائة عام. وأمتعت مسرحية (ماكبرد) للكاتبة باربرا غارسون نقاد الرئيس الامريكي ليندون جونسون عام 1966. غير أن المسرحيتين مبنيتان على موضوعات سياسية واجتماعية لا تغري رواد المسرح اليوم بمشاهدتها.
ومن غير المفيد أن نجادل فيما إذا كان يجب على المسرحية أن تعالج قضايا اجتماعية راهنة أو أن تكون ذات رسالة كما هو الحال في المقالة أو فيما إذا كان يجب عليها أن تهتم بالموضوعات الإنسانية ذات المضامين التي لا يمكن ان ينال منها الزمن. إن لكل من هذين الاتجاهين فوائده المختلفة ويؤدي وظائف مختلفة: فالأول يؤثر في المجتمع الراهن تأثيراً محدداً، وبذلك يقوم بمهمة الإصلاح، في حين أن الثاني يتمتع بصفة الاستمرارية والبقاء والقدرة على مخاطبة الثقافات المختلفة عبر القرون.
وكما هو الحال في الدراما الشعرية هناك مشكلة ضعف التأثير. فإذا كانت المسرحية تشبه المقالة شبهاً كبيراً فإنها تفقد الوهم الدرامي الذي يجيز للجمهور أن يدخل إلى العمل المسرحي وأن يتأثر به. فيظل المشاهد خارج العمل كما لو كان يستمع إلى خطبة. وفي هذه الحال تفقد الدراما القدرة على إثارة عواطف الجمهور وذكرياته وتفقد القدرة على التعليم عن طريق المثال الحي. إذن يستطيع الكاتب المسرحي أن يتحرك باتجاه المقالة ولكنه يجب أن لا يخلط بين المسرحية والمقالة كنوعين أدبيين.
وبالرغم من أن الدراما في بعض نواحيها تشبه القصة إلا أنها تفقد الكثير من فعاليتها إذا أجيز لها أن تهيم بعيداً في هذا الاتجاه أيضاً. فالحبكات القصصية في الغالب تفتقر إلى الوحدة الدرامية الضرورية في العروض المسرحية. وهي تقفز عدة قفزات في الزمان والمكان. أما الدراما من الناحية الأخرى فتمتاز بوحدة أكبر. وهناك استثناءات كثيرة، غير أن القيود الميكانيكية للديكور والحاجة إلى الانسجام تشجع الكاتب المسرحي على جعل حبكته تتحرك في نسق تاريخي وبدون تنقل كثير في المكان.
ومن الخصائص الأخرى للقصة أنها تستعمل الخاطرة. وبإمكان الدراما الإفادة من هذه الخاصة بجعل الشخصيات تتحدث عن نفسها أو تخاطب الجمهور مباشرة أو باستخدام الجوقة أو بالاستماع إلى شريط مسجل. وعلى أي حال، تعتمد المسرحية عموماً على مصادر القوة فيها أي على الفعل المسرحي والحوار فبإمكان الجمهور التعرف إلى أفكار الشخصية بالاعتماد على ما تفعله وما تقوله. ومن شأن التعبير عن الخواطر بصورة مباشرة أن يبطئ الوتيرة في المسرحية، وهو أقل استخداماً في المسرحية مما هو في القصة.
هناك استثناءات لكل ما ذكرناه عن حدود الدراما. فالتجريب في المسرح اليوم يفوق ما كان عليه في أي وقت في التاريخ. إننا نجد مسرحيات تتحرك بحرية إلى أمام وإلى وراء زمنياً مثل أي رواية فضفاضة، كما في مسرحية (بعد السقوط) لارثر ميلر. وهناك مسرحيات لا تستفيد من العنصر البصري كما في مسرحية (المذكرات الكاملة لبرنارد ميرجينديلر) لجولز فيفر، وهي مسرحية تعرض في ظلام دامس. وهناك مسرحيات ليس فيها ممثلون كما في مسرحية (الرغبة) لبيكاسو، وهي مؤلفة من مشهد كامل يصور \"رقصة\" لجسمين متحركين.
ولكن لا شك أن العروض الحية التي تقدم على الخشبة تمتاز بمصادر قوة لا نجد لها مثيلاً في الأنواع الأدبية الأخرى. ويهتم معظم المؤلفين المسرحيين بتطوير هذه المصادر والاستفادة منها أكثر مما يهتمون بمحاكاة تلك الأنواع الأدبية.
zedhakim@yahoo.co.uk
لندن - بريطانيا