محمد فهمي عبد اللطيف - العاطفة.. وأثرها في التقدير الأدبي

لما وضع أرسطو مذهبه في النقد الأدبي، أقامه على المنطق والفكر، واعتبر العقل وحده كلَّ شيء في أدراك الحقيقة الفنَّية النافعة، يكشف ويوضح، ويقيس ويضبط، ويتلمس ويعلل، وينتهي من وراء ذلك كله إلى جملة من الضوابط والقوانين، يراها صالحة في كل زمان ومكان لقياس الفن، وتقدير الأدب، وفهم الجمال. فكأن النقد عند هذا الفيلسوف الخالد، باب من الفلسفة؛ وبحث في العلم، فهو يعالجه بالقياس الثابت، والعيان المدرك، والخبر المتواتر، والشاهد البينّ، فأما الحس فلا اعتبار له عنده، ولكنه - كما يقول المعري - زجر طير هي خليقة بالكذب، فأن صدقت فباتفاق!!

هذا المذهب الذي وضعه أرسطو كان مثار خلاف بين النقاد من بعده، وخصوصاً النقاد الفرنسيين الذي نهلوا من مراشف الثقافة الغاليَّة، فجماعة من ورائه يقولون العقل فحسب! وجماعة يذهبون إلى أكثر من ذلك فيقولون: العقل والعاطفة. والذين قرءوا تاريخ الآداب الفرنسية يعرفون إلى أي حد كان النقاد في الطور الأول يمجدون العقل ويذعنون لمنطقه، حتى لقد حاول (ماليرب) أن يخضع له قرائح الشعراء وعواطفهم، ثم أتى من بعده (بوالوّ) الذكي الفطن فمنح العقل المرتبة الأولى في عداد الصفات البشرية، واعتبره مصدر كل أثر ذي شأن في النقد والأدب. ولكن لما جاء (شاتوبريان) انتهج في النقد نهجاً أحفل بالفن فقال: إن العقل وحده لا ينتج أعمالاً عظيمة، وإن الناقد الحقيقي من حكّم عقله وقلبه، واستغلَّ منطقه وعواطفه معاً في فهم ما يقرأ. فلما كان العهد الأخير قامت المناظرة حادة عنيفة بين فردينان برونتيير وأناتول فرانس حول الملكات المعتبرة في النقد فقال برونتيير: العقل. . . ثم العقل. . . ثم العقل. وقال فرانس: كلا!! لا يمكن أن يكون فن الأدب غير عاطفي، وكذلك نقده. لأن الفن ذاته عاطفة، وكاذبون هم أولئك النقاد الذين يزعمون أنهم قادرون على انتقاد الأدب وتقديره دون عواطفهم! وعندي أنه ليس أسخف من ناقد يتخذ مقاييس الألفاظ والأوزان في نقد قطعة فنية نفخ فيها صاحبها من عواطفه، واعتصرها من روحه وإحساسه، فأن المشاكل الخفية في الأدب والنقد لا يحلها علم النحو والصرف، ولا تشرحها المعاجم وأوضاع اللغة، ولكنها في حاجة إلى تلك العاطفة العلوية الفياضة التي لا تقيدها فواصل وحدود، ولا تحدها أبعاد وتخوم!!

