أولئك الذين يمشون في شارع سليمان كانوا كثيرين جدا ذلك اليوم. لكن الحر الذي بدا لي قد أفرغ الدنيا من الهواء جعلني اراهم قليلين متناثرين كيفما اتفق، بعضهم يقف يشرب البيبسي كولا فاتحا قميصه كاشفا صدره، وبعضهم يقف على باب سينما مترو، وباب سينما ميامي على الرصيف الآخر، منتظرا موعد الدخول لحفل السادسة والنصف، حريصا على أن يكون قريبا من هواء مكيفات المدخل. والبعض يتسكع للفرجة على فاترينات الملابس الجاهزة أكثر النساء كن يقفن أمام فاترينات الملابس الرجالية. أكثر الرجال كانوا يقفون أمام فاترينات الملابس النسائية. هكذا رأيت، أو هكذا خيل لي، فالحقيقة لا أذكرها تماما، ذلك أنه كانت بي رغبة أن أمشي مستديرا . أي في دوائر حلزونية، كما تدور الأرض حول الشمس. ولأنه لم يحدث ما يخيفني اليوم؟ بدت لي هذه الرغبة مفاجئة للغاية. وتذكرت مبتسما - لا أدري لماذا - أنها كانت عملا من أعمال الحرب. أقصد حدثت لي أيام الحرب، تلك التي نسيها الناس بسرعة، رغم أن الحرب كانت بعيدة جدا، في الشرق، وفي الغرب أيضا. لا تلمني إذا لم أذكر مكانا بالضبط، فأنا يخيل لي كثيرا أننى أقف فوق الجهة الآخرى عن الكرة الأرضية، في اللحظة نفسها التي أقف فيها هنا، لذلك لا أعرف هل كانت الحرب في الشرق كما يقول الناس؟ أو في الغرب كما خيل لي. على أن ذلك ليس مهما. الذي يدهشني هو نسيان الناس للحرب بهذه السرعة. ودليل نسيانهم أنهم يمشون في خطوط مستقيمة مهما توقفوا، ويعرفون مايريدون فهم يحملون، غالبا، حقائب بلاستيكية بها أشياء اشتروها، أو سيبيعونها. الوحيد الذي لم ينس هو أنا؟ إذن فليس معى حقيبة من أي نوع والحقيقة أن الحروب تتعبني - أتعبتني - جدا. في الشرق كانت أو في الغرب. في الحرب الأولى التي خضناها كنت أمشى أستدير نصف دورة، من اليمن إلى اليسار، وأعود. في الحرب التى تلتها كنت أمشي أستدير نصف دورة من اليسار إلى اليمينذ وأعود. في الحرب الأخيرة كنت أمشي أستدير دورة كاملة من اليمين إلى اليسار، ثم أعود لأستدير من اليسار إلى اليمين. ربما لذلك ظللت واقفا مرة في مكان واحد ثلاثة أيام. لكن في ذلك الوقت كان على وجوه الناس وجوم، لذلك لم يلتفتوا إلميّ لم يصفني أحد بالجنون. اليوم أرى الناس مزدهرة الوجوه، خاصة الفتيات المرحات، والنساء الإكثر مرحا، لذلك لا أستطيع أن أمشي مستديرا. ويخيل لي أني مرتبك من شىء آخر غير ذكرى الحرب. ذلك الوجه الذي لم آلفه من قبل، ولا يفارق عيني من الأمام والخلف. الخلف!! إذن لقد استدرت مرة وأنا لا أدري. لكنه يبدو مصابا في جبهته. هناك خيط من الدم الثقيل ينزل بين العينين، ويمشي على قصبة الأنف. لكني أرى نفسي جالسا في سينما مظلمة أتفرج، وحيدا، على فيلم فيه شخص مجروح الجبهة. الحقيقة أني كنت أقف أمام فاترينة محل. ملابس جلدية. معظم الملابس جلد أسود، القليل منها بني. الأحزمة مبرقشة، من جلد الثعابين إذن ثعابين البر والبحر. اليابس والماء. وحافظات النقود كذلك. لكن بين الحافظات والأحزمة مناديل وشيلان بيضاء فوقها خناجر مسنونة حادة لها مقابض من الجلد أيضا مرسوم عليها علامة الحياة الفرعونية، أو وجه نفرتيتي، وكلها تبدو ملساء لامعة مثل النصل نفسه. كانت هناك أيضا خناجر أرفع، تطل نصالها من جيوب السترات الجلدية السوداء والبنيه معا، المعلقة حول التماثيل الباهتة الابتسامة شمعية الوجوه عمياء العيون، رغم الرموش الطويلة للنساء. فكرت ربا ما أراه من خناجر وجلد هو سبب ما رأيت، أو خيل لي، من دم ينبثق من جبهة الوجه الذي يحاصرني من الأمام ومن الخلف ولم يسبق لي أن رأيته أو رأيت صاحبه، لكني وأنا ألتفت لأعاود المشي رأيته حقيقة أمامي. لم يكن خيالا إذن، فهو يمد يده، يصافحني ويشد على يدي، ويهز ذراعي بعنف وبدا لي مبتهجا للغاية :
- أتذكرني ياأستاذ؟
- لا تؤاخذني..
