محمد التجاني عمر قش - القصة القصيرة في السودان ...القاص إبراهيم إسحاق إبراهيم نموذجاً

مقدمة:
تعود بداية ظهور القصة القصيرة في السودان إلى الأحاجي والقصص والأساطير التي كانت تحكيها الأمهات وكبار السن للنشء في البيوت؛ مثل فاطمة السمحة وود النمير وقصة يوسف سنينات وموسى ود جلي. ولمزيد من المعلومات عن الأحاجي السودانية يمكن مراجعة ما كتبة وجمعه الدكتور سيد حامد حريز.
أما القصة القصيرة بمعناها الفني والنقدي فلم تظهر في السودان إلا في وقت حديث نسبياً. وقد شاركت في هذا المجال أسماء كثيرة من بين كتابها سيد الفيل وبدوي ناصر وعمر عبد الله أبو شمة وعرفات محمد عبد الله، ولعل أشهر أبناء هذه المرحلة هو معاوية محمد نور. وتتسم كتابة هذا الجيل بالتأثر بالثقافات الواردة عليهم من مصر والحجاز وبريطانيا فيما بعد، غير أن ما أحدثوه من تجديد وتغيير في الأدب والقصة القصيرة تحديداً لم يكن بالقدر الذي شهدته الدول العربية الأخرى.
ومع تزايد الوعي بمشكلات الذات والهوية والواقع السوداني، والخصوصية القومية والوطنية، ظهر الجيل الثاني، فيما يسمى بمرحلة النضج، وقد كتب هؤلاء عن الواقع المعاش، وكانوا يرغبون في إحداث تغيير حقيقي وتحديد أشد لفكرة الهوية السودانية؛ لذا فليس مستغرباً أن نجد أن أبناء هذه المرحلة أخذوا ينشرون كتباً مشتركة من القصص القصيرة، مثل "موت دنيا" لمحمد أحمد المحجوب وعبد الحليم محمد، ومن أشهر كتاب هذه المرحلة الطيب صالح، وملكة الدار محمد، وعثمان علي نور.
وفي منتصف الستينات، ومطلع سبعينات القرن الماضي، ظهرت الرغبة لدى المبدعين السودانيين في تحقيق نقلة حداثية استلهموا فيها أشكالاً فنية واكبت تطور المجتمع السوداني، وعبرت عن همومه ومشاكله، وحاولت الخروج به إلى أفق جديد مغاير، ومن روادها محمود محمد مدني، وعبد السلام حسن عبد السلام، ومحجوب شعراني، وحسن الجزولي، وعيسى الحلو وغيرهم.
لقد صدر حديثاً كتاب "القصة القصيرة في السودان" وهو يضم مجموعة من القصص تمثل أجيال القصة السودانية منذ مرحلة البدايات وحتى مرحلة النضج. وقد قسم الكاتب الإبداعات القصصية السودانية إلى أربعة أقسام: هي البدايات وتمثلها قصة "موت دنيا"، و"إيمان" لمعاوية محمد نور. أما المرحلة الثانية أي مرحلة نضج القصة السودانية، فيرى المؤلف أنها بدأت في منتصف الأربعينات واستمرت إلى منتصف الستينات وتميزت قصص مبدعي هذه المرحلة بالتفاعل مع الحياة التي يعيشونها بالفعل وكانوا يستمدون شخصيات قصصهم من مآسي المهمشين والفقراء.
أما المرحلة الثالثة التي أطلق عليها فؤاد مرسي اسم "مرحلة التحولات الحداثية"، فقد تضمنت قصص "ليالي" لأحمد الفضل أحمد، و"رائحة امرأة" لحسن الجزولي. ومن أبرز كاتبات وكتاب هذه المرحلة، سلمى الشيخ سلامة وسعاد عبد التام وفاطمة السنوسي وزينب الكردي ومختار عجوبة. وقد تميزت قصص هذه المرحلة باستلهامها أشكالاً فنية جديدة واكبت تطور المجتمع السوداني وعبرت عن همومه ومشاكله، لكن غلب على بعض القصص التيار الوجودي، والاتجاه النفسي على البعض الآخر، وهناك قصص استفادت من التراث.
أما المرحلة الرابعة والأخيرة، التي بدأت منذ منتصف الثمانينات وحتى الآن فقد تضمنت عدداً كبيراً من الكتاب من أمثال إبراهيم أسحاق وبثينة خضر مكي وغيرهم مما لا يتسع المجال لذكرهم.
إن القصة القصيرة في السودان قد مرت بمراحل متعددة وفترات طويلة حتى وصلت مرحلة النضج إن صح التعبير. وسوف نسلط الضوء فيما يلي على أحد رواد القصة القصيرة في السودان وهو الكاتب والقاص إبراهيم إسحاق إبراهيم.
من هو إبراهيم أسحاق إبراهيم:
إبراهيم اسحق إبراهيم، هو أديب سوداني، روائي وقاص وكاتب. ولد إبراهيم بقرية "ودَعة" بمحافظة شرق دارفور بغرب السودان في العام 1946 م. تلقى تعليمه الأولي بمدينتي الفاشر وأم درمان، وتخرّج في معهد المعلمين العالي في العام 1969م (كلية التربية حالياً، التابعة لجامعة الخرطوم )، ونال درجة الماجستير من معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بـجامعة الخرطوم في العام 1984م. وقد أقام منذ مطلع العام 1982م في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية ومكث بها لعدة سنوات إلى أن استقر به الحال في بلده السودان، في العام2006م. ويقيم إبراهيم إسحاق حالياً بمدينة. وما زال إبراهيم إسحق يرفد الصحف السودانية المحلية بالجديد من قصصه القصيرة، ويشارك في لجان تحكيم عدد من الجوائز الأدبية في السودان مثل جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي وجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي التي تقيمها شركة زين للاتصالات. كما تقلد إبراهيم إسحاق منصب رئيس اتحاد الكتاب السودانيين في العام 2009م. وهو عضو في مجلس تطوير وترقية اللغات القومية في السودان. هذه الخلفية ساعدت القاص "إبراهيم إسحاق" كثيراً على المضي قدماً في إنجاز مشروعه الإبداعي والسردي ذا الطابع الخاص الذي تميز به عن طرائق السرد السائدة، شكلاً ومضموناً وحواراً، مما أكسبه تفرداً وخصوصية جعلت له وضعاً أكثر شهرة بين قرنائه من الكتاب والأدباء.
أعمال إبراهيم إسحاق في مجال الرواية والقصة القصيرة:
بدأ إبراهيم إسحاق مسيرته الإبداعية بكتابة الرواية، وتعد رواية (حدث في القرية) بمثابة الضربة الأولى في مجال الإبداع للقاص الكبير "إبراهيم إسحاق" وبعدها نشر روايته الثانية (أعمال الليل والبلدة) في عام 1971م، ولم يمض طويل وقت حتى صدرت روايته الثالثة الموسومة (مهرجان المدرسة القديمة) عن إدارة النشر الثقافي بوزارة الثقافة والإعلام، في الخرطوم عام 1976. وانتظر قراؤه طويلاً حتى صدرت روايته الرابعة (أخبار البنت مياكايا) في الأول من مايو عام 2001 ولحقت بها الرواية الخامسة (وبال في كليمندو) وصدرت بالرياض في المملكة العربية السعودية روايته السادسة (فضيحة آل نورين) عام 2004 م.
أما أساهمه في مجال القصة القصيرة السودانية فلا يقل شأناً عن أعماله في أعماله الروائية. وكانت أول مجموعة قصصية صدرت له عن مركز (عبد الكريم ميرغني الثقافي) بعنوان (ناس من كافا) عام 2006 م ثم خلال عام 2011، صدرت عن هيئة الخرطوم للصحافة والنشر، مجموعة قصص قصيرة بعنوان "عرضحالات كباشية". وحديثاً صدرت مجموعته الثالثة "حكايات من الحلالات". هذه المجموعات الثلاث تحوي سبعة وثلاثين قصة قصيرة يقول عنها الكاتب إبراهيم إسحاق: "أنا أحتفي بقصصي القصيرة التي بلغت "37 نصاً" أكثر من احتفائي بالروايات الست ربما لاعتقادي بأن كل مُؤدى لهذه القصص القصيرة لا يقل قيمة على الصعيد الفكري والجمالي عن الروايات. والقارئ للمجموعات القصصية الثلاث " ناس من كافا، وعرضحالات كباشية، وحكايات من الحلالات"، يجد تاريخ كتابة كل قصة عند بلوغ نهايتها، فبعضها كُتِبْ في 1973م وبعضها كُتِب في 2012م.
آراء النقاد في كتابات إبراهيم إسحاق:
الأديب والروائي والقاص والكاتب الكبير إبراهيم إسحاق رجل قارئ، ومثقف، واسع الاطلاع، وملم بكل فنون الأدب والرواية، والقصة القصيرة، محليها، وعربيها، وعالميها. ولقد قال أحد الكتاب يصف جانباً من إبداع هذا الرجل الفذ (نجد في أعماله معايشة عميقة للمجتمع السوداني ومقدرة متميزة على رصد المشاهد والمواقف والشخوص. وللأمكنة عطرها النفاذ يفوح من التفاصيل الدقيقة التي يصورها ببراعة ودقة ومحبة ورواء فلا تملك إلا وأن تتفاعل معه).
شخصياً، سمعت عن إبراهيم إسحاق أول مرة، عندما وصلت إلينا روايته "أعمال الليل والبلدة"، وأنا يومها طالب في مدرسة خور طقت الثانوية، في منتصف سبعينات القرن الماضي. وعندما التحقنا بجامعة الخرطوم، فتح أمامنا باب الثقافة والاطلاع على مصراعيه، وفي تلك الآونة ما كان يصدر ملف أدبي في المجلات المتخصصة، أو ملحق في الصفحات الثقافية، في صحيفتي الصحافة والأيام، إلا ويكون لإبراهيم أسحاق حضور فيه، فنقرأ له وعنه بكل نهم وشغف. يقول كاتبنا عن هذه الفترة ("في الحقبة ما بين 1976 و1982 توالى نشر قصصي ومحاوراتي في ملحق (الأيام) الثقافي بإشراف المبدع السردي عيسى الحلو، ودافعت عن رؤيتي للصناعة السَّردية في مجلة الثقافة السُّودانية كما عرضت آرائي الثقافية في هذه المجلَّة المذكورة وفي مجلة (الخرطوم) وفي مجلة (الدَّوحة) القطرية ومجلة (سوداناو) الإنجليزية الصادرة في وزارة الإعلام السودانية. وقد تكللت كل هذه المساندة لي بإيجاد دور لي في مهرجانات الثقافة حتى مُنحت (نوطاً) تشجيعياً في عام 1979م.
لقد خرج إبراهيم إسحاق، من مسقط رأسه في شمال دارفور، لا يلوي على شيء إلا المعرفة والثقافة، مع التزام صارم بمنهج فكري واضح المعالم، لا يحيد عنه تحت كل الظروف؛ ولذلك استطاع أن يحوز قدراً كبيراً من المعارف، ويختط لنفسه مساراً متفرداً في الرواية والقصة القصيرة بأسلوب لا نكاد نجده عند أيٍ من معاصريه من كتاب الرواية والقصة القصيرة في السودان. ولذلك كله، صارت كتابات إبراهيم إسحاق تجد الاهتمام والمتابعة، قراءة ونقداً من قبل المهتمين بالأدب والقصة القصيرة على وجه الخصوص، ولا أبالغ إن قلت: إن كاتبنا الكبير قد أصبح من أهم أركان الحركة الإبداعية وأحد رموزها على مستوى السودان، والوطن العربي؛ فما من محلل أدبي أو ناقد إلا وقف على تجربة إبراهيم إسحاق لعدة أسباب: أهمها مقدرته الكبيرة على السرد واستخدام أدوات الكتابة وفنونها وهو يصور مجتمع القرية في غرب السودان، الذي لم يسبق لأحد أن تناوله في أسلوب قصصي، حشد له الكاتب كل مقدرته، ومعرفته، وأسلوبه الراقي، وموهبته المتميزة، مستفيداً من لهجته العامية والدارجة في الحوار بين شخوص القصة، ليعبّر خلالهم عن فكرته، ورؤيته للأحوال، والتحول الذي تحمله عناصر قادمة من البندر في الغالب، فجاءت قصصه في قالب متفرد، يعكس هموم إنسان تلك المنطقة وقضاياه من كل الجوانب الاجتماعية، والثقافية وربما الأخلاقية، والاقتصادية، حتى لكأنك ترى الأشخاص وهم يقومون بأدوارهم في القصة القصيرة رأي العين، فتسمع كلامهم، وتحس بدواخلهم، من خلال المقدرة الإبداعية لإبراهيم إسحاق الذي لم يترك شاردة أو واردة إلا سجلها بكل تفاصيلها، مضفياً على ذلك رونقاً وألقاً بأسلوبه الرائع، الذي يجذب القارئ للمتابعة، فكل مشهد يفضي إلى الآخر دون أن تشعر بالملل أو يضطرب إحساسك بأحداث القصة وشخوصها وظروفهم. يعود ذلك إلى حقيقة قد لا يعرفها كثير من الناس عن هذا الأديب هي أنه قد أوتي ذاكرة فتوغرافية لا نجدها إلا عند ابن بطوطة.
في واقع الأمر، فإن إبراهيم إسحاق قد عاش طفولته الباكرة في قرى دارفور ووديانها، وسهولها كسائر أبناء القرى في تلك المنطقة الغنية بتنوعها البيئي، والثقافي، واللغوي، والاثني، إن جاز التعبير، وبما أنه صاحب موهبة وذاكرة قوية فقد اختزن تلك التجارب أيضاً، وبعدها شد الرحال إلى العاصمة لتلقي العلم فحدث تحول كبير في بيئته الثقافية، ولكنه لم ينقطع من بيئته الأصلية ولم ينس اللهجة وتلك الممارسات الثقافية والاجتماعية الشعبية التي شكلت وجدانه في سن الطفولة وظلت تؤثر على أسلوب كتابته بشكل كبير، أشد ما يكون وضوحاً في فضيحة آل نورين، وحدث في القرية، وبعض قصصه القصيرة التي سجل فيها كل تفاصيل الحياة هناك حتى أسماء الدواب والأطعمة والطيور والهوام والأشجار ناهيك عن الأماكن والأشخاص مما أضفى على أعماله نوعاً من الواقعية يشبه كثيراً ما تميّز به الطيب صالح خاصة في عرس الزين ودومة ود حامد.
إن ما يزيد كتابات إبراهيم إسحاق ألقاً، هو إلمامه بتأريخ منطقته، وفولكلورها، وثقافتها التي هي في الأساس امتداد طبيعي لما كان سائداً في منطقة شمال إفريقيا والسودان الغربي من امتزاج للأعراق من عربية وغيرها، وتمازج اللهجات المحلية باللغة العربية، والموروث الثقافي، الذي يتخذ مرجعيته من الإسلام وإن اختلط ببعض العادات الإفريقية؛ إذ لم يحدث تصادم بين الدين الوافد وما كان سائداً من عادات حتى رسخت العقيدة. وسادت إثر ذلك ثقافة عربية إسلامية شكلت فكر ووجدان الناس وتعمّقت تلك الثقافة بتواصل أهل غرب السودان مع مراكز الثقافة الإسلامية في الحجاز الذي كان يصله محمل السلطان وكسوة الكعبة من دارفور وتحديداً من الفاشر ومع مصر عن طريق الأزهر الذي بني فيه رواق دارفور ومنه تخرج كبار قادة الفقه والعلوم الإسلامية الذي حملوا لواء التنوير والتحضّر حتى وصلت تلك الثقافة العربية الإسلامية إلى جيل المثقفين من أمثال إبراهيم إسحاق وغيره من المعاصرين في تلك البقاع. ومن المؤكد أن ذلك التواصل قد كان له مردود ثقافي بما يحمله العائدون من تلك البقاع من أفكار وملاحظات وربما كتب أو قد يصحبهم علماء في رحلة العودة مثلما فعل محمد بن عمر التونسي، كل هذه العوامل كان لها أثر واضح في ثقافة هذا الكاتب، ولذلك كثيراً ما نراه يشير إليها إشارات واضحة تأتي أحياناً على لسان شخصياته أو سلوكهم، وفي أسماء الكتب التي كانوا يدرسونها مثل مختصر خليل ورسالة ابن أبي زيد القيرواني في الفقه المالكي، فمثلاً يقول الراوي في سبحات النهر الرزين (حفظت فرائض الشعائر عند أبي زيد القيرواني، وعندما كلمني عبد المولى البصير بحثت له عن موطأ الإمام مالك في المدينة)؛ علاوة على ممارسات صوفية واضحة المعالم يعكسها أشخاص روايات إبراهيم إسحاق. هذا التمازج الاثني والتواصل الثقافي بين العناصر العربية والإفريقية.
توثقت صلتي الشخصية بكاتبنا الكبير، إبراهيم إسحاق، عندم جمعتنا ظروف الهجرة في حي النسيم في شرق مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية. ذلك الحي الذي ضم لفيفاً من السودانيين في ثمانينات القرن الماضي فتكونت بينهم أواصر قوية؛ فقد كان من الذين وضعوا عصا الترحال في ذلك الحي، وعُرف بين الناس بثقافته الثرة ولذلك كان منزله العامر بالعلم، والكتب، والثقافة، ملتقى لكثير من المهتمين بالحراك الثقافي والأدب لأنهم كانوا يجدون عند صاحب تلك الدار ما يشفي غليلهم ويمتعهم بحلو الكلام والأدب الرفيع، فصرت من المداومين على مجلسه بقدر ما تسمح لنا وله ظروف العمل. خلال تلك الفترة واصل إبراهيم إسحاق الكتابة وأخرج للناس واحداً من أهم كتبه في غير مجال الرواية والقصة القصيرة، كتاباً يعد إضافة حقيقية للمكتبة السودانية، هو ذلك المرجع التاريخي " هجرات الهلاليين من جزيرة العرب إلى شمال إفريقيا وبلاد السودان"، وهو سفر جامع يسد ثغرة كبيرة في تاريخ الهجرة العربية إلى السودان وكردفان ودارفور. علاوة على هذا، فإن مما يميز إنتاج إبراهيم إسحاق الأدبي والثقافي في تلك الفترة ما كان يقوم به من مراجعات للكتب العربية والترجمة خلال تعاونه مع مجلة (عالم الكتب) التي نشر فيها بعضاً من مقالاته الثقافية الراقية. كذلك لم يتوقف إبراهيم عن كتابة القصة والرواية حيث نشرت له جريدة الخرطوم إبان فترة اغترابه مجموعة من القصص القصيرة ضمنها في مجموعاته التي صدرت مؤخراً. كما شهدت بلاد المهجر نشاطاً ثقافياً واسعاً شارك فيه هذا الكاتب بعدد من المحاضرات واللقاءات. وعندما وقع الاختيار على الخرطوم لتكون عاصمة الثقافة العربية كان من الضروري أن يضم الوفد الذي مثّل الجالية السودانية بالرياض، في فعاليات ذلك المهرجان، قامة أدبية سامقة، فكان إبراهيم إسحاق ضمن الوفد فأثرى ليالي الخرطوم وعطّرها بحضوره المتميز دوماً.
ودونكم ما قاله الأديب الراحل الطيب صالح عن هذا الأديب العَلَم: (إبراهيم إسحق كاتب كبير حقاً؛ وقد اكتسب سمعته الأدبية بعدد من القصص القصيرة والروايات الجميلة، مثل روايته "حدث في القرية". وهي روايات وقصص قدمت لأول مرة في الأدب السوداني صوراً فنية بديعة للبيئة في غرب السودان وهو عالم يكاد يكون مجهولاً لأهل الوسط والشمال وقد لقيته في الرياض في المملكة العربية السعودية، فوجدته إنساناً دمثاً طيباً مثل كل من لقيت من أهل غرب السودان).
يقول الكاتب محمد الفاتح أبو عاقلة: " إبراهيم إسحاق إبراهيم أديب عميق التجارب ومتفرد في قدراته الإبداعية وموسوعي الاطلاع، ولذلك يمكننا وصفة بأنه من المخضرمين. كما نجد في أعماله؛ خاصة قصصه القصيرة، معايشة عميقة للمجتمع السوداني، ومقدرة متميزة على رصد الأحداث والمشاهد والمواقف والأشخاص. وهو يتناول واقع المجتمع بدقة مثلما هو الحال في قصة "الرجال السلاحف" في مجموعة " ناس من كافا" فهي تعالج واقع الناس في دارفور في الآونة الأخيرة. أما قصته “قعود يعقوب" فهي قصة قصيرة مكتنزة بلوحات متراكبة من الأحداث التي تصطرع نحو ذروة لا يمكنك أن تحدد مكانها لأنك تجدها في كل تلافيف القصة، دون زيادة أو نقص. عموماً، تتسم كتابات إبراهيم إسحاق وقصصه القصيرة بالدقة والبنائية الصادقة ذات الألفاظ والعبارات المحكمة."
من جانب آخر، يقول الباحث محمد حسن عمر عن قصص إبراهيم إسحاق ما نصه: " من خلال دراسة البناء الفني للقصة القصيرة عند إبراهيم إسحاق والبحث في الاتجاهات الموضوعية لمجموعته "ناس من كافا"، استطاعت الدراسة فتح بعض المغاليق من عوالم الكاتب، وكشف النقاب عن المضامين التي اشتملت عليها المجموعة برؤية نقدية ومنهجية علمية، وأهم تلك النتائج تتمثل في الآتي: 1. إن حل إشكالية اللغة في الكتابة الإبداعية يكمن في اعتبارها شأناً خاصاً يتعلق بقرار الكاتب مع صوته الداخلي الذي يحدد له لغة الحوار في القصة التي يريد إنجازها، لأن الإبداع طليق لا قائد له غير الموهبة والحدس والتجربة الشعورية التي تأتي مطابقة لمقتضى الحال، فالحوار الفصيح في المضمون الذي يتطلبه، والحوار العامي في السياق الذي يناسبه. 2. إن إبراهيم إسحاق وظف مستويات اللغة في نقل الأفكار حسب الموقف ومقتضى الحال، وهو ما يعرف بواقعية الشكل والمضمون، وقد غلبت العامية الموغلة في المحلية على لغة الحوار في معظم قصصه في هذه المجموعة "ناس من كافا" وبعض كتاباته الإبداعية الأخرى; مما شكل حاجزاً بين أعماله وبعض النقاد والباحثين الذين أتوا من بيئات تختلف عن بيئة الكاتب. 3. إن أثر البيئة قد ظهر جلياً في كافة قصص مجموعة "ناس من كافا"، وبذلك تكون قد سدت فراغاً عريضاً عن بيئتها في القصة السودانية خاصة والقصة العربية عامة؛ لأن منطقة غربيّ السودان – كافا – غنية بالثقافة والتراث، وأعمال الكاتب تعتبر مدرسة تثقيفية تراثية رفدت المكتبة الوطنية بمادة قيمة في مجال الأدب عامة وأدب القصة بخاصة، ذات نكهة سودانية خالصة، وفكرة واقعية صادقة أسس عليها مشروعه الإبداعي العريض. 4. يعتبر إبراهيم إسحاق ثاني من استخدم عرض الذكريات في افتتاحية القصة بعد الطيب صالح الذي اعتبر استخدامه لتلك التقنية خروجاً عن السائر في الرواية العربية والقصة القصيرة، وبظهورهما في الساحة الأدبية قد أنفلق بحر القصة الحديثة، فكانا فتحاً أدبياً جديداً، ورقماً قياسياً بعيداً".
إن مجموعة القصص القصيرة التي صدرت في كتاب إبراهيم إسحاق الموسوم "عرضحالات كباشية"؛ نسبة لأسرة كباشي، وهي أسرة خيالية أراد الكاتب أن يحملها مسئولية كل الأحداث، والأفكار، التي تدور حولها مجموعة القصص، بينما يتولى هو السرد والحبكة القصصية، متخفياً خلف شخصية الراوي الذي جاء من كافا إلى أم درمان، وظل يتنقل بين هذين الموقعين في إشارة واضحة لما يحمله من موروث غرب السودان إلى المدينة، وما يعود به من فكر وحضارة وتنوير إلى قرية كافا. يحوي مجموعة من القصص القصيرة التي اختار لها الكاتب عناوين مثل (ملوك سوق القصب والطريق إلى أم سدرة، وتخريجات على متن الظاهريّة وبلية العجيج ولدْ عجيجان النّاجري)؛ وكل هذه العناوين لها دلالات مقصودة يدركها القارئ من خلال سير القصة وقد قدم لها المؤلف بمختارات لكثير من الكتّاب أمثال كيركيجارد، وسليمان بن حسين الوسطي، ودانتي اليجيري، وأبو العتاهية؛ وهذه إشارة واضحة على سعة اطلاعه وثقافته. هذا الكتاب من إصدارات هيئة الخرطوم للطباعة والنشر ويحمل الرقم (38) ضمن سلسة "كتاب الخرطوم الجديدة" وهو بعنوان " ناس من كافا" وهي خيالية أيضاً: ودونكم هذا النموذج من الحوارات الواردة في القصص:
- اللّخوان من وين؟
- نحن من كافا.
- كافا دي وين؟
- في شرق دارفور.
كما يقول الراوي في قصة سبحات النهر الرزين (جئتهم ناس الصِّيوان هذه المرة بإحياء علوم الدين؛ لأن عبد الغفار نصحني بامتلاكه لأجلهم. يقول لي: خلي الشباب ديل يقرو الأسرار كمان). وما يلفت النظر في هذه المجموعة أن مسرح أحداثها يتراوح في مساحة جغرافية ممتدة ومتنوعة البيئات تشمل مناطق كثيرة من السودان تمتد من كافا في دارفور إلى أم درمان وشندي وبور تسودان مما يعني أن إبراهيم إسحاق قد خرج من نطاق المحلية في رواياته ليلج إلى القومية مشيراً بذلك إلى حراك اجتماعي كبير يعود الفضل فيه إلى وسائل المواصلات والاتصالات التي قرّبت مكونات المجتمع السوداني ومناطقه من بعضها البعض. ومن المؤكد أن ثمة حالات من التواصل والتمازج والاختلاط قد نتجت من ذلك كله، وإن كانت لا تزال في طور التفاعل إلا أنها حتماً ستؤدي إلى مزيد من إزالة التفاوت، والتنافر إن جاز لنا أن نقول ذلك. هذه القصص تعالج جملة من القضايا تتراوح بين الصراع بين القديم والحديث؛ كما هو شأن معظم روايات إبراهيم إسحاق، وقصصه القصيرة، ولكنها أيضاً تلمس بعض المستجدات في المجتمع السوداني مثل تعاطي المخدرات، والصراع الفكري في أوساط طلاب الجامعات (الرأسية الأولى وقع الكناني على ركبتيه، والهواري تراجع حتى اتكأ على ساق الهرازة. الرأسية الثانية وقعت أنا على الركبتين، أتشهد في داخلي ولا أجد نفسي، كأنني بيْن بيْن، في دارين.) هذا بالإضافة إلى ما طرأ على مجتمع دارفور من خلل، وتفكك اجتماعي، نتيجة للحرب التي ولّدت صراعات كثيرة في ذلك الجزء من الوطن، وظهرت على السطح مجموعات لا تشبه سلوك إنسان دارفور المسالم والهادئ ذي الخلفية الإسلامية؛ ولذلك عندما سأل الراوي جده القادم من دارفور في قصة " بدائع" (كيف تركت الأهل في الدكة والحلال يا جدي؟ " طيبين عافين" وكيف صحتكم وأحوالكم؟" رد عليه الجد بقوله (كويسين بلا مصائب التورا بورا والنهب، والعياذ بالله". ومن جملة ما يناقشه الكاتب في هذه القصص مشاكل الخدم في البيوت، وما يترتب على ذلك من أحداث جنائية مثل ما فعلت الخادمة لولو حيث تآمرت مع إحدى قريباتها فسرقت ذهب صاحبة البيت وجارتها وقطعت أصابعهما، كما يناقش هذا القاص اختلاط السودانيين بالوافدين من الخارج، عبر بوابة المنظمات الطوعية، حيث يشير الكاتب في بعض قصصه لاستخدام فحص الحمض النووي لتحديد الهوية. ومن المواضيع التي تحدث عنها إبراهيم إسحاق في "مسطرة القليب" قصة أم شوايل تلك البنت الكباشية التي ألقى بها أبوها في البئر، وهذه إشارة واضحة للعنف الأسري وهو من القضايا التي طرأت على قصص إبراهيم إسحاق مؤخراَ، في دلالة واضحة على مواكبته واهتمامه بدوره كواحد من المعنيين بتشكيل وجدان الإنسان السوداني. وقد عكس إبراهيم إسحاق في هذه القصص كل جوانب النشاط البشري في دارفور من تعليم وتجارة وزراعة ورعي بأدق التفاصيل لهذا الحراك لما له من صلة مباشرة من مفاهيم الناس وسلوكهم، وطريقة حياتهم، وتقاليدهم وموروثهم، وقيمهم التي جعل منها إبراهيم إسحاق مادة لقصصه ورواياته، فذكر فيها كل شيء يتعلق بإنسان كافا حتى أسماء الكباش مثل (برد وبرود) والشجر مثل أم دلادل وديك مسعود وبالطبع أسماء سائقي اللواري وممارستهم ومحطاتهم التي يقفون فيها وموارد المياه مشيراً إلى قضية العطش من طرف خفي.
هذه القصص يجب ألا تقرأ بمعزل عن روايات إبراهيم إسحاق الأخرى ابتداءً من" حدث في القرية"، و"مهرجان المدرسة القديمة"، و" أعمال الليلة و البلدة" وهي في مجملها تدور حول القديم والجديد في القرية الدار فورية التي رمز إليها الكاتب في هذه السلسلة "بكافا" التي ربما تكون، مثل ود حامد، تجسيداً للقرى في أنحاء غرب السودان كافة حيث يدور صراع بين موروث القيم القروية العتيقة وما يطرأ على الساحة الاجتماعية من تحول، لأن القرية لم تعد معزولة تماماً عما يدور من تطور في العالم من حولنا، ولذلك نجد ذلك الحراك الذي يمثله " المنصور". عموماً هذه القصص تمثل تحولاً كبيراً في مسيرة إبراهيم إسحاق الروائية من عدة جوانب فهو قد تحول من المحلية الضيقة إلى القومية؛ كما أن لغة الروائي نفسها قد تطورت من الاستخدام المفرط للهجة المحلية إلى أسلوب هو أقرب إلى عامية الوسط وإن كانت هذه القصص لا تخلو من لهجة غرب السودان بشكل عام لأن "المنصور" قد خرج من كافا ووصل حتى أم درمان وشندي وحتى بور تسودان، ولذلك كان من الطبيعي أن يكتسب لهجة مزيجاً من كل لهجات السودان.
باختصار شديد هذه القصص جديرة بالقراءة والدراسة فهي تعد قمة النضج الروائي لإبراهيم إسحاق فقد كتبها في فترة زمنية طويلة بين الأعوام من 1973 و حتى 2010 وهي الفترة التي عاش فيها إبراهيم شبابه وكهولته وخاض تجارب حياتية كثيرة تراوحت بين الخروج من القرية إلى العاصمة ومرحلة التعليم العام والعالي حتى نال درجة الماجستير واكتسب شهرة أدبية وعمل في كثير من الوظائف من تعليم وغيره في السودان وخارجه، وشارك في كثير من المحافل والأنشطة الأدبية والثقافية وكتب فيها بعض أهم مؤلفاته والتقى خلالها بكثير من الفاعلين في مجال الأدب والثقافة وصار رقماً كبيراً في مسيرة الرواية السودانية والعربية لتفرده وتميزه السردي والقصصي حيث نقل حياة القرى في السودان الغربي إلى كافة المهتمين بفن الرواية بأسلوبه الخاص والممتع.
عاد إبراهيم إسحاق إلى أحضان الوطن، ليحتل موقعه بين أدباء وكتاب السودان، فتبوأ منصب رئاسة اتحاد الكتاب السودانيين؛ وهو الآن عضو في مجلس تطوير وترقية اللغات القومية في السودان وهو أيضاً عضو بارز في أمانة جائزة الأديب الراحل الطيب صالح. إبراهيم إسحاق الآن يشارك بمقالات أدبية نوعية في الصحف والمجلات السودانية، و يشارك في كثير من الحوارات والبرامج التي تبثها القنوات التلفزيونية الفضائية وله اسهام ملحوظ في الحراك الثقافي في العاصمة المثلثة، وله عدة مشاريع كتب واصدارات جديدة هي الآن في المطابع ستضاف إلى أعماله في القريب العاجل؛ ذلك فضلاً عن أنّ إبراهيم إسحاق هو حامل لواء الرواية والقصة القصيرة في السودان الآن بلا منازع؛ لرسوخ قدمه في هذا المجال، وعمق تجربته وروعة أسلوبه، وتنوع موضوعاته، وارتباطها بالبيئة السودانية، وإلمامه بقضايا الأدب العربي والعالمي، خاصة إذا علمنا أن إبراهيم هو أحد الباحثين الأفذاذ في مجال التراث، والثقافة، والتاريخ كما أنه في الأساس مدرس للغة الإنجليزية التي كانت إحدى أدوات اطلاعه على آداب العالم بجانب اللغة العربية.
خاتمة:
أهتم النقاد والباحثون بقصص إبراهيم إسحاق القصيرة كما اهتموا برواياته التي حظيت بقدر كبير من الدراسة حتى بلغ عدد ما قدم عنها من بحوث ودراسات لنيل درجات فوق الجامعية ما يفوق أثنى عشرة بحثاً ودراسة.
ختاماً نستطيع القول إن ينابيع الأديب الكبير إبراهيم إسحاق عصية التحديد، فهي عميقة الأغوار، لا يمكن لمقال واحد أن يسبر غورها. وفي نهاية المطاف، يظل "إبراهيم أسحاق" علامة فارقة في تاريخ الأدب السوداني الحديث.إن إبراهيم إسحاق وظف مستويات اللغة في نقل الأفكار حسب الموقف ومقتضى الحال، وهو ما يعرف بواقعية الشكل والمضمون، وقد غلبت العامية الموغلة في المحلية على لغة الحوار في معظم قصصه في هذه المجموعة "ناس من كافا" وبعض كتاباته الإبداعية الأخرى؛ مما شكل حاجزاً بين أعماله وبعض النقاد والباحثين الذين أتوا من بيئات تختلف عن بيئة الكاتب. إن أثر البيئة قد ظهر جلياً في كافة قصص مجموعة "ناس من كافا"، وبذلك تكون قد سدت فراغاً عريضاً عن بيئتها في القصة السودانية خاصة والقصة العربية عامة؛ لأن منطقة غربيّ السودان – كافا – غنية بالثقافة والتراث، وأعمال الكاتب تعتبر مدرسة تثقيفية تراثية رفدت المكتبة الوطنية بمادة قيمة في مجال الأدب عامة وأدب القصة بخاصة، ذات نكهة سودانية خالصة، وفكرة واقعية صادقة أسس عليها مشروعه الإبداعي العريض. يعتبر إبراهيم إسحاق ثاني من استخدم عرض الذكريات في افتتاحية القصة بعد الطيب صالح الذي اعتبر استخدامه لتلك التقنية خروجاً عن السائر في الرواية العربية والقصة القصيرة، وبظهورهما في الساحة الأدبية قد أنفلق بحر القصة الحديثة، فكانا فتحاً أدبياً.

الرياض 18/2/2018

محمد التجاني عمر قش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...