والواقع أننا نستبد بعواطفنا كثيراً ونجحد الحق وما هو ثابت من نواميس الحياة إذ نندفع في تيار أولئك الواقعيين فنعتبر العقل كل شيء في تعليل كل ما نرى من المظاهر والظواهر، حتى ما يتصل بميولنا وعواطفنا؛ فأن هناك القلب يجب أن نجعل له اعتباراً كبيراً في شؤون الحياة إلى جانب العقل، ويجب أن نعتقد بأن له منطقاً كمنطق العقل إن لم يكن أرهف وأدق، وهو وحده الذي يشعرنا في رحلة الحياة الشاقة ببرد الراحة، ويقع من نفوسنا اللاغبة موقع الماء العذب من نفس الصادي في اليهماء القاحلة. ولا شك أننا لو طاوعنا هؤلاء الناس وجعلنا العقل كل شيء لصارت الحياة جحيماً لا تطاق، ولفررنا من شقائها كما يفر بعض الناس في هذه الأيام بالموت والانتحار، بل ولتمردنا على كثير من النظم والأوضاع والشرائع الطيبة النافعة التي تكفل السعادة للمجتمع، والتي لا يمكن أن يمجدها أولئك الواقعيون الماديون أنفسهم. وأنت - أبقاك الله - تأمل في نفسك، وانظر فيما يحف بك من النظم الاجتماعية، والقيود الثقيلة التي تربطك بالمجتمع الذي تعيش فيه، والسلاسل والأغلال التي تثقل جيدك وتنقض ظهرك، من واجبات نحو الأسرة، والأب، والأم، والزوجة، والوطن، والدين، والتقاليد، وفكرات الشرف والعرض، وكل ما إلى ذلك، ثم استسلم إلى العقل وحده وانزل على حكمه في فهم تلك الأمور عامتها، تجده يجيبك جواباً لا يرضاه العقل نفسه، لأن الطبيعة قد خصت الإنسان بشيء يمتلك ناصية عقله ويتحكم فيه التحكم كله، شيء آت من الناحية الروحية القلبية التي هي مصدر العواطف والمشاعر فلإنسان - كما يقول العقاد - لا يحيا بالعقل وحده، ولا يفهم بالعقل وحده، ولكنه يحيا بالحياة التي هي مجموعة من الحس والغريزة والعطف والبداهة والخيال والتفكير. فأنت إذا أردت أن (تفهم) إنساناً فليست كل وسائلك إلى فهمه أن تسلط عليه ملكة التحليل والتعليل، بل أنت مشترك في فهمه بخيالك وحسك وغريزتك وتفكيرك وعطفك وجميع أجزاء حياتك، وشأنك في فهم الكون كشأنك في فهم الإنسان أو فهم أي شيء من الأشياء وخاطرة من الخواطر. فقولك (تفهمها) مرادف لقولك تحسها وتتخيلها وتشملها بعطفك وبديهتك وتفكيرك. ولأن تحس ما ينبغي لك عمله دون أن تقوى على تعليل ذلك خير لك وألف خير من أن تعلل وتحلل وأنت عاجز عن العمل والإحساس

وإذن فليس من الصواب أن نتخذ العقل وحده طريق إدراك وفهم، وأداة تقدير وحكم، وإنما الواجب أن نستخدم في ذلك جميع حواسنا وعواطفنا وكل ما لدينا من المواهب والملكات.

وإذا كان هذا من اللازم بالنسبة لاعتبارات الحياة ومسائل العلم، فأنه لا شك ألزم بالنسبة لتقدير الأدب الذي هو فيض العواطف، وذوب المشاعر، ورسالة الروح، ومن ثم تعلم سر الفشل الذي يحيق بأناس يحملون أنفسهم على معالجة الأدب، ويبيحون لضمائرهم القضاء في مسائله وهم أجلاف غلاظ قد سلبوا كل إحساس وكل عاطفة. ولقد حكى العقاد فقال: كنا منذ أيام نتطارح قصيدة أبن الرومي في رثاء ولده (محمد) وهي القصيدة التي يقول فيها:

طواه الردى عني فأضحى مزاره ... بعيداً على قرب قريباً على بعد
لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها ... وأخلفت الآمال ما كان من وعد
ألح عليه النزْف حتى أحاله ... إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد
وظل على الأيدي تساقط نفسه ... ويذوي كما يذوي القضيب من الرند

إلى أن يقول:

وأولادنا مثل الجوارح أيها ... فقد كان الفاجع البيّن الفقد
لكل مكان لا يسد اختلاله ... مكان أخيه من جزوع ولا جلد
هل العين بعد السمع تكفي مكانه ... أو السمع بعد العين تهدي كما يهدي
ثكلت سروري كله إذ ثكلته ... وأصبحت في لذات عيشي أخا زهد

إلى أن يقول:

محمد! ما شيء توهم سلوه ... لقلبي، إلا زاد قلبي من الوجد
أرى أخويك الباقيين كليهما ... يكونان للأحزان أورى من الزند
إذا لعبا في ملعب لك لذّعا ... فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد
فما فيهما لي سلوه بل حزازة ... يهيجانها دوني وأشقى بها وحدي

فكنا نجمع على أنها خير ما قيل في الشعر العربي في رثاء ولد، إلا رجلاً لا بأس باطلاعه كان يقول: ولكن أحسن من هذا قول أبن نباته في رثاء ابنه:

قالوا فلان قد جفت أفكاره ... نظم القريض فما يكاد يجيبه هيهات نظم الشعر منه بعدما ... سكن التراب وليده وحبيبه

وقوله فيه:

يا راحلاً من بعد ما أقبلت ... مخايل للخير مرجوة!
لم تكتمل حولاً وأورثتني ... ضعفا (فلا حول ولا قوة)

وجعل يعجب من (وليده وحبيبه) التي فيها تورية بالبحتري وأبي تمام! ويستظرف قوله (فلا حول ولا قوة) ويقول: إن في هذا المعنى لحسناً! وقد استغرب العقاد ذلك الاستحسان من ذلك الرجل الذي (لا بأس باطلاعه) وعجب له كيف يرفع أبن نباته في شعوذته وألاعيبه على أبن الرومي في لوعته وأساه؛ وعندي أنه لا وجه للعجب والاستغراب، لأن ذلك الرجل وإن كان (لا بأس باطلاعه) إلا أنه - على ما هو واضح من شأنه - لم يرزق الإحساس الفني، والعاطفة الفياضة التي تفتح له آفاقاً من الفهم، وتهيئ له الإدراك والنظر في الأدب وما هو بسبيل الأدب من مظاهر الفن والجمال، فليس من الغرابة أن يخطئ ذلك الرجل في التقدير الأدبي، وأن يسف هذا الإسفاف البين في الحكم على الشعر، ولكن من الغرابة أن يباح له النظر في الأدب، والحكم على أقدار الأدباء، ووضعهم فيما هو جدير بهم من المكانة الفنية، وما هو من أهل ذلك ولا عنده أداته من الطبع والحس والعاطفة وبشاشة الروح. وكأن الجاحظ كان يقرر هذا المعنى إذ يقول: طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يعرف إلا غريبة، فرجعت إلى الأخفش فألفيته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيده فرأيته لا ينتقد إلا ما اتصل بالأخبار وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتّاب كالحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك الزيات. وصدق أبو عثمان، لأن أدباء الكتاب أدق إحساساً، وأوفى شعوراً، وأرهف عاطفة، فهم أقدر على اختراق معالم الوجدان والإحساس بجمال الآثار الفنية، والصور الذهنية المرسومة، فيكون بين الناقد والقائل تجاوب روحي، وامتزاج في الأحاسيس، وهذا هو طريق الإدراك الصحيح، والتقدير الحق، وكأني به الطريق الذي ينشده الفنانون أنفسهم، فقد طلب (بودلير) في الناقد أن يكون مرهف العاطفة، دقيق الإحساس، ينتقد بانفعال، لأن الانفعال يقرب بين الأمزجة ويسمو بالمدارك وكذلك اشترط البحتري في نقد الشعر أن يكون من شاعر مارس الفن، إذ سأله عبيد الله بن طاهر فقال: يا أبا عبادة! مسلم أشعر أم أبو نواس؟ فقال: بل أبو نواس لأنه يتصرف في كل طريق، ويتنوَّع في كل مذهب، أن شاء جد، وأن شاء هزل! ومسلم يلزم طريقاً واحداً لا يتعداه، ويتحقق بمذهب لا يتخطاه. فقال له عبيد الله: إن أحمد بن يحيى ثعلباً لا يوافقك على هذا! فقال: أيها الأمير! ليس هذا من علم ثعلب وإضرابه. . . وإنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه!!

وإنها لنظرة بصيرة اتفق فيها الشاعران الفرنسي والعربي، لأن الناقد فنَّان قبل كل شيء، وإن التقدير الأدبي موهبة لا تتأتى ولا تستقيم كما يظن بعض الناس بدراسة النحو والصرف، واللغة والغريب، والتوفر على البحث في بطون الكتب، فأن هذا كله لا يجدي ولا ينفع إذا لم تكن ثمة فطرة سمحة، ونفس مجلوة وطبيعة مواتية، وعاطفة فياضة فنّانة، وإن العلم مهما بلغ مقداره لا يخدم في الفطن الحمأة، ولا يقوّم المشاعر المعوجة. ويا ضيعة الأدب، ويا خسارة الفن إذا ما جمدنا في تقديرهما على أوضاع أهل اللغة، واعتبارات علماء البلاغة. ولعمرك إلى أي حد تفيد هذه الأشياء في التقدير الفني لقول الطغرائي مثلاً يصف شجو حمامة سمعها تنوح وهو غريب بالعراق:

أيكّيه صدحت شجواً على فننٍ ... فأشعلت ما خبا من نار أشجاني
ناحت وما فقدت إلفاً ولا فجعت ... فذكرتني أوطاري وأوطاني
طليقة من إسار الهم ناعمة ... أضحت تجدد وجد الموثوق العