ليس من المستبعد ألّا يكون الكاتب- مهما بلغت تجربته من شأن رفيع- بمنأى عن العثرات التي قد تُربك حساباته الفنية، فالممارسة الإبداعية – خاصة التجريبية منها- معرضة دوما إلى ما يحتمله الإنجاز من تكلفة على مستوى الإتقان.
وإذا كان الأمر كذلك فمن الخطأ عدُّ كل ما ينتهي إلينا من إنتاج المشاهير جيدا، وتعميده بإبعاد شبهات الزلل عنه؛ فلا مناص من قراءة أي عمل – حتى لو نال من السمعة القدح المعلى- بعين متفحصة، وبحس نقدي، شأنه شأن أي عمل آخر لم يحظ بنصيب من الذيوع.
فمن غير اللائق ـ في مجال الكتابة- الاكتفاء بحسن السمعة أو الإجماع لتقبل هذا الكتاب أو ذاك، بوصفه نموذجا محققا شروط الإبداع.
لقد تكون لديّ هذا الانطباع الحذر في التعامل مع النصوص بفعل مصاحبتي الطويلة والممتدة في الزمن لأعمال كثيرة، خاصة منها تلك التي عدها النقاد مندرجة في خانة الكتب الخالدة، التي لا غبار على نموذجيتها.
وأريد في هذا المقال المقتضب أن أتخذ من روايةَ «الحب في زمن الكوليرا» للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز عينةً للاستدلال على ما ذهبت إليه من حذر في قراءة النصوص المكرسة.
لقد نالت هذه الرواية من الحظوة ما جعلها تحتل موقعا حسنا في مجال التداول الروائي قراءةً ونقدا، لكن هذا لا يمنع من التساؤل عن أحقيتها في أن تعد نصا ممثلا للرواية مكتملةِ البناء الجمالي، ومفاصله لا يعتريها أي وهن فني.
ولا بأس من التذكير- قبل البرهنة على مكامن الاضطراب في بنائها السردي- بأن الرواية ليست مجرد حبكة، أو مجموعة أحداث تروى، أو تجسيما لأسئلة حول الوجود الأصيل، أو تخييلا لإمكانات لم تحين في الحياة فحسب، وإنما هي قبل ذلك بناء فني مُقنع مؤسس على رؤية جمالية معينة، فلا يكفي فيها حجم جرأة الموضوع، ومهارة الأسلوب وفرادته، وسعة الخيال، بل لا بد فيها من التفكير في الطريقة التي يُمثَّل بوساطتها العالمُ بوصفه صيرورة غير منفصلة عن الديمومة، ويُبنى بموجبها هذا التمثيل في تواشج مع التفضية الطبولوجية (التسريد).
ويستوجب قيدٌ فنيٌّ من هذا القبيل موضعةَ العالم تخييلا من طريق تبريره داخليا بمراعاة مسألتين رئيستين هما: التنامي والانتقال السرديان.
ففي ما يخص المسألة الأولى لا يمكن للحدث أن يتنامى مُحقِّقا تماسكه البنيوي إلا انطلاقا من مراعاة الممثل المحوري في العالم المقدم، الذي له صلة بالمواصلة، حيث يشتغل بوصفه نقطة إرجاع تُوزَّع الأحداث قياسا إليها.
وينبغي أن يستجيب الانتقال من مقطع سردي إلى آخر- في المسألة الثانية- إلى مراعاة عدم التقطع الذي يتخذ هيئة طفرة تخل بمبدأ المواصلة.
إن رواية «الحب في زمن الكوليرا» تخل بهذين المبدأين على نحو لا لبس فيه، فالرواية تبتدئ بحدث انتقال الطبيب «خوفينال أربينو» إلى كوخ المصور «سانت أمور»، لمعاينة موته وكتابة تصريح بدفنه، ولم يقتصر الأمر على هذا الحدث؛ إذ سريعا ما تحولت العناية السردية إلى تسريد حياة الميت؛ بانصراف السرد إلى رواية جزء من سيرته من زاوية نظر الطبيب، التي هي نتاج الاطلاع على الرسالة التي تركها بعد انتحاره، بما يعنيه ذلك من اكتشاف للجانب الغامض في هذه السيرة، ولم يكتف السرد بهذا الاستطراد غير المبرر فنيا؛ إذ عمد إلى تسريد بحث الطبيب عن المرأة التي أحبها المصور بغاية محاورتها، واتخاذ هذه المحاورة وسيلة لتسريد لحظة ما قبل الانتحار على لسانها.
ومن الأكيد أن هذا الصنيع يتنافى مع قصدية السرد الأساس التي تكفل معقوليته (الكل المُفهِم)، والماثلة في كون الرواية تتخذ لها حياةَ «فرمينا داتا» الغرامية محورا أساسا، والتكون مقولة بانية، بما يعنيه ذلك من سرد لهذه الحياة انطلاقا من التركيز على النشوء العاطفي، وتقلبه المفاجئ.
فـ«فرمينا داتا» تمثل مركز الإرجاع الذي يقاس نسبةً إليه تنامي السرد أحداثا وشخصيات، ومن ثمة كان من المفروض أن تكون هي المنطلق في الحكي، وعبرها تحكى حادثة معاينة الطبيب (زوجها) جثة المصور.
صحيح أن الموت له دلالة مهمة لا على مستوى المعنى، ولا على مستوى البناء، وصحيح أن موت المصور يخدم موت الطبيب وظيفيا ودلاليا، لكن يعد هذا الموت الثاني الأهم من حيث كونه يمهد للتحول الذي محتواه إصلاح العطب، فالموت بسبب من الببغاء له رمزيته، فهو في فراره دال على مضاعفة «فرمينا داتا» رمزيا (الحرية)، وربما كان قاتلا بدلا منها، ومن ثمة يعد هذا الموت محررا لها من حاضرها المشوب بالنمطية الماثلة في الاستجابة للأعراف الاجتماعية والثقافية التي سرقتها من نفسها (ينبغي تذكر أن الببغاء مقلد للآخرين)، ومن الخيال الرومانسي الذي له واقعه الخاص المغاير لواقع الواقع المواضعاتي. ومن ثمة التصالح مع النفس باستعادة صيرورة عاطفية كانت قد أنهيت بفعل تحول نفساني، له هيئة إدراك مفاجئ.
وهذه الصيرورة لها طابع التاريخ الشخصي الذي من سماته النقص الذي يسم العالم، والاختيار بين أجزائه المتنافرة، بما يعنيه ذلك من تنافر بين الظاهر والباطن، وموضعة الجميل والحلم قياسا إليهما.
إن الحجم والمدى السرديين المتضخمين اللذين مُنحا لموت المصور وموت الطبيب لا يتناسبان البتة مع ضرورتهما الفنية، فكان من الأليق أن تُسرَّد استعادتهما انطلاقا من إدراك «فرمينا داتا»، وقياسا إلى الوظيفة البنائية لموتهما الذي سيعمل على إحداث تحول في حياة «فرمينا داتا» في زمان لا يسمح بالمغامرة العاطفية (الشيخوخة).
كما يحق لنا أن نتساءل هنا- على الرغم من وظيفة موت المصور بوصفه خادما دلاليا لموت الطبيب- عن جدوى الاستطراد الطويل الذي خُصِّص له.
فبدا منذ الوهلة الأولى وكأن الرواية تتجه إلى سرد حياة المصور بوصفه مركزا إرجاعيا للسرد منذ الصفحات الأولى، لكن ما يلبث القارئ أن يكتشف أن الأمر ليس كذلك بفعل الانقلاب المفاجئ والطفري في مجرى السرد.
وقد يقول البعض: هذا نوع من التلاعب بالقارئ، ولا نرد مثل هذه الحجة، لكن للتلاعب قواعدَ؛ إذ ينبغي أن يتم انطلاقا من مراعاة المواصلة التي تنبني بدورها على احترام مركزية الإرجاع، وأهميتها في تنظيم تنامي السرد، فقد تظهر شخصية ما، ثم تختفي، فلا أحد ينكر ذلك، لكن ظهورها لا يتجاوز الحاجة إليها في الزمان والمكان، ولا يتجاوز خدمتَها التنامي السردي الذي تتحكم فيه نقطة مرجعية مركزية تستدعيها.
وفي ما يخص المبدأ الثاني المتعلق بالانتقال من مقطع سردي إلى آخر، نلاحظ أن السرد في رواية «الحب في زمن الكوليرا» يتسم بالتقطع الذي يتخذ هيئة طفرة تخل بمبدأ المواصلة، يظهر ذلك جليا في الانتقال من دفن الطبيب إلى سرد تكون الحياة العاطفية لـ»فرمينا داتا» وفق مراحل خطية تتخللها بعض الاسترجاعات (مرحلة المراهقة والتلمذة- الوقوع في غرام «فلورنتينو أريثا» من بعيد- النفور المفاجئ منه حين رأته عن قرب- زواجها من الطبيب «خوفينال أربينو»- انخراطها في الحياة العامة- الأسفار- تربية الأبناء- موت الزوج- الوقوع مرة أخرى في غرام «فلورنتينو أريثا» في زمن الشيخوخة).
ولا بد لنا من أن نسوق الحجة الرئيسة التي بإمكانها أن تبرر هذا الانتقال السردي الطفري، وعبرها سنفند صحة هذا الاستخدام غير الموفق الذي يضر بالمواصلة السردية.
وعلينا ألا نفهم من المواصلة البعد الخطي، وإنما انتظام المتابعة أثناء القراءة بما يسمح بالربط المتواصل للأحداث وفق استراتيجية معينة في التلاعب بالزمن.
ومفاد هذه الحجة أن هناك تقليدا روائيا نبتدئ فيه من النهاية، أو الوسط، وهذا صحيح كل الصحة، لكن نقطة النهاية هاته تستخدم بوصفها ابتداء يصير نقطة وسم يُنظَّم الحكي باستمرار قياسا إليهأ.
والحال أن الأمر في رواية «الحب في زمن الكوليرا» يقوم على الابتداء من وسط قريب من النهاية، لا النهاية، وهو تقليد اشتهرت به الدراما، وهذا الاستخدام استغرق سيولة ممتدة من النص، واُستُخدِم من دون أن يكون نقطة استناد يُنظِّم ما يليها من أحداث قياسا إليها، كما هو الحال بالنسبة إلى رواية «النفق» لأرنستو سباتو، ففيها تعمل الشخصية الرئيسة الفنان التشكيلي «خوان بابلو كاستل» على إعادة سرد علاقته بالمرأة التي أحبها «ماريا إيريبارن» انطلاقا من لحظة وجوده بالسجن عقابا له على قتلها؛ فتأتي استعادة الزمن الماضي في هيئة تبرير لفعل القتل، وقس على ذلك رواية «لوليتا» لفلاديمير نابوكوف، فاستعادة الماضي تحدث بموجب المرافعة التي يقدمها «همبرت» أمام هيئة المحلفين. كما أن رواية «حفلة التيس» لماريو يوسا باركاس تبني الماضي انطلاقا من النهاية الماثلة في عودة الشخصية الرئيسة «أورانيا» (مسز كابرال)، وتستخدم فيها النهايةُ نقطةَ إرجاع يُنظَّم السرد قياسا إليها، وانطلاقا إدراك الابنة.
هذا الإجراء المبرِّر غير متوافر البتة في رواية «الحب في زمن الكوليرا»، فبدا الأمر فيها وكأنه نوع من الإجراء المصطنع، غير المبالي بتبرير الانتقال السردي زمنيا؛ فالنص الروائي يصعد نحو حدث دفن «الطبيب»، ثم يعود مباشرة إلى سرد حياة «فرمينا داتا» بإحداث تحول طفري في دفة السرد، من دون وجود ما يمهد لذلك فنيا؛ مما يوحي للقارئ بوجود قطيعة جذرية نهائية. قد تواجهنا- هنا- حجة أخرى، بيد أنها ضعيفة، ومفادها الظهور المفاجئ لشخصية «فلورنتينو أريثا» في لحظة العزاء؛ ومن ثمة يأتي النص الأساس (تكون حياة الشخصية العاطفية) لكي يوضح طبيعة الشخصية الغامضة التي ظهرت فجأة.
وهذا أسلوب متبع في رواية اللغز، بيد أن هذه الحجة لا تصمد البتة لأن: ا- لا تعد شخصية «فلورنتينو أريثا» محورا للسرد، على الرغم من كونها تُسرَّد انطلاقا من بؤرة إدراك خاصة بها، ب- لأن رواية «الحب في زمن الكوليرا» لا تندرج في خانة رواية اللغز، بل هي أقرب إلى رواية التكون.
وهناك حجة ثالثة تتمثل في عدِّ النص مُدمِّرا لمحورية الإدراك التي ميزت الرواية الكلاسية في تمثيل اطمئنانها لتماسك العالم واستمراره، كما فعل غابرييل ماركيز في رواية «في ساعة نحس»، بيد أن ذلك كان يفرض أن يُسرَّد هذا التعدد على نحو متناوب، من دون طفرة حاسمة؛ فالانتقال الطفري في الرواية يخلف انطباعا مفاده أن عالما انتهى إلى غير رجعة يفسح المجال أمام عالم آخر يتأسس. بيد أن هذا الأمر كان من الممكن أن يكون مقبولا لو أن استعادة الحب الضائع قد حدثت في سن ملائمة، لا في سن الشيخوخة التي تؤشر على ميلان الشمس نحو الغروب.
وإذا كان الأمر كذلك فمن الخطأ عدُّ كل ما ينتهي إلينا من إنتاج المشاهير جيدا، وتعميده بإبعاد شبهات الزلل عنه؛ فلا مناص من قراءة أي عمل – حتى لو نال من السمعة القدح المعلى- بعين متفحصة، وبحس نقدي، شأنه شأن أي عمل آخر لم يحظ بنصيب من الذيوع.
فمن غير اللائق ـ في مجال الكتابة- الاكتفاء بحسن السمعة أو الإجماع لتقبل هذا الكتاب أو ذاك، بوصفه نموذجا محققا شروط الإبداع.
لقد تكون لديّ هذا الانطباع الحذر في التعامل مع النصوص بفعل مصاحبتي الطويلة والممتدة في الزمن لأعمال كثيرة، خاصة منها تلك التي عدها النقاد مندرجة في خانة الكتب الخالدة، التي لا غبار على نموذجيتها.
وأريد في هذا المقال المقتضب أن أتخذ من روايةَ «الحب في زمن الكوليرا» للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز عينةً للاستدلال على ما ذهبت إليه من حذر في قراءة النصوص المكرسة.
لقد نالت هذه الرواية من الحظوة ما جعلها تحتل موقعا حسنا في مجال التداول الروائي قراءةً ونقدا، لكن هذا لا يمنع من التساؤل عن أحقيتها في أن تعد نصا ممثلا للرواية مكتملةِ البناء الجمالي، ومفاصله لا يعتريها أي وهن فني.
ولا بأس من التذكير- قبل البرهنة على مكامن الاضطراب في بنائها السردي- بأن الرواية ليست مجرد حبكة، أو مجموعة أحداث تروى، أو تجسيما لأسئلة حول الوجود الأصيل، أو تخييلا لإمكانات لم تحين في الحياة فحسب، وإنما هي قبل ذلك بناء فني مُقنع مؤسس على رؤية جمالية معينة، فلا يكفي فيها حجم جرأة الموضوع، ومهارة الأسلوب وفرادته، وسعة الخيال، بل لا بد فيها من التفكير في الطريقة التي يُمثَّل بوساطتها العالمُ بوصفه صيرورة غير منفصلة عن الديمومة، ويُبنى بموجبها هذا التمثيل في تواشج مع التفضية الطبولوجية (التسريد).
ويستوجب قيدٌ فنيٌّ من هذا القبيل موضعةَ العالم تخييلا من طريق تبريره داخليا بمراعاة مسألتين رئيستين هما: التنامي والانتقال السرديان.
ففي ما يخص المسألة الأولى لا يمكن للحدث أن يتنامى مُحقِّقا تماسكه البنيوي إلا انطلاقا من مراعاة الممثل المحوري في العالم المقدم، الذي له صلة بالمواصلة، حيث يشتغل بوصفه نقطة إرجاع تُوزَّع الأحداث قياسا إليها.
وينبغي أن يستجيب الانتقال من مقطع سردي إلى آخر- في المسألة الثانية- إلى مراعاة عدم التقطع الذي يتخذ هيئة طفرة تخل بمبدأ المواصلة.
إن رواية «الحب في زمن الكوليرا» تخل بهذين المبدأين على نحو لا لبس فيه، فالرواية تبتدئ بحدث انتقال الطبيب «خوفينال أربينو» إلى كوخ المصور «سانت أمور»، لمعاينة موته وكتابة تصريح بدفنه، ولم يقتصر الأمر على هذا الحدث؛ إذ سريعا ما تحولت العناية السردية إلى تسريد حياة الميت؛ بانصراف السرد إلى رواية جزء من سيرته من زاوية نظر الطبيب، التي هي نتاج الاطلاع على الرسالة التي تركها بعد انتحاره، بما يعنيه ذلك من اكتشاف للجانب الغامض في هذه السيرة، ولم يكتف السرد بهذا الاستطراد غير المبرر فنيا؛ إذ عمد إلى تسريد بحث الطبيب عن المرأة التي أحبها المصور بغاية محاورتها، واتخاذ هذه المحاورة وسيلة لتسريد لحظة ما قبل الانتحار على لسانها.
ومن الأكيد أن هذا الصنيع يتنافى مع قصدية السرد الأساس التي تكفل معقوليته (الكل المُفهِم)، والماثلة في كون الرواية تتخذ لها حياةَ «فرمينا داتا» الغرامية محورا أساسا، والتكون مقولة بانية، بما يعنيه ذلك من سرد لهذه الحياة انطلاقا من التركيز على النشوء العاطفي، وتقلبه المفاجئ.
فـ«فرمينا داتا» تمثل مركز الإرجاع الذي يقاس نسبةً إليه تنامي السرد أحداثا وشخصيات، ومن ثمة كان من المفروض أن تكون هي المنطلق في الحكي، وعبرها تحكى حادثة معاينة الطبيب (زوجها) جثة المصور.
صحيح أن الموت له دلالة مهمة لا على مستوى المعنى، ولا على مستوى البناء، وصحيح أن موت المصور يخدم موت الطبيب وظيفيا ودلاليا، لكن يعد هذا الموت الثاني الأهم من حيث كونه يمهد للتحول الذي محتواه إصلاح العطب، فالموت بسبب من الببغاء له رمزيته، فهو في فراره دال على مضاعفة «فرمينا داتا» رمزيا (الحرية)، وربما كان قاتلا بدلا منها، ومن ثمة يعد هذا الموت محررا لها من حاضرها المشوب بالنمطية الماثلة في الاستجابة للأعراف الاجتماعية والثقافية التي سرقتها من نفسها (ينبغي تذكر أن الببغاء مقلد للآخرين)، ومن الخيال الرومانسي الذي له واقعه الخاص المغاير لواقع الواقع المواضعاتي. ومن ثمة التصالح مع النفس باستعادة صيرورة عاطفية كانت قد أنهيت بفعل تحول نفساني، له هيئة إدراك مفاجئ.
وهذه الصيرورة لها طابع التاريخ الشخصي الذي من سماته النقص الذي يسم العالم، والاختيار بين أجزائه المتنافرة، بما يعنيه ذلك من تنافر بين الظاهر والباطن، وموضعة الجميل والحلم قياسا إليهما.
إن الحجم والمدى السرديين المتضخمين اللذين مُنحا لموت المصور وموت الطبيب لا يتناسبان البتة مع ضرورتهما الفنية، فكان من الأليق أن تُسرَّد استعادتهما انطلاقا من إدراك «فرمينا داتا»، وقياسا إلى الوظيفة البنائية لموتهما الذي سيعمل على إحداث تحول في حياة «فرمينا داتا» في زمان لا يسمح بالمغامرة العاطفية (الشيخوخة).
كما يحق لنا أن نتساءل هنا- على الرغم من وظيفة موت المصور بوصفه خادما دلاليا لموت الطبيب- عن جدوى الاستطراد الطويل الذي خُصِّص له.
فبدا منذ الوهلة الأولى وكأن الرواية تتجه إلى سرد حياة المصور بوصفه مركزا إرجاعيا للسرد منذ الصفحات الأولى، لكن ما يلبث القارئ أن يكتشف أن الأمر ليس كذلك بفعل الانقلاب المفاجئ والطفري في مجرى السرد.
وقد يقول البعض: هذا نوع من التلاعب بالقارئ، ولا نرد مثل هذه الحجة، لكن للتلاعب قواعدَ؛ إذ ينبغي أن يتم انطلاقا من مراعاة المواصلة التي تنبني بدورها على احترام مركزية الإرجاع، وأهميتها في تنظيم تنامي السرد، فقد تظهر شخصية ما، ثم تختفي، فلا أحد ينكر ذلك، لكن ظهورها لا يتجاوز الحاجة إليها في الزمان والمكان، ولا يتجاوز خدمتَها التنامي السردي الذي تتحكم فيه نقطة مرجعية مركزية تستدعيها.
وفي ما يخص المبدأ الثاني المتعلق بالانتقال من مقطع سردي إلى آخر، نلاحظ أن السرد في رواية «الحب في زمن الكوليرا» يتسم بالتقطع الذي يتخذ هيئة طفرة تخل بمبدأ المواصلة، يظهر ذلك جليا في الانتقال من دفن الطبيب إلى سرد تكون الحياة العاطفية لـ»فرمينا داتا» وفق مراحل خطية تتخللها بعض الاسترجاعات (مرحلة المراهقة والتلمذة- الوقوع في غرام «فلورنتينو أريثا» من بعيد- النفور المفاجئ منه حين رأته عن قرب- زواجها من الطبيب «خوفينال أربينو»- انخراطها في الحياة العامة- الأسفار- تربية الأبناء- موت الزوج- الوقوع مرة أخرى في غرام «فلورنتينو أريثا» في زمن الشيخوخة).
ولا بد لنا من أن نسوق الحجة الرئيسة التي بإمكانها أن تبرر هذا الانتقال السردي الطفري، وعبرها سنفند صحة هذا الاستخدام غير الموفق الذي يضر بالمواصلة السردية.
وعلينا ألا نفهم من المواصلة البعد الخطي، وإنما انتظام المتابعة أثناء القراءة بما يسمح بالربط المتواصل للأحداث وفق استراتيجية معينة في التلاعب بالزمن.
ومفاد هذه الحجة أن هناك تقليدا روائيا نبتدئ فيه من النهاية، أو الوسط، وهذا صحيح كل الصحة، لكن نقطة النهاية هاته تستخدم بوصفها ابتداء يصير نقطة وسم يُنظَّم الحكي باستمرار قياسا إليهأ.
والحال أن الأمر في رواية «الحب في زمن الكوليرا» يقوم على الابتداء من وسط قريب من النهاية، لا النهاية، وهو تقليد اشتهرت به الدراما، وهذا الاستخدام استغرق سيولة ممتدة من النص، واُستُخدِم من دون أن يكون نقطة استناد يُنظِّم ما يليها من أحداث قياسا إليها، كما هو الحال بالنسبة إلى رواية «النفق» لأرنستو سباتو، ففيها تعمل الشخصية الرئيسة الفنان التشكيلي «خوان بابلو كاستل» على إعادة سرد علاقته بالمرأة التي أحبها «ماريا إيريبارن» انطلاقا من لحظة وجوده بالسجن عقابا له على قتلها؛ فتأتي استعادة الزمن الماضي في هيئة تبرير لفعل القتل، وقس على ذلك رواية «لوليتا» لفلاديمير نابوكوف، فاستعادة الماضي تحدث بموجب المرافعة التي يقدمها «همبرت» أمام هيئة المحلفين. كما أن رواية «حفلة التيس» لماريو يوسا باركاس تبني الماضي انطلاقا من النهاية الماثلة في عودة الشخصية الرئيسة «أورانيا» (مسز كابرال)، وتستخدم فيها النهايةُ نقطةَ إرجاع يُنظَّم السرد قياسا إليها، وانطلاقا إدراك الابنة.
هذا الإجراء المبرِّر غير متوافر البتة في رواية «الحب في زمن الكوليرا»، فبدا الأمر فيها وكأنه نوع من الإجراء المصطنع، غير المبالي بتبرير الانتقال السردي زمنيا؛ فالنص الروائي يصعد نحو حدث دفن «الطبيب»، ثم يعود مباشرة إلى سرد حياة «فرمينا داتا» بإحداث تحول طفري في دفة السرد، من دون وجود ما يمهد لذلك فنيا؛ مما يوحي للقارئ بوجود قطيعة جذرية نهائية. قد تواجهنا- هنا- حجة أخرى، بيد أنها ضعيفة، ومفادها الظهور المفاجئ لشخصية «فلورنتينو أريثا» في لحظة العزاء؛ ومن ثمة يأتي النص الأساس (تكون حياة الشخصية العاطفية) لكي يوضح طبيعة الشخصية الغامضة التي ظهرت فجأة.
وهذا أسلوب متبع في رواية اللغز، بيد أن هذه الحجة لا تصمد البتة لأن: ا- لا تعد شخصية «فلورنتينو أريثا» محورا للسرد، على الرغم من كونها تُسرَّد انطلاقا من بؤرة إدراك خاصة بها، ب- لأن رواية «الحب في زمن الكوليرا» لا تندرج في خانة رواية اللغز، بل هي أقرب إلى رواية التكون.
وهناك حجة ثالثة تتمثل في عدِّ النص مُدمِّرا لمحورية الإدراك التي ميزت الرواية الكلاسية في تمثيل اطمئنانها لتماسك العالم واستمراره، كما فعل غابرييل ماركيز في رواية «في ساعة نحس»، بيد أن ذلك كان يفرض أن يُسرَّد هذا التعدد على نحو متناوب، من دون طفرة حاسمة؛ فالانتقال الطفري في الرواية يخلف انطباعا مفاده أن عالما انتهى إلى غير رجعة يفسح المجال أمام عالم آخر يتأسس. بيد أن هذا الأمر كان من الممكن أن يكون مقبولا لو أن استعادة الحب الضائع قد حدثت في سن ملائمة، لا في سن الشيخوخة التي تؤشر على ميلان الشمس نحو الغروب.