الرياح تعوي كخريف العمر، وحدها الشرفة المطلة من الفندق ومن نفس زاوية الرؤية لمدة عشرين عاما، هي نفسها لم يتغير فيها شيء إلا الوجوه التي أراها، الأطفال الصغار الذين أصبحوا رجالا ونساء، الوجوه التي شاخت وتجعدت، والأجساد التي دب في أوصالها الإعياء والإنهاك، كنت أراه طفلا صغيرا، يلعب كرة القدم، حين أمر بجانبه ينظر إلي ويقرئني السلام، ولم أكن أعتقد في يوم من الأيام أن يصبح كاتبا يكتب عني…
أسأل نفسي في المرآة : ما الذي يجعل منك مادة دائمة للكتابة.
أعيد طرح نفس السؤال وأنا أبتعد قليلا عن المرآة: ما المميز في مسيرتي أن يجعل مني بطلا لقصته.
… عرفته حينما كنت صغيرا بحكم أني كنت أقطن بجوار مقر الشرطة، وكنت أعرف غالبية من يشتغل هناك بحكم أنني ألعب في نفس الشارع الذي يمرون به ويدخلون منه إلى المقر…كان شخصا عاديا يقارب الأربعين من العمر.. الكثيرون يعرفون أنه انطوائي ومنعزل على نفسه ويقطن في الفندق الكبير الموجود بالمدينة.ساعدته خبرته في الأمن على الترقي بالسرعة..ورغم المنصب الذي يحتله بين زملائه ظل هو هو، على حاله…الرجل الذي لا يبدو مفتشا للشرطة ويبدو مفتشا للشرطة بشكل كبير من خلال نظرته الثاقبة وخطواته الواثبة،يفضل أن ينتقل مشيا إلى الأماكن التي يستقصي بها. التقيت به ذات مرة حينما ضربته بالكرة، التفت إلي ومضى، ومرة دخلت المقر وكان واقفا على الباب وأومأ برأسه، وذات خريف طلب مني الانصراف بعيدا وأعاد لي كرتي رفقة أصدقائي، وذات صباح في الفندق كنت أتناول الفطور…نظر إلى مليا وعاد لمتابعة قراءة صحيفته.
في سن الأربعين.. دخلت نفس غرفة الرجل..هل رائحته لا تزال بالمكان وهو الذي قطن الغرفة لأكثر من عشرين عاما..المشجب نفسه، لون نصف الغرفة بالأخضر، الباب ذو اللون الأزرق المفتوح، والغرفة رقم أربعة وأربعين…في أقصى الرواق في الطبقة الثالثة.. كيف استقر به المقام بهذه الغرفة التي أصبحت جزءا منه وجزءا مني… يقول جميع من اشتغل في الفندق بأن له طقوسا خاصة…يبدأ النهار بقهوة سوداء وبحزمة من الجرائد ثم ينطلق لعمله..وكعادته يعود إلى الغرفة، يفتح باب الشرفة التي تتجازو مترين ونصف ، وضعت فيها بعناية بعض الورود والأزهار ..وبمعطفه الأسود الذي لم يغيره إلا لماما إلا ببدلة رمادية هو هو..مفتش الشرطة الذي لم يتزوج قط..ولكنه كان عاشقا للقراءة وللخمر…
أنا بدوري عاشق للقراءة والكتابة وللخمر..لا أكتب إلا إذا كنت في حالة من التشظي والتيه الأعمى ، ولكن ما كان يؤلمني هو كلمة البداية..الرجل أعرفه ولا أعرفه ونفس الغرفة نفسها أقطنها ونفس الساحة التي تعج بأصناف مختلفة من الرجال والنساء والأطفال في مختلف الأعمار هي هي، كنت طفلا ألعب فيها و الآن أنا الرجل الذي أصبحت مكان المفتش، رغم أنني أكره عمل المفتش ولكن يعجبني عمله في التقفي بنوع من التريث..الحياة هي تتابع في تتابع. أو هي تتابع التتابع..
هو الطفل الذي كان يلعب كرة القدم ويجري، لم أتصوره ذات يوم أن يكون كاتبا معروفا، أن تلقى كتاباته كل هذا النجاح..أعرف من من خلال متابعتي للصحف أنه يقطن نفس الغرفة التي كنت أسيرا لها ومن يدخلها يكون عبدا لها…قرأت بعض قصصه وحواراته ولكن ما يثيرني في حديثه آنه يتحدث عن روح هائمة في تلك الغرفة..الألوان الخضراء المفتوحة، والباب الأزرق هو هو ولكن من اشتغل هناك ، البعض منهم رحل والبعض تمادى به العمر إلى أرذله…ولكن ذاك الصبي الذي لم يكن يخشى من رجال الأمن ويسلم عليهم ويعرف الكثير من تفاصيل سحنات وجوههم ومن ألوان سياراتهم ومن توقيتهم كأنه مفوض كبير في جهاز الأمن..أضحى اليوم كاتبا كبيرا..قرأت من بين قصصه الطويلة ملمحا عني..هل أنا ذاك القاطن هناك في تلك الغرفة التي كان يظل فيها ضوء المصباح مضاء إلى أواخر الليل..ما يدهشني كيف عرف قصتي مع الكثير من نساء زرن غرفتي ..وكيف أمكنه أن ينقل تلك التفاصيل الدقيقة في ما كنت أردده وأقوم به ..لا ربما له موهبة أن ينصت لجدار الغرفة وهناك روح هائمة هي من تحكي ما الذي وقع… تابعته ذات مرة في لقاء بمقهى ثقافي، ومرة شاهدته في بداية فصل شتاء قارس كان برفقة شابة بعيون خضراء، ومرة صافحته وقدمت له مجموعة قصصية كتبها عني وكتب إهداء لي دون أن يتعرف على ملامحي…
سألت مرة منظفة الغرف في الفندق عن المفتش، وعن سهره الطويل وعاداته، فقالت: كان رجلا يثقن فن الصمت وينصت بكل حواسه….
أنا الغرفة،ذات الأخضر المفتوح، والشرفة المطلة على الساحة، والباب الأزرق المفتوح..زارني الكثيرون في نفس السرير، ولكن هناك شخصان كلاهما تعاقبا على السهر معي طويلا، كان جهاز التلفزة لا يشتغل إلا لماما..وحزمة الأوراق والنبيذ كثير منها تدحرجت زجاجاتها هنا بين الأرجاء..جدار الغرفة تحتفظ بروحها وينظر الواحد للأخر ولا أحد منهما تصافحا أو التقيا في ليل طويل وهاهنا يلتقيان…هو في الصورة التي احتفظت بها إدارة الغرفة وهو في الجهة المقابلة التي احتفظت بها كذلك الإدارة ..ينظران لبعضهما البعض..نظرات كلها حنين، إلى الشرفة وإلى الوجوه التي كانت تطل عليها من الأعلى..
الأزهار الصغيرة تحتفظ بدفئها واخضرارها وتنظر في باب الغرفة يفتح من جديد…
ينظر المفتش في المرآة، يخرج للشرفة، يضع الصبي المفاتيح وحزمة الأوراق، عنوان صغير يبدو في الورقة البيضاء” المفتش الذي قطن الفندق عشرين عاما واختفى ”..تتطاير الأوراق متسللة من شرفة الغرفة…
الشمس تبدو كئيبة والريح تعوي مزمجرة تاركة وراءها عويلا يتلاشى في الأفق…
.