محمد قدري لطفي - دنيا الأدب..

ليست هي دنيانا، فما ينبغي أن يكون هذا الأدب منها، وليست هي عالمنا، فما لهذا الأدب أن يدخل فيه، وإنما هي طبيعة الأدب تأبى أن يكون من دنيانا في شيء، فان أكثر دنيانا قبيح، وأكثر الأدب جميل، وعماد دنيانا الحقيقة وعماد دنيا الأدب الخيال، والعقل في دنيانا عنصرها الأكبر، والعاطفة في دنيا الأدب عنصرها الأول، والمرء في دنياه يرى بعيني رأسه، ويرى في دنيا الأدب بعين قلبه، وهو في الدنيا مادي، قد يمسك بالزهرة فيقطعها في غير رحمة التماس عبيرها، فيظلّ به حتى ينفذ، ثم يلقيها كأن لم تبهره لحظة بجمالها، ولم تنعشه برهة بأريجها، وهو في دنيا الأدب روحي، إذا أمسك بالزهرة فإنما يمسها في رفق، وإذا التمس شذاها فإنما يفعل في حذر واحتياط، حتى إذا أعجبه عبيرها لم يقتطفها ولم يلقها، وإنما تراه يستخلص من عبيرها الطيب بيتاً ينظمه، أو قصيدة ينشئها، أو سطوراً يكتبها، وتراه يغوص في قرار المعاني ويصعد إلى عنان اللغة ليسجل للخالق حسن الصنعة ودقة الخلق وجمال التكوين، وتراه يوفي الزهرة حقها من الإعجاب والإطراء، ويبادلها حسنا بحسن ومتعة بمتعة. والمرء في دنياه يتكلم فيما يشاء بما يشاء، وهو في دنيا أدبه لا يتكلم إلا فيما حرك شعوره وهز عاطفته، فإذافعل فباللفظ المختار وبالمعنى المنتقى، والمرء في دنياه حين يتكلم لا يكاد يقع قوله إلا من نفوس قليلة مهما تكثر فلن تخرج عن الحصر، ولن تفوق العد، وهو في دنيا الأدب يتكلم فيلتقي بعواطف الجموع ويضرب على أوتار القلوب، وقد ينتقل قوله من لغة إلى لغة وينتشر حديثه من لسان إلى لسان، فيفنى هو وما قال باق على الدهر خالد على الأيام، وقد يظل المرء في دنياه من غير صاحب، وقوله في دنيا الأدب يلقى الصحاب في كل مكان، ويتخذ سميراً في الجماعات أو خليلاً في الوحشة، أو مؤنساً في الوحدة، يصادف من كل قلب مبتغاه، ويلقي عند كل امرئ قبولاً، ويقع من كل نفس موقع البرء من السقام

ودنيانا محدودة وان ترامت حدودها، مقيدة وان اتسعت قيودها، ودنيا الأدب لا تعرف الحد ولا تعرف القيد، فالأدب يعيش في كل مكان ويحيا في كل زمان، يتناول كل شيء، وق يتخذ لنفسه موضوعا من لاشيء، وليس توخي الجمال فيه ولا التزام أوجه الحسن في فنونه قيداً له ولا عيباً في دنياه، وإنما هو الجمال طبيعته وعنصره، ما أن يفقده حتى يخرج من دائرة الأدب إلى دائرة الكلام البحت والحديث الصرف. فالشعر إن فقد الجمال كان نظما فحسب، لا هو بالشعر ولا هو بالنثر، قد وقف بين الصناعتين لا يدري أهو من هذه أم هو من تلك، والنثر إن فقد طلاء البلاغة لم يكن من الفن في شيء، وكما تغلو الأشياء في دنيانا وترخص، يغلو الأدب في دنياه، وتنحط قيمته تبعا لمقدار الجمال فيه، وأكثر موازين دنيانا الكم، وميزان دنيا الأدب الكيف.

على أن دنيا الأدب وان كانت جمالاً كلها فليست نعيما كلها، وان كانت إعجابا كلها فليست تخلو من العجب، فقد أقام البؤس فيها إلى جانب الجمال، وسكنت الفاقة فيها إلى جانب الحسن، وكثيراً ما تحالفا على غير فكاك، وتوافقا على غير خلاف، شأن دنيا الأدب في ذلك شأن دنيانا، فانك لتجد فيها الوجه الجميل في المسكن الذليل، وغالباً ما يلقاك الشرف الرفيع في الكوخ الحقير، وكثيراً ما تحل السعادة حيث ترق الحال، ويقيم الهناء حيث يحل الفقر.

ودنيا الأدب لا آخره بعدها، ولا إمهال فيها، وإنما يلقي صاحب الأدب فيها حسابه سريعاً فيجزى به أو يعاقب عليه، فما هو إلا أن يظهر أهل دنياه على ما أتى من عمل فني حتى يتولاه النقاد من قومه بالحساب، يحاسبونه حسابا فيه يسر حيناً، وكله عسر أحياناً، وحساب أهل الأدب على عسره ليس يخلو من عجب، فلا الخير فيه خير بالاجماع، ولا الشر فيه بالإجماع، وإنما الخير عند زيد شرٌّ لدى عمرو، والشر يراه هذا خيراً، والخير في عرف ذاك شر، قد تفاوتت الموازين، وتباينت المكاييل، وليت شعري متى يشاء ملائكة النقد أن يكون لدنيا الأدب ميزان يزن به الجميع، وكيل يكيل به الجميع. فقد خلق الناقدون وكل معه ميزانه، وكل في يده كيله، فاختلفت أحكامهم على العمل الفني الواحد، وتعددت أقوالهم في إنتاج الأديب الواحد، ولعل دنيا الأدب لم تظلم صاحب الأدب حين أباح له حرية الدفاع عن آثاره الأدبية والرد على محاسبيه، والتماس الحق لجانبه. ومن غريب دنيا الأدب أنها تبيح حساب المرء حياً وميتاً، فيتناول النقاد سيرته بالتحليل ويتولون حياته بالتمحيص، ويظهرون الناس على أقواله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وانك لتجد الشاعر أو الناثر قد فارق دنياه منذ قرون، وأسدلت السنون عليه وعلى قومه حجابا من النسيان، ومع ذلك فهو في دنيا الأدب حي مذكور لا يزال النقاد يحاسبونه على شعر قرضه، أو نثر كتبه، أو قصة حاك أطرافها، ولا يكتفون من ذلك بالمئات من المرات.

ومما يحاسب المرء عليه في دنيا الأدب عدا الإجادة في الفن أو التقصير فيه ما قد يرتكبه من سرقة لثمار العقول أو نتاج العواطف فينتحل لنفسه ما ليس له. غير أن الحساب على هذا الذنب ليس كما ينبغي له من العسر والشدة، وليس كما يتفق مع خطره من القسوة والقوة، وإنما هو مباح أو كالمباح حتى خشيت دنيانا هذه الإباحة من دنيا الأدب، وخافت على أهلها من دعاة الأدب أن يبيحوا فيها ما ليس إلى إباحته من سبيل، فأفسحت صدرها لمن يلجأ إليها من دنيا الأدب، شاكياً ما استحله الغير من ثمرات قريحته ووحي خاطره فحمته بتشريعها، وأحاطته بسياج من قانونها.

وفي دنيا الأدب من المفارقات العجيبة والسير الطريفة ما لا تتسع له الصحائف، فكيف يقوى كاتب على دنيا بأكملها يحصى ما بها ويعدد ما فيها.

محمد قدري لطفي
ليسانسييه في الآداب


مجلة الرسالة/العدد 54
بتاريخ: 16 - 07 - 1934

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...