دخلت القاعة الواسعة بخطوات ملسوعة، يلاحقها لسانها الملتهـج بصباح الخير صباح الخير، توزعها آليا على زملائها الذين سبقوها إلى مكاتبهم، وبمجرد أن وصلت آخر القاعة، مكان مكتبها؟ ألقت بحقيبتها فوقه، ويجسدها المنهك على الكرسي الخشبي القديم، المتبقي كتذكار حي من زمن تغلغل النفوذ الأجنبي في البلاد، قبل تأميم البنك في العهـد الجمهوري.
زفرت أنفاسا عميقة، وهي تحمد الله على وصولها في اللحظة المناسبة، الثامنة والنصف إلا دقيقتين، فختمت بطاقة الحضور بساعة التوقيت، دون أي تأخير، بينما راحت تلعن في قرارة نفسها هذه الآلة التي لا ترحم ولا تغفر في الوقت، وبهذه الزفرات، يمكن القول إنها اجتازت البرزخ اليومي الفاصل بين السادسة والنصف، والثامنة والنصف، لتخرج من دنيا إعداد الفطور وتجهـيز الأولاد للمدرسة، إلى عداد المشتغلين بالأرقام والحسابات، والمكائد والصراعات اليومية الصغيرة في البنك.
شرعت في العمل فورا، ففتحت دفتر تحصيل الشركات، لكن ذلك لم يمنعها من فتح حقيبتها بسرعة، وتسديد نظرة أولية خاطفة إلى وجهها عبر المرآة الصغيرة المثبتة بداخلهـا، وعمل حركة تسوية سريعة للشعر بأناملها، وهي تطبق شفتيها بقوة في محاولة مخلصة لتثبيت احمر الشفاه، ربما تصلح ما أفسده الاحتكاك بظهور الركاب، أثناء مزاحماتهم للعثور على موضع قدم في الأتوبيس الذي يقلها إلى العمل.
فتحت القلم، قلبت في الدفتر حتى آخر صفحة انتهـت عندها في اليوم الفائت، بدأت تدون أسماء الشركات، ومبالغ التحصيل، تذكرت أثناء ذلك، إنها نسيت طلب قهوتها الصباحية من الساعي، وهذا معناه الانتظار حتى يدخل حاملا مشروبا لأحد الزملاء فتطلبها منه، تنهـدت ثم عطست ومدت يدها إلى حقيبتها لتخرج منديلا تمسح أنفها به، بينما تنظر إلى الأستاذ زميلها سيد عبدالمعبود بضيق، إذ كان دخان سيجارته يعبر بنجاح ثلاثة مكاتب قبل أن يصل إلى أنفها ويقتحم فتحتيه بهدوء.
مرت حوالي الساعة، قبل أن يرن جرس الهاتف على مكتب الرئيس في القاعة، ليرفع السماعة؟ ثم ينادى بصوت قطة تحتضر: مدام ناهد فوزي.
لم تسمعه، لأن موقعها في نهاية القاعة لا يسمح بذلك، لكن بما أن زميلتها نادية عباس في قسم "الكمبيالات" قد سمعته فقد أبلغتها بسرعة، لتهب على الفور وهي قلقة، لأنها لا تتوقع هاتفا صباحيا كهذا، فأولادها في المدرسة، وزوجها يراقب حالة الجو في مصلحة الأرصاد كالمعتاد، ويدلي بنتائج عكسية عن هذه الحالة كالمعتاد أيضا. قالت لنفسها وهي تتحرك في اتجاه مكتب الرئيس: اللهم واجعله خير، يارب استر.
أمسكت بسماعة الهاتف، نطقت بصوت حاولت أن يكون هادئا طبيعيا.. آلو، رد عليها من الطرف الآخر صوت رجولي جاد يقول: مدام ناهد فوزي.. أنا فتحي المنشاوي، ربما إنك لم تسمعي اسمي من قبل، أنا منتج سينمائي، قرأت قصتك المنشورة يوم الخميس، من حوالي أسبوع في مجلة حكايات الناس، وأعجبت بها جدا، أريد أن أتعرف على حضرتك، وأتكلم معك في موضوع لم تعرف بماذا ترد، قالت له: "شكراً، شكرا، الله يخليك"، بينـما هي تدور بنظراتها في المكان، شعرت أن أذني الرئيس القابع على مكتبه وآذان قسم "الكامبيو"، و"الشبكات"، "والكمبيالات"، قد بدأت جميعا تتجمع لتطبق على سماعة الهاتف، راحت تخفض صوتها وهي تقول: يا أهلا.. طيب، حضرتك تفضل شرفني في البيت بكل سرور، أو أحضر إلى مكتبك في الغد، كما تشاء.
لم يفكر الرجل كثيراً، قال لها أنه سيأتي إليها في البيت ليوفر عليها مشقة الذهاب إليه، أعطته عنوانها، شكرته، شكرها ثم أنهت المكالمة، وتحركت مرة أخرى لتواصل ما انقطع مع دفتر الشركات.