- ليس مهما. إنني سعيد جدا برؤيتك.
- أشكرك جدا.
- ألا تذكرني بحق يا أستاذ؟
ولم يعد لائقا أن أظل أقول الحقيقة. قلت:
- يخيل لي أني رأيتك من قبل. سامحني إذا كنت نسيت.
- غير معقول أن تنساني ياأستاذ. إنني أحبك جدا. بالله تأتي معي تشرب الشاي.
والتفت حوله. لابد أنه أدرك أننا نقف في منتصف الشارع لا مقهى إلا في أوله من ناحية الميدان أو في نهايته عند التقائه بشارع فؤاد . قلت :
- أشكرك جدا. الآن تذكرت أني رأيتك كثيرا . كيف حالك .
كنت أكذب. وبدا هو لي شديد الطفولية والعذوبة وهو يقول :
- أنا سعيد يا أستاذ أنك تذكرتني. أنا أعمل في التدريس الآن.
- رائع . رائع.
قلت متشجعا، فهو يقدم لي معلومات تساعدني على الحوار والتخلص من الحرج. لكنه نظر لي متسع العينين وقال حزينا :
- لماذا يكون ذلك رائعا يا أستاذ؟ أنا سوف أترك العمل، أنت قلت لي يوما ذلك.
ارتكبت بحق، وكنت لمحت كتابا قديما في يده ففكرت أن أسأله عنه، لكنه قرب الكتاب مني ، كأنما عرف برغبتي، وقال:
- هذا كتاب سحر.
- سحر؟! - أجل . أنظر يا أستاذ
وقرب الكتاب أكثر فأخذته وفتحته لأرى دوائر ومربعات ورموزا فرعونية وحروفا صينية ورسومات لحيوانات معروفة وغيرها غير معروف وكتابة بالعربية والإنجليزية وزحاما شديدا. قررت الابتعاد عن الموضوع. سألته :
- لكن كيف حقا رأيتني وتعرفت علي في الزحام؟
عاد الابتهاج إلى وجهه من جديد، وأجاب :
- أنا كنت أمشي معك من أول الشارع. كنت أمشي على الرصيف الثاني. وكنت كلما وقفت أنت وقفت أنا، وكلما مشيت مشيت حتى عندما رأيتك تستدير وجدت نفسي أستدير. كان شيئا جميلا بحق. هل كنت تحس بي يا أستاذ؟
أجب فاتحا له قلبي، متأثرا بحق :
- نعم كنت أحس بك.
- يقولون إن الأشعة تنتقل من العيون إلى الأجسام مهما كانت المسافة بعيدة، وأنا كنت دائم النظر إليك.
لا أكذب إذ قلت إنه شملني إحساس الأم، الأم بالذات ، حين تفرح بابنها العائد من غربة، أو حرب - يا ألهي، حرب! - ذلك الإحساس الذي يعطي الأم سببا حقيقيا للبقاء في الحياة. قلت :
- هل تعرف أني كنت أحس بك من أول الشارع وأنتظر عبورك؟
- أشكرك جدا يا أستاذ . ليتني أراك مرة أخرى.
- لا بد أن ستراني.
- هل تمشي هنا كثيرا يا أستاذ؟
- في شارع سليمان؟
- أجل
- أمشي كثيرا جدا
- إذن سنلتقي يا أستاذ كثيرا جدا. أنا أيضا أمشي هنا. إنني أحب هذا الشارع . إلى اللقاء يا أستاذ.
وصافحني بشدة، وهز ذراعي، وتركني آخذا طريق العودة في اتجاه شارع فؤاد. كانت سينما مترو تخرج جمهور حفلة بعد الظهر، وكذلك كانت سينما ميامي، فامتلأ الشارع، وازدحم الرصيف، ولم تعد لي أي فرصة أن أراه وأتابعه بعيني. لقد تبخر كأنما حملته في غيمة في فضاء.
إبراهيم عبدالمجيد
سبتمبر 1993
- أتذكرني ياأستاذ؟
- لا تؤاخذني..
- ليس مهما. إنني سعيد جدا برؤيتك.
- أشكرك جدا.
- ألا تذكرني بحق يا أستاذ؟
ولم يعد لائقا أن أظل أقول الحقيقة. قلت:
- يخيل لي أني رأيتك من قبل. سامحني إذا كنت نسيت.
- غير معقول أن تنساني ياأستاذ. إنني أحبك جدا. بالله تأتي معي تشرب الشاي.
والتفت حوله. لابد أنه أدرك أننا نقف في منتصف الشارع لا مقهى إلا في أوله من ناحية الميدان أو في نهايته عند التقائه بشارع فؤاد . قلت :
- أشكرك جدا. الآن تذكرت أني رأيتك كثيرا . كيف حالك .
كنت أكذب. وبدا هو لي شديد الطفولية والعذوبة وهو يقول :
- أنا سعيد يا أستاذ أنك تذكرتني. أنا أعمل في التدريس الآن.
- رائع . رائع.
قلت متشجعا، فهو يقدم لي معلومات تساعدني على الحوار والتخلص من الحرج. لكنه نظر لي متسع العينين وقال حزينا :
- لماذا يكون ذلك رائعا يا أستاذ؟ أنا سوف أترك العمل، أنت قلت لي يوما ذلك.
ارتكبت بحق، وكنت لمحت كتابا قديما في يده ففكرت أن أسأله عنه، لكنه قرب الكتاب مني ، كأنما عرف برغبتي، وقال:
- هذا كتاب سحر.
- سحر؟! - أجل . أنظر يا أستاذ
وقرب الكتاب أكثر فأخذته وفتحته لأرى دوائر ومربعات ورموزا فرعونية وحروفا صينية ورسومات لحيوانات معروفة وغيرها غير معروف وكتابة بالعربية والإنجليزية وزحاما شديدا. قررت الابتعاد عن الموضوع. سألته :
- لكن كيف حقا رأيتني وتعرفت علي في الزحام؟
عاد الابتهاج إلى وجهه من جديد، وأجاب :
- أنا كنت أمشي معك من أول الشارع. كنت أمشي على الرصيف الثاني. وكنت كلما وقفت أنت وقفت أنا، وكلما مشيت مشيت حتى عندما رأيتك تستدير وجدت نفسي أستدير. كان شيئا جميلا بحق. هل كنت تحس بي يا أستاذ؟
أجب فاتحا له قلبي، متأثرا بحق :
- نعم كنت أحس بك.
- يقولون إن الأشعة تنتقل من العيون إلى الأجسام مهما كانت المسافة بعيدة، وأنا كنت دائم النظر إليك.
لا أكذب إذ قلت إنه شملني إحساس الأم، الأم بالذات ، حين تفرح بابنها العائد من غربة، أو حرب - يا ألهي، حرب! - ذلك الإحساس الذي يعطي الأم سببا حقيقيا للبقاء في الحياة. قلت :
- هل تعرف أني كنت أحس بك من أول الشارع وأنتظر عبورك؟
- أشكرك جدا يا أستاذ . ليتني أراك مرة أخرى.
- لا بد أن ستراني.
- هل تمشي هنا كثيرا يا أستاذ؟
- في شارع سليمان؟
- أجل
- أمشي كثيرا جدا
- إذن سنلتقي يا أستاذ كثيرا جدا. أنا أيضا أمشي هنا. إنني أحب هذا الشارع . إلى اللقاء يا أستاذ.
وصافحني بشدة، وهز ذراعي، وتركني آخذا طريق العودة في اتجاه شارع فؤاد. كانت سينما مترو تخرج جمهور حفلة بعد الظهر، وكذلك كانت سينما ميامي، فامتلأ الشارع، وازدحم الرصيف، ولم تعد لي أي فرصة أن أراه وأتابعه بعيني. لقد تبخر كأنما حملته في غيمة في فضاء.
إبراهيم عبدالمجيد
سبتمبر 1993