لايستطيع أن يحدد بالضبط كيف أحس بذلك. لقد حدث فجأة ودون سابق إنذار. كان عبد اللطيف وزوجته في ضيافتهما. تحدثوا عن أشياء جميلة ورائعة لا يذكرها الآن. بلى، يذكرها لكنه لا يستطيع تذوقها
بنفس المتعة: تحدثوا عن شكسبير وعطيل، عن فاوست وبيتهوفن وفاغنر، وأبدت مليكة حسا مرهفا في الحديث عن الموسيقى الكلاسيكية وعظمتها وفساد الأذواق المعاصرة. وقد تمنى، في لحظة من تلك اللحظات، أن يتاح له حظ الزواج من امرأة رقيقة مهذبة ومثقفة كمليكة، وربما كان قد أفصح لهما عن هذه الأمنية إفصاحا. لا بد أن مليكة قد ابتسمت، خجلى، حينئذ، وأنها أعربت عن ثقتها في أن رجلا مثقفا ورقيق العاطفة مثله لن يحرم رفيقة أحسن وأرقى منها بكثير، ولا بد أن عبد اللطيف قهقه حتى أمال «الفوتيل» وصاح: هيا، يا مولاي، توكل على الله ودع لي مهمة البحث.
كانوا يتحدثون عن سيبيريا، أو بلد مشابه: جمال الطبيعة والأشجار والثلج والفن والأدب ونزهات الخيول وصالونات القرون الوسطى والنزعة الإنسانية وانحدار التاريخ: أشياء كثيرة وجميلة وملونة. وفجأة، سقط الكأس من يده وانكفأ وجهه على المنضدة الزجاجية. لم يغب عن وعيه. لم يغب عن وعيه مطلقا. بقيت أذنه تسمع وعينه ترى. وبقي طعم الويسكي المثلج في فمه منعشا ولذيذا، كما كان دائما، والموسيقى الهادئة تعمق السكون.
أحس بعبد اللطيف ومليكة يرفعانه ويناديانه، ويمسحان جبهته الجافة بمنديل ناعم مبلل. كل ذلك كان في وعيه، ولكنه لم يعد نفس الرجل. أحس أنه في هذه اللحظة بالذات... مات. ذلك هو الشعور بالضبط: أحس أنه ميّت تماما. ورغم أنه لم يكن قد عرف الموت من قبل إلا في قراءاته وأحاديث الناس عنه، فإنه لم يكن من الغباء حيث تخدعه هذه السخافات.
لقد أدرك، بعمق، أنه ميت. وكانت الكلمة الأولى التي رد بها على لهفة مضيفيه الكريمين هي قوله: «أريد كفنا حريريا».
ولم يدعاه يخرج حتى أقنعهما أنه في كامل وعيه وأن الشراب المنعش والحديث اللذيذ هما المسؤولان، وأنه يعتذر عن إزعاجهما ويعتقد أن الوقت قد حان، بالفعل، لكي يعود إلى شقته.
لماذا تموت الأشياء وهي في قمة نضجها واكتمالها وروعتها؟ لماذا لا يختطف الموت إلا الأشياء الجملية والطيبة والمعطاء؟ لماذا؟
فكر في المسألة حتى أضناه التفكير وهو يجلس في المقعد الخلفي للتاكسي، وترنم:
كان المطر يبلل وجه حبيبي
حين.. تصرفت الأقدار
لذلك، حين أرى الغيم...
تبلل قلبي النار..
وقال لنفسه: إن الشعر شيء عظيم، وأحس بالذنب لأنه لم يفكر في ترجمة طاغور إلى العربية، الوقت الآن فات، ربما كان آخرون قد أنجزوا الترجمة، ولكنه غير واثق من قيمة ما يفعله المترجمون، إنهم يشوّهون وجه الفن. ودّ، في تلك اللحظة، أن يعانق طاغور ومايكل أنجلو وكل العظماء. ودّ لو يحمل الناس جميعا على أن يعانقوا العظمة الفنية وينبهروا بها. ولكن الوقت قد فات. وقال لنفسه: الإبداع الإنساني ينسحب إلى المتاحف والخزائن، والإنسان يغيب في ظلمات التاريخ، وأنا.... مت.
في باب العمارة الشاهقة كانت سلسلة طويلة رقيقة سوداء تمتد في الضوء الشاحب. كانت السلسلة جيشا من النمل يسير في نظام واحد: واحدة وراء واحدة. وفوق ظهر كل نملة صغيرة سوداء عود تبن أبيض.
بنفس المتعة: تحدثوا عن شكسبير وعطيل، عن فاوست وبيتهوفن وفاغنر، وأبدت مليكة حسا مرهفا في الحديث عن الموسيقى الكلاسيكية وعظمتها وفساد الأذواق المعاصرة. وقد تمنى، في لحظة من تلك اللحظات، أن يتاح له حظ الزواج من امرأة رقيقة مهذبة ومثقفة كمليكة، وربما كان قد أفصح لهما عن هذه الأمنية إفصاحا. لا بد أن مليكة قد ابتسمت، خجلى، حينئذ، وأنها أعربت عن ثقتها في أن رجلا مثقفا ورقيق العاطفة مثله لن يحرم رفيقة أحسن وأرقى منها بكثير، ولا بد أن عبد اللطيف قهقه حتى أمال «الفوتيل» وصاح: هيا، يا مولاي، توكل على الله ودع لي مهمة البحث.
كانوا يتحدثون عن سيبيريا، أو بلد مشابه: جمال الطبيعة والأشجار والثلج والفن والأدب ونزهات الخيول وصالونات القرون الوسطى والنزعة الإنسانية وانحدار التاريخ: أشياء كثيرة وجميلة وملونة. وفجأة، سقط الكأس من يده وانكفأ وجهه على المنضدة الزجاجية. لم يغب عن وعيه. لم يغب عن وعيه مطلقا. بقيت أذنه تسمع وعينه ترى. وبقي طعم الويسكي المثلج في فمه منعشا ولذيذا، كما كان دائما، والموسيقى الهادئة تعمق السكون.
أحس بعبد اللطيف ومليكة يرفعانه ويناديانه، ويمسحان جبهته الجافة بمنديل ناعم مبلل. كل ذلك كان في وعيه، ولكنه لم يعد نفس الرجل. أحس أنه في هذه اللحظة بالذات... مات. ذلك هو الشعور بالضبط: أحس أنه ميّت تماما. ورغم أنه لم يكن قد عرف الموت من قبل إلا في قراءاته وأحاديث الناس عنه، فإنه لم يكن من الغباء حيث تخدعه هذه السخافات.
لقد أدرك، بعمق، أنه ميت. وكانت الكلمة الأولى التي رد بها على لهفة مضيفيه الكريمين هي قوله: «أريد كفنا حريريا».
ولم يدعاه يخرج حتى أقنعهما أنه في كامل وعيه وأن الشراب المنعش والحديث اللذيذ هما المسؤولان، وأنه يعتذر عن إزعاجهما ويعتقد أن الوقت قد حان، بالفعل، لكي يعود إلى شقته.
لماذا تموت الأشياء وهي في قمة نضجها واكتمالها وروعتها؟ لماذا لا يختطف الموت إلا الأشياء الجملية والطيبة والمعطاء؟ لماذا؟
فكر في المسألة حتى أضناه التفكير وهو يجلس في المقعد الخلفي للتاكسي، وترنم:
كان المطر يبلل وجه حبيبي
حين.. تصرفت الأقدار
لذلك، حين أرى الغيم...
تبلل قلبي النار..
وقال لنفسه: إن الشعر شيء عظيم، وأحس بالذنب لأنه لم يفكر في ترجمة طاغور إلى العربية، الوقت الآن فات، ربما كان آخرون قد أنجزوا الترجمة، ولكنه غير واثق من قيمة ما يفعله المترجمون، إنهم يشوّهون وجه الفن. ودّ، في تلك اللحظة، أن يعانق طاغور ومايكل أنجلو وكل العظماء. ودّ لو يحمل الناس جميعا على أن يعانقوا العظمة الفنية وينبهروا بها. ولكن الوقت قد فات. وقال لنفسه: الإبداع الإنساني ينسحب إلى المتاحف والخزائن، والإنسان يغيب في ظلمات التاريخ، وأنا.... مت.
في باب العمارة الشاهقة كانت سلسلة طويلة رقيقة سوداء تمتد في الضوء الشاحب. كانت السلسلة جيشا من النمل يسير في نظام واحد: واحدة وراء واحدة. وفوق ظهر كل نملة صغيرة سوداء عود تبن أبيض.