بينما هي تتابع بعينيها الأرقام، كان يدور برأسها سيناريو المكالمة الهاتفية وهي أسبوع، أن تلفت لقصتها التي نشرت بالمصادفة من أسبوع، أن تلفت انتباه منتج سينمائي، فيتحدث معها في الهاتف بسببها، فكرت لعله يريد تحويلها إلى فيلم أو ربما أراد مناقشتها في الأفكار التي جاءت فيها، أخذها الشغف، لأن كتابة القصص عادة سرية نادرة لديها تمارسها على فترات متباعدة كلما خلا البيت من الزوج والأولاد زوجها عثر ذات مرة بالمصادفة على قصة كتبتها، لم يقرأها بالطبع، لكنه ساما عنها، فلما أخبرته علق وهو يبتسم : "والنبي انت دماغك فارغ". لم ترد ولم تغضب فزوجها لا يفهم في القصص ولا يحبها، مثلما لا يحب القراءة وهو بالكاد يقرأ صفحة الرياضة في جريدة الصباح لكن هذا القصة التي لم يقـرأها الزوج، قرأها آلاف الناس، بعد أن أعطتها على سبيل المزاح لابن عمتها الصحفي ليقرأها ويقول لا رأيه فيها، لكن ابن العمة العزيز قال رأيه بطريقة لم تتوقعها أبدا، إذ قام بنشر القصة في المجلة الأسبوعية التي يعمل بها، وها هو منتج في السينما يتصل بها ويقول لها إنه يريد مقابلتها بسبب هذه القصة.
لم تعرف كيف مر يوم العمل درن ملل على هذا النحو الذي شعرت به، وكأن ساعاته مرت بسرعة غريبة وها هي تسرع الخطى مرة أخرى خارجة من البنك، بعد أن ختمت ساعة الوقت في الثانية والنصف تماما، لتلحق بالأتوبيس قبل فواته، فيفوتها معه ميعاد طفلها الصغير في الحضانة عند الثالثة والربع تماما.
وصلت في الوقت المناسب أحضرت الطفل، عادت به إلى البيت، خلعت حذاءها على عجل، اندفعت إلى المطبخ، ففتحت الثلاجة، لتخرج وعاء الأرز وتضعه على النار، ليسخن قبل عودة زوجها وبقية الأبناء من المدرسة هيأت طاولة الطعام قبل دخول زوجها من الباب بقليل، ألقى إليها بالسلام، وهو يركن حقيبته إلى جوار الباب، توجه إلى الحمام ليغسل يديه وهي عادة اكتسبهـا من أيام الابتدائي، بعد أن حفظ التعليمات المدونة كلى الغلاف الأخير لكراسات وزارة المعارف العمومية عاد والتحق بالجميع المتحلقين حول مائدة الطعام، وقبل أن يمضغ المضغة الأولى من اللقمة، كانت تخبرها بما دارا في المكالمة الهاتفية بينهـا وبين فتحي المنشاوي. ابتلع الزوج الطعام ولم يرد، فحاولت دفعه للكلام وهي تقول له: تصور، أول قصة أنشرها، يعجب بها منتج سينمائي، شيء رائع. نظر إليها وهو يقول بتحفظ: حظوظ، ثم انهمك مره أخرى في لحظاته اليومية الخالدة: تناول الطعام.
وبالرغم من إنها قالت له أن المنتج سيأتي إليها ليزورها في البيت في الثامنة مساء، إلا أن الزوج لم يبد ترحيبا، مثلما لم يبد امتعاضا فهو ليس من النوع المتحرر نوعا، ولا من النوع المحافظ أيضا ربما لذلك السبب، وبسبب أنه من النوع الإنساني البارد، والمشغول دوما بعمله، وبهموم أخواته البنات الخمس، المطالب برعاية شئونهن بعد وفاة أبيه، فقد اكتفى بأن قال لها: طيب. ولم تفلح محاولاتها المستميتة لإبقائه في البيت عند الثامنة ليشاركها استقبال فتحي المنشاوي، إذ تذرع بها هو أهم مقابلة أرمل تقدم، لخطة أخته الثالثة أو العقبة الكأداء المانعة لزواج ما تلاها من بنات إذا ظل حالها عما هو عليه بدرن زواج.
منذ انتهاء الغداء وحتى الساعة الثامنة، وبذلت ناهد جهودا مضنية، تمهـيدا لاستقبال فتحي المنشاوي، فهي أولا غسلت صحون ما بعد الإفطار، وما بعد الغداء ثم أعدت الشاي الخفيف لرجل الأرصاد المنبطح أثناء ذلك على السرير، بينما يقوم ابنه الصغير بعمل جولات قصيرة على ظهره تخفيفا لآلامه، ولأنها اكتشفت أن الشمس تفكر في الرحيل، فقد سارعت بإخراج الغسيل من الغسالة ونشر على الحبال، بعد ذلك اضطرت لأن تجلس مع الابن الأوسط لتشرح له درس الطرح بالاستلاف، وبعد جهد مضن، فهم الابن كيف يأخذ تسعة من خمسة، بعد أن يستأذن من الستة التي تجاورها فتعطيه واحداً.
الابن الأصغر، نال نصيبه من وقت ما قبل الثامنة وكان هذا النصيب مكونا من شقين: الأول، علقة متوسطة الوجع، بسبب تلوينه لملابسه ووجهه بألوان الفلوماستر، بعد مغافلة أخيه الكبير وسرقتها من حقيبته، أما الشق الآخر، فكان حماما ساخنا بالماء وصابون النابلسي الذي يكرهه، وقد تخلل ذلك عشرات من كلمات التوبيخ، والنصائح التي لن يأخذ بها، رددتها على مسامعه وهي حانقة عليه وعلى الدنيا كلها. عندما خرجت من الحمام، تلقت مكالمة هاتفية عاجلة من أختها الكبرى، لتسألها عن طريقة عمل مربى الكمثرى، لأن زوجها ضابط الشرطة، أتحفها بقفص كامل من تلك الثمار، بعد أن أهداه له أحد تجار الفاكهة على سبيل الشكر والمكافأة، لأن الزوج قبض على اللصوص سرقوا بضاعة من التاجر في السوق.
في السادسة والنص، تمنت أن تلقي بنفسها على السرير، أو حتى على كرمة قش لتستريح قليلا، لكن ما أن همت بدخول حجرة النوم، التي كان قد سبقها إليها زوجها منذ فترة، حتى رن جرس الباب، واتضح أن الطارق هو السباك الذي جاء في واقعة غير مسبوقة، بالميعاد المتفق عليه معه منذ بضعة أيام. كان عليها أن تقوده إلى الحمام، وتتابع عمله في إصلاح السخان. وبعد محاولات متكررة أعلن السباك لها أنه لا بد من تغيير الخلاط بكامله، وكان ذلك يعني بالنسبة لها أنها ستضطر لأخذ حمام بارد قبل لقائها بفتحي المنشاوي، لأن السباك قرر أنه سيغير الخلاط في الغد بعد أن يأتي بواحد جديد.
زفرت بألم، فالوقت أزف، وهي لن تستطيع الاستلقاء قليلا قبل حضور الضيف الغريب. دخلت الحمام، تحممت بسرعة، وخرجت لتمشط شعرها، وبينما هي تدخل نفسها في فستان يصل طوله إلى منتصف الساق درءا لأي محاولة محتملة من فتحي المنشاوي للتطلع إلى ساقيها، اكتشفت أن ما تبقى لها من وقت لن يسمح إلا بإعداد عصير الليمون الطازج الذي ستقدمه للضيف، ثم بعده القهوة. آه البن ... قالت لنفسها وهي تتذكر برنامج المشروبات، ثم صرخت بصوت عال لزوجها الذي كان قد بدأ يفيق من نعاسه في السرير: "صار لي أسبوع وأنا طالبة أنك تشتري البن يا عبدالعزيز.. صوتي بح دون فائدة وأنت ولا كأنك هنا.. والله حرام... حرام يا شيخ".
خرجت بسرعة إلى غرفة المعيشة، طلبت من الولد الكبير الذي كان يتابع التلفزيون أن ينزل بسرعة إلى البقال ويشتري البن، لكن الابن رفض، متذرعا بأنه يتابع مباراة ملاكمة مهمة لم تبث من قبل، رجته، رفض، استشاطت غضبا، أغلقت الجهاز وهي تسبه، امتثل أخيرا بعد أن جاءه صوت أبيه من الداخل: انزل يا علي واسمع كلام أمك، وهات معك علبة سجائر كبيرة.
في الثامنة وعشر دقائق، وصل السيد فتحي المنشاوي يتهادى، استقبلته بترحاب وخجل، بدا لها رجلا وقورا، لكن أناقته المتزايدة والعطر الفواح منه، جعلاها ترتبك بعض الشيء، حدثها عن قصتها، قال لها أن ما أعجبه فيها اهتمامها بالتفاصيل الصغيرة، والسلاسة التي تعبر بها، شعرت بخجل أكثر فهي تخجل من الإطراء عادة، لكنها تنبهت وهو يطلب منها أن تكتب له قصة للسينما، قصة خصيصا تصلح لأن تكون فيلما سينمائيا، يعبر عن حياة الناس وهمومهم، وتحديدا النساء منهم، فهو متعاطف جدا مع النساء ومع المرأة وهمومها، وقال لها أن شعر بعد قراءة قصتها، أنها الوحيدة القادرة على كتابة ما يريده، والتعبير عنه على نحو دقيق.
كانت فرحة جدا، ومأخوذا للغاية، بينما هو يقود "لها ذلك، لكنها نظرت إليه طويلا وهو يسألها: هل تكتبين القصص كثيرا، لماذا لا تكتبين القصص دائما؟ فكرت وكأنها تسأل نفسها ذلك السؤال لأول مرة، تنهدت تقول له، أنا أحب كتابة القصص كثيرا، لكني لا أجد الوقت اللازم لعمل ذلك، فأنه مشغولة دائما في البنك، والبيت والأولاد، ثم أني أنجبت الطفل الثاني، حتى لا يكون الأول وحيدا مقطوعا في الدنيا عندما يكبر، لكن الثاني جاء ذكرا، برغم حلمي الدائم بأن يرزقني الله بابنة، لذلك وبرغم ما عانيته من صعاب أثناء الحمل فإنني كنت سعيدة جدا، لأن الطبيب أنبأني بأني سألد بنتا، وهكذا جهزت كل مستلزمات المولود على أساس أنه سوف تكون بنتا، لكن المفاجأة كانت إنجابي لولد آخر. هاهاها.
ضحك المنشاوي أيضاً. وقال أن الأطباء يخطئون أحيانا، والغيب لا يعلمه إلا الله وحده لكن المهم هو أنها لا تعيد الكرة مرة أخرى، فثلاثة أولاد نعمة ورضى من الله ابتسمت بخجل وهي تقول: وهل أنا مجنونة؟
شرب المنشاوي الليمون، وعقبه بالقهوة سكر خفيف ووعدها بان يتصل بها في أقرب فرصة، كما وعدته أن تكتب له قصة بأسرع ما تستطيع. مر شهران كان السيد فوزي خلالهما يتصل بالسيدة ناهد، والسيدة ناهد تكتب القصص وتعرضها على السيد فوزي، لكن السيد فوزي لا يرضى عما تكتبه السيدة ناهد ويطلب منها تعديلا في القصص، فهو مرة يقول لها: ولكن لماذا تحمل البطلة في النهاية؟ ويتساءل بدهشة، ولماذا نعمل مدرسة للعلوم؟ وكان أحيانا ينسف الفكرة من أساسها بجملة واحدة إذ يقو: مستحيل أن أنتج قصة على هذا النحو... مستحيل.
أثناء ذلك الوقت، أكل الزوج والأولاد الكثير من السالمون المعلب، الشبيه بجثث فرعونية محنطة، وظلت البطاطس المحمرة مع السلاطة الخضراء، وجبة إجبارية متكررة بسبب الظروف السينمائية الطارئة، وبالطبع احترق طعام وغلى اللبن حتى الفوران أكثر من مرة حتى أطفأ شعلة موقد الغاز، بينما كانت الأستاذة ناهد تناقش السيد فتحي على الهاتف عن ضرورة أن تكون البطلة يتيمة الأم والأب بلا زوج أو أبناء.
خلال احتراق الطعام، والكتابة، والكلام عبر الهاتف، كانت تحترق ببطء أعصاب ناهد فوزي، فالسيد فتحي المنشاوي، كان يحتاج في مواجهته إلى جهاز عصبي عالي القوى، حتى يواجه محاجاته ومحاوراته وجدله الجدير بأن يجعله عضوا كبيرا في نادى بيزنطة، وقد ترتب على حروق الجهاز العصبي، ضرب يفضي إلى زعيق وصراخ للعيال، حتى أن الزوج البارد انفعل ذات مرة، وذلك من الحوادث النادرة في تاريخ جهازه العصبي وطلب منها الكف عن أذى العيال، كما أنه لفت نظرها إلى أن الخضار المطبوخ، ألذ وأفيد وأوفر من السالمون، أما أختها الكبرى فقد خاصمتها لأن مربى الكمثرى لم تكن على ما يرام فقد دلتها على طريقة عملها بسرعة، ونسيت أن تشير عليها بضرورة تقشيرها أولا، لكن على أية حال لم تكن هذه هي الأحداث المأساوية الأهم بالنسبة لناهد، لكن الحدث الجلل، كان خصم خمسة أيام من راتبها، ولأول مرة في تاريخها الوظيفي، بسبب أخطاء فادحة في حساباتها الدفترية، وتحديدا دفتر الشركات.
ذات يوم، وفي نهاية الشهرين، جاءها السيد فتحي المنشاوي غاضبا جدا وقال لها: انت لست مهتمة بكتابة القصة، انت لا تأخذينها على محمل الجد، في الحقيقة انت هاوية تتعاملين مع الكتابة كلما وجدت فراغا من الوقت.. لكنك أضعت وقتي، لقد كنت أراهن على جواد خاسر.
السيدة ناهد لم تغضب من كلمات السيد فتحي، لكنها كانت مدهوشة جدا بسبب انفعاله الشديد وهو يقول لها ذلك، فكرت أن تناقشه، تقول له عن كلام زوجها وضرب العيال وخصام أختها وكارثة الخمسة أيام، لكنها اكتشفت أنه لن يفهـم ذلك.. والحوار معه بلا معنى أو جدوى فهو يأتي إليها كثيرا، لكنه لا يراها، يحادثها طويلا في الهاتف، لكنه لا يسمعها، لذلك اكتفت بالنظر إليه والابتسام، بينما كانت تدور برأسهـا فكرة لكتابة قصة جديدة عندما انصرف في ذلك اليوم ضربت الأولاد أنهما لم يكونوا مهذبين كما يجب أثناء وجوده، خصوصا الأوسط الذي راح ينط فوق كرسي الصالون. وفي المساء بدت حانقة جدا على عبدالعزيز، لأنه يهتم بأخواته البنات أكثر مما يهتم بها وبأسرته، أما رئيسها في البنك فقد تمنت أن تأخذه داهية من الدواهي، لم تحددها بدقة. جام غضبها صبته على شركات تعبئة الخضراوات الطازجة فهي تبيع منتجاتها بسعر باهظ جدا، أدى لأن ينطق عبدالعزيز الساكت دوما ويحتج على السالمون والبطاطس المحمرة.
قبل أن تنام، راحت تمارس عادتها اليومية التي لم تتغير منذ إنجاب ابنها الأول، وهي قراءة الجريدة في الفراش، قلبت الصفحات، مرت بعينيهـا مرور الكرام على صفحات الكرة الوفيات، قرأت ببرود عنوانا لمقال: لماذا تراجعت المرأة عن المساهمة في العمل السياسي؟ توقفت قليلا عند إعلان، هدية شركة براون لكل سيدة عصرية: ماكينة إزالة الشعر من الجذور بخمسة وسبعين جنيها تنهدت ثم طوحت بالجريدة بعيدا عنها وانزلقت بجسدها في الفراش ونامت. في الصباح، وهي واقفة تدهس الفول بالشوكة للأولاد، لتضعه في السندوتشات، راحت تحكى لعبدالعزيز وهو منهمك في تقليب الشاي عن حلمهـا في الليلة الفائتة، كانت تضحك بسعادة وهي تقول له: تصور يا عبدالعزيز، كانت شروط العقد معه، أن يقوم هو بغسل الصحون والذهاب إلى البنك، وضرب العيال، ولف شعره بالرولو كل ليلة قبل النوم، بينما أقوم أنا بكتابة القصة، تصور يا عبدالعزيز، كنت أقرأ ذلك بجد شديد ولم اضحك بينما كان هو يبكي ويقول لي: طيب لا داعي لحكاية لف الشعر في الليل، لأني لن أستطيع النوم بالرولو، لكنى أصررت وقلت له: مستحيل، شعرك خشن، ولازم يكون شكله حلو في الصبح، مستحيل أن تخرج من البيت وتروح في البنك وشعرك منكوش.. ها ها.
نظر إليها عبدالعزيز بهدوء وهو يرتشف الشاي، لم يضحك بالطبع بسبب استجابة جهازه العصبي الضعيفة لمثل هذه المواقف، واكتفى بأن قال لها.
كلها هلوسات أحلام، قلت لك خمسين مرة، انتظري ساعة بعد العشاء، قبل النوم يا الله، انسي، الموضوع راح لحالي سبيله. شرب الشاي، وودعها ليخرج إلى الأرصاد، وبينما كان يغلق باب الشقة خلفه، ساءلت نفسها وهي مستمرة في دهس حبات الفول: لماذا لا يكتب عبدالعزيز القصص؟.
سلوى بكر
ابريل 1995
زفرت أنفاسا عميقة، وهي تحمد الله على وصولها في اللحظة المناسبة، الثامنة والنصف إلا دقيقتين، فختمت بطاقة الحضور بساعة التوقيت، دون أي تأخير، بينما راحت تلعن في قرارة نفسها هذه الآلة التي لا ترحم ولا تغفر في الوقت، وبهذه الزفرات، يمكن القول إنها اجتازت البرزخ اليومي الفاصل بين السادسة والنصف، والثامنة والنصف، لتخرج من دنيا إعداد الفطور وتجهـيز الأولاد للمدرسة، إلى عداد المشتغلين بالأرقام والحسابات، والمكائد والصراعات اليومية الصغيرة في البنك.
شرعت في العمل فورا، ففتحت دفتر تحصيل الشركات، لكن ذلك لم يمنعها من فتح حقيبتها بسرعة، وتسديد نظرة أولية خاطفة إلى وجهها عبر المرآة الصغيرة المثبتة بداخلهـا، وعمل حركة تسوية سريعة للشعر بأناملها، وهي تطبق شفتيها بقوة في محاولة مخلصة لتثبيت احمر الشفاه، ربما تصلح ما أفسده الاحتكاك بظهور الركاب، أثناء مزاحماتهم للعثور على موضع قدم في الأتوبيس الذي يقلها إلى العمل.
فتحت القلم، قلبت في الدفتر حتى آخر صفحة انتهـت عندها في اليوم الفائت، بدأت تدون أسماء الشركات، ومبالغ التحصيل، تذكرت أثناء ذلك، إنها نسيت طلب قهوتها الصباحية من الساعي، وهذا معناه الانتظار حتى يدخل حاملا مشروبا لأحد الزملاء فتطلبها منه، تنهـدت ثم عطست ومدت يدها إلى حقيبتها لتخرج منديلا تمسح أنفها به، بينما تنظر إلى الأستاذ زميلها سيد عبدالمعبود بضيق، إذ كان دخان سيجارته يعبر بنجاح ثلاثة مكاتب قبل أن يصل إلى أنفها ويقتحم فتحتيه بهدوء.
مرت حوالي الساعة، قبل أن يرن جرس الهاتف على مكتب الرئيس في القاعة، ليرفع السماعة؟ ثم ينادى بصوت قطة تحتضر: مدام ناهد فوزي.
لم تسمعه، لأن موقعها في نهاية القاعة لا يسمح بذلك، لكن بما أن زميلتها نادية عباس في قسم "الكمبيالات" قد سمعته فقد أبلغتها بسرعة، لتهب على الفور وهي قلقة، لأنها لا تتوقع هاتفا صباحيا كهذا، فأولادها في المدرسة، وزوجها يراقب حالة الجو في مصلحة الأرصاد كالمعتاد، ويدلي بنتائج عكسية عن هذه الحالة كالمعتاد أيضا. قالت لنفسها وهي تتحرك في اتجاه مكتب الرئيس: اللهم واجعله خير، يارب استر.
أمسكت بسماعة الهاتف، نطقت بصوت حاولت أن يكون هادئا طبيعيا.. آلو، رد عليها من الطرف الآخر صوت رجولي جاد يقول: مدام ناهد فوزي.. أنا فتحي المنشاوي، ربما إنك لم تسمعي اسمي من قبل، أنا منتج سينمائي، قرأت قصتك المنشورة يوم الخميس، من حوالي أسبوع في مجلة حكايات الناس، وأعجبت بها جدا، أريد أن أتعرف على حضرتك، وأتكلم معك في موضوع لم تعرف بماذا ترد، قالت له: "شكراً، شكرا، الله يخليك"، بينـما هي تدور بنظراتها في المكان، شعرت أن أذني الرئيس القابع على مكتبه وآذان قسم "الكامبيو"، و"الشبكات"، "والكمبيالات"، قد بدأت جميعا تتجمع لتطبق على سماعة الهاتف، راحت تخفض صوتها وهي تقول: يا أهلا.. طيب، حضرتك تفضل شرفني في البيت بكل سرور، أو أحضر إلى مكتبك في الغد، كما تشاء.
لم يفكر الرجل كثيراً، قال لها أنه سيأتي إليها في البيت ليوفر عليها مشقة الذهاب إليه، أعطته عنوانها، شكرته، شكرها ثم أنهت المكالمة، وتحركت مرة أخرى لتواصل ما انقطع مع دفتر الشركات.
بينما هي تتابع بعينيها الأرقام، كان يدور برأسها سيناريو المكالمة الهاتفية وهي أسبوع، أن تلفت لقصتها التي نشرت بالمصادفة من أسبوع، أن تلفت انتباه منتج سينمائي، فيتحدث معها في الهاتف بسببها، فكرت لعله يريد تحويلها إلى فيلم أو ربما أراد مناقشتها في الأفكار التي جاءت فيها، أخذها الشغف، لأن كتابة القصص عادة سرية نادرة لديها تمارسها على فترات متباعدة كلما خلا البيت من الزوج والأولاد زوجها عثر ذات مرة بالمصادفة على قصة كتبتها، لم يقرأها بالطبع، لكنه ساما عنها، فلما أخبرته علق وهو يبتسم : "والنبي انت دماغك فارغ". لم ترد ولم تغضب فزوجها لا يفهم في القصص ولا يحبها، مثلما لا يحب القراءة وهو بالكاد يقرأ صفحة الرياضة في جريدة الصباح لكن هذا القصة التي لم يقـرأها الزوج، قرأها آلاف الناس، بعد أن أعطتها على سبيل المزاح لابن عمتها الصحفي ليقرأها ويقول لا رأيه فيها، لكن ابن العمة العزيز قال رأيه بطريقة لم تتوقعها أبدا، إذ قام بنشر القصة في المجلة الأسبوعية التي يعمل بها، وها هو منتج في السينما يتصل بها ويقول لها إنه يريد مقابلتها بسبب هذه القصة.
لم تعرف كيف مر يوم العمل درن ملل على هذا النحو الذي شعرت به، وكأن ساعاته مرت بسرعة غريبة وها هي تسرع الخطى مرة أخرى خارجة من البنك، بعد أن ختمت ساعة الوقت في الثانية والنصف تماما، لتلحق بالأتوبيس قبل فواته، فيفوتها معه ميعاد طفلها الصغير في الحضانة عند الثالثة والربع تماما.
وصلت في الوقت المناسب أحضرت الطفل، عادت به إلى البيت، خلعت حذاءها على عجل، اندفعت إلى المطبخ، ففتحت الثلاجة، لتخرج وعاء الأرز وتضعه على النار، ليسخن قبل عودة زوجها وبقية الأبناء من المدرسة هيأت طاولة الطعام قبل دخول زوجها من الباب بقليل، ألقى إليها بالسلام، وهو يركن حقيبته إلى جوار الباب، توجه إلى الحمام ليغسل يديه وهي عادة اكتسبهـا من أيام الابتدائي، بعد أن حفظ التعليمات المدونة كلى الغلاف الأخير لكراسات وزارة المعارف العمومية عاد والتحق بالجميع المتحلقين حول مائدة الطعام، وقبل أن يمضغ المضغة الأولى من اللقمة، كانت تخبرها بما دارا في المكالمة الهاتفية بينهـا وبين فتحي المنشاوي. ابتلع الزوج الطعام ولم يرد، فحاولت دفعه للكلام وهي تقول له: تصور، أول قصة أنشرها، يعجب بها منتج سينمائي، شيء رائع. نظر إليها وهو يقول بتحفظ: حظوظ، ثم انهمك مره أخرى في لحظاته اليومية الخالدة: تناول الطعام.
وبالرغم من إنها قالت له أن المنتج سيأتي إليها ليزورها في البيت في الثامنة مساء، إلا أن الزوج لم يبد ترحيبا، مثلما لم يبد امتعاضا فهو ليس من النوع المتحرر نوعا، ولا من النوع المحافظ أيضا ربما لذلك السبب، وبسبب أنه من النوع الإنساني البارد، والمشغول دوما بعمله، وبهموم أخواته البنات الخمس، المطالب برعاية شئونهن بعد وفاة أبيه، فقد اكتفى بأن قال لها: طيب. ولم تفلح محاولاتها المستميتة لإبقائه في البيت عند الثامنة ليشاركها استقبال فتحي المنشاوي، إذ تذرع بها هو أهم مقابلة أرمل تقدم، لخطة أخته الثالثة أو العقبة الكأداء المانعة لزواج ما تلاها من بنات إذا ظل حالها عما هو عليه بدرن زواج.
منذ انتهاء الغداء وحتى الساعة الثامنة، وبذلت ناهد جهودا مضنية، تمهـيدا لاستقبال فتحي المنشاوي، فهي أولا غسلت صحون ما بعد الإفطار، وما بعد الغداء ثم أعدت الشاي الخفيف لرجل الأرصاد المنبطح أثناء ذلك على السرير، بينما يقوم ابنه الصغير بعمل جولات قصيرة على ظهره تخفيفا لآلامه، ولأنها اكتشفت أن الشمس تفكر في الرحيل، فقد سارعت بإخراج الغسيل من الغسالة ونشر على الحبال، بعد ذلك اضطرت لأن تجلس مع الابن الأوسط لتشرح له درس الطرح بالاستلاف، وبعد جهد مضن، فهم الابن كيف يأخذ تسعة من خمسة، بعد أن يستأذن من الستة التي تجاورها فتعطيه واحداً.
الابن الأصغر، نال نصيبه من وقت ما قبل الثامنة وكان هذا النصيب مكونا من شقين: الأول، علقة متوسطة الوجع، بسبب تلوينه لملابسه ووجهه بألوان الفلوماستر، بعد مغافلة أخيه الكبير وسرقتها من حقيبته، أما الشق الآخر، فكان حماما ساخنا بالماء وصابون النابلسي الذي يكرهه، وقد تخلل ذلك عشرات من كلمات التوبيخ، والنصائح التي لن يأخذ بها، رددتها على مسامعه وهي حانقة عليه وعلى الدنيا كلها. عندما خرجت من الحمام، تلقت مكالمة هاتفية عاجلة من أختها الكبرى، لتسألها عن طريقة عمل مربى الكمثرى، لأن زوجها ضابط الشرطة، أتحفها بقفص كامل من تلك الثمار، بعد أن أهداه له أحد تجار الفاكهة على سبيل الشكر والمكافأة، لأن الزوج قبض على اللصوص سرقوا بضاعة من التاجر في السوق.
في السادسة والنص، تمنت أن تلقي بنفسها على السرير، أو حتى على كرمة قش لتستريح قليلا، لكن ما أن همت بدخول حجرة النوم، التي كان قد سبقها إليها زوجها منذ فترة، حتى رن جرس الباب، واتضح أن الطارق هو السباك الذي جاء في واقعة غير مسبوقة، بالميعاد المتفق عليه معه منذ بضعة أيام. كان عليها أن تقوده إلى الحمام، وتتابع عمله في إصلاح السخان. وبعد محاولات متكررة أعلن السباك لها أنه لا بد من تغيير الخلاط بكامله، وكان ذلك يعني بالنسبة لها أنها ستضطر لأخذ حمام بارد قبل لقائها بفتحي المنشاوي، لأن السباك قرر أنه سيغير الخلاط في الغد بعد أن يأتي بواحد جديد.
زفرت بألم، فالوقت أزف، وهي لن تستطيع الاستلقاء قليلا قبل حضور الضيف الغريب. دخلت الحمام، تحممت بسرعة، وخرجت لتمشط شعرها، وبينما هي تدخل نفسها في فستان يصل طوله إلى منتصف الساق درءا لأي محاولة محتملة من فتحي المنشاوي للتطلع إلى ساقيها، اكتشفت أن ما تبقى لها من وقت لن يسمح إلا بإعداد عصير الليمون الطازج الذي ستقدمه للضيف، ثم بعده القهوة. آه البن ... قالت لنفسها وهي تتذكر برنامج المشروبات، ثم صرخت بصوت عال لزوجها الذي كان قد بدأ يفيق من نعاسه في السرير: "صار لي أسبوع وأنا طالبة أنك تشتري البن يا عبدالعزيز.. صوتي بح دون فائدة وأنت ولا كأنك هنا.. والله حرام... حرام يا شيخ".
خرجت بسرعة إلى غرفة المعيشة، طلبت من الولد الكبير الذي كان يتابع التلفزيون أن ينزل بسرعة إلى البقال ويشتري البن، لكن الابن رفض، متذرعا بأنه يتابع مباراة ملاكمة مهمة لم تبث من قبل، رجته، رفض، استشاطت غضبا، أغلقت الجهاز وهي تسبه، امتثل أخيرا بعد أن جاءه صوت أبيه من الداخل: انزل يا علي واسمع كلام أمك، وهات معك علبة سجائر كبيرة.
في الثامنة وعشر دقائق، وصل السيد فتحي المنشاوي يتهادى، استقبلته بترحاب وخجل، بدا لها رجلا وقورا، لكن أناقته المتزايدة والعطر الفواح منه، جعلاها ترتبك بعض الشيء، حدثها عن قصتها، قال لها أن ما أعجبه فيها اهتمامها بالتفاصيل الصغيرة، والسلاسة التي تعبر بها، شعرت بخجل أكثر فهي تخجل من الإطراء عادة، لكنها تنبهت وهو يطلب منها أن تكتب له قصة للسينما، قصة خصيصا تصلح لأن تكون فيلما سينمائيا، يعبر عن حياة الناس وهمومهم، وتحديدا النساء منهم، فهو متعاطف جدا مع النساء ومع المرأة وهمومها، وقال لها أن شعر بعد قراءة قصتها، أنها الوحيدة القادرة على كتابة ما يريده، والتعبير عنه على نحو دقيق.
كانت فرحة جدا، ومأخوذا للغاية، بينما هو يقود "لها ذلك، لكنها نظرت إليه طويلا وهو يسألها: هل تكتبين القصص كثيرا، لماذا لا تكتبين القصص دائما؟ فكرت وكأنها تسأل نفسها ذلك السؤال لأول مرة، تنهدت تقول له، أنا أحب كتابة القصص كثيرا، لكني لا أجد الوقت اللازم لعمل ذلك، فأنه مشغولة دائما في البنك، والبيت والأولاد، ثم أني أنجبت الطفل الثاني، حتى لا يكون الأول وحيدا مقطوعا في الدنيا عندما يكبر، لكن الثاني جاء ذكرا، برغم حلمي الدائم بأن يرزقني الله بابنة، لذلك وبرغم ما عانيته من صعاب أثناء الحمل فإنني كنت سعيدة جدا، لأن الطبيب أنبأني بأني سألد بنتا، وهكذا جهزت كل مستلزمات المولود على أساس أنه سوف تكون بنتا، لكن المفاجأة كانت إنجابي لولد آخر. هاهاها.
ضحك المنشاوي أيضاً. وقال أن الأطباء يخطئون أحيانا، والغيب لا يعلمه إلا الله وحده لكن المهم هو أنها لا تعيد الكرة مرة أخرى، فثلاثة أولاد نعمة ورضى من الله ابتسمت بخجل وهي تقول: وهل أنا مجنونة؟
شرب المنشاوي الليمون، وعقبه بالقهوة سكر خفيف ووعدها بان يتصل بها في أقرب فرصة، كما وعدته أن تكتب له قصة بأسرع ما تستطيع. مر شهران كان السيد فوزي خلالهما يتصل بالسيدة ناهد، والسيدة ناهد تكتب القصص وتعرضها على السيد فوزي، لكن السيد فوزي لا يرضى عما تكتبه السيدة ناهد ويطلب منها تعديلا في القصص، فهو مرة يقول لها: ولكن لماذا تحمل البطلة في النهاية؟ ويتساءل بدهشة، ولماذا نعمل مدرسة للعلوم؟ وكان أحيانا ينسف الفكرة من أساسها بجملة واحدة إذ يقو: مستحيل أن أنتج قصة على هذا النحو... مستحيل.
أثناء ذلك الوقت، أكل الزوج والأولاد الكثير من السالمون المعلب، الشبيه بجثث فرعونية محنطة، وظلت البطاطس المحمرة مع السلاطة الخضراء، وجبة إجبارية متكررة بسبب الظروف السينمائية الطارئة، وبالطبع احترق طعام وغلى اللبن حتى الفوران أكثر من مرة حتى أطفأ شعلة موقد الغاز، بينما كانت الأستاذة ناهد تناقش السيد فتحي على الهاتف عن ضرورة أن تكون البطلة يتيمة الأم والأب بلا زوج أو أبناء.
خلال احتراق الطعام، والكتابة، والكلام عبر الهاتف، كانت تحترق ببطء أعصاب ناهد فوزي، فالسيد فتحي المنشاوي، كان يحتاج في مواجهته إلى جهاز عصبي عالي القوى، حتى يواجه محاجاته ومحاوراته وجدله الجدير بأن يجعله عضوا كبيرا في نادى بيزنطة، وقد ترتب على حروق الجهاز العصبي، ضرب يفضي إلى زعيق وصراخ للعيال، حتى أن الزوج البارد انفعل ذات مرة، وذلك من الحوادث النادرة في تاريخ جهازه العصبي وطلب منها الكف عن أذى العيال، كما أنه لفت نظرها إلى أن الخضار المطبوخ، ألذ وأفيد وأوفر من السالمون، أما أختها الكبرى فقد خاصمتها لأن مربى الكمثرى لم تكن على ما يرام فقد دلتها على طريقة عملها بسرعة، ونسيت أن تشير عليها بضرورة تقشيرها أولا، لكن على أية حال لم تكن هذه هي الأحداث المأساوية الأهم بالنسبة لناهد، لكن الحدث الجلل، كان خصم خمسة أيام من راتبها، ولأول مرة في تاريخها الوظيفي، بسبب أخطاء فادحة في حساباتها الدفترية، وتحديدا دفتر الشركات.
ذات يوم، وفي نهاية الشهرين، جاءها السيد فتحي المنشاوي غاضبا جدا وقال لها: انت لست مهتمة بكتابة القصة، انت لا تأخذينها على محمل الجد، في الحقيقة انت هاوية تتعاملين مع الكتابة كلما وجدت فراغا من الوقت.. لكنك أضعت وقتي، لقد كنت أراهن على جواد خاسر.
السيدة ناهد لم تغضب من كلمات السيد فتحي، لكنها كانت مدهوشة جدا بسبب انفعاله الشديد وهو يقول لها ذلك، فكرت أن تناقشه، تقول له عن كلام زوجها وضرب العيال وخصام أختها وكارثة الخمسة أيام، لكنها اكتشفت أنه لن يفهـم ذلك.. والحوار معه بلا معنى أو جدوى فهو يأتي إليها كثيرا، لكنه لا يراها، يحادثها طويلا في الهاتف، لكنه لا يسمعها، لذلك اكتفت بالنظر إليه والابتسام، بينما كانت تدور برأسهـا فكرة لكتابة قصة جديدة عندما انصرف في ذلك اليوم ضربت الأولاد أنهما لم يكونوا مهذبين كما يجب أثناء وجوده، خصوصا الأوسط الذي راح ينط فوق كرسي الصالون. وفي المساء بدت حانقة جدا على عبدالعزيز، لأنه يهتم بأخواته البنات أكثر مما يهتم بها وبأسرته، أما رئيسها في البنك فقد تمنت أن تأخذه داهية من الدواهي، لم تحددها بدقة. جام غضبها صبته على شركات تعبئة الخضراوات الطازجة فهي تبيع منتجاتها بسعر باهظ جدا، أدى لأن ينطق عبدالعزيز الساكت دوما ويحتج على السالمون والبطاطس المحمرة.
قبل أن تنام، راحت تمارس عادتها اليومية التي لم تتغير منذ إنجاب ابنها الأول، وهي قراءة الجريدة في الفراش، قلبت الصفحات، مرت بعينيهـا مرور الكرام على صفحات الكرة الوفيات، قرأت ببرود عنوانا لمقال: لماذا تراجعت المرأة عن المساهمة في العمل السياسي؟ توقفت قليلا عند إعلان، هدية شركة براون لكل سيدة عصرية: ماكينة إزالة الشعر من الجذور بخمسة وسبعين جنيها تنهدت ثم طوحت بالجريدة بعيدا عنها وانزلقت بجسدها في الفراش ونامت. في الصباح، وهي واقفة تدهس الفول بالشوكة للأولاد، لتضعه في السندوتشات، راحت تحكى لعبدالعزيز وهو منهمك في تقليب الشاي عن حلمهـا في الليلة الفائتة، كانت تضحك بسعادة وهي تقول له: تصور يا عبدالعزيز، كانت شروط العقد معه، أن يقوم هو بغسل الصحون والذهاب إلى البنك، وضرب العيال، ولف شعره بالرولو كل ليلة قبل النوم، بينما أقوم أنا بكتابة القصة، تصور يا عبدالعزيز، كنت أقرأ ذلك بجد شديد ولم اضحك بينما كان هو يبكي ويقول لي: طيب لا داعي لحكاية لف الشعر في الليل، لأني لن أستطيع النوم بالرولو، لكنى أصررت وقلت له: مستحيل، شعرك خشن، ولازم يكون شكله حلو في الصبح، مستحيل أن تخرج من البيت وتروح في البنك وشعرك منكوش.. ها ها.
نظر إليها عبدالعزيز بهدوء وهو يرتشف الشاي، لم يضحك بالطبع بسبب استجابة جهازه العصبي الضعيفة لمثل هذه المواقف، واكتفى بأن قال لها.
كلها هلوسات أحلام، قلت لك خمسين مرة، انتظري ساعة بعد العشاء، قبل النوم يا الله، انسي، الموضوع راح لحالي سبيله. شرب الشاي، وودعها ليخرج إلى الأرصاد، وبينما كان يغلق باب الشقة خلفه، ساءلت نفسها وهي مستمرة في دهس حبات الفول: لماذا لا يكتب عبدالعزيز القصص؟.
سلوى بكر
ابريل 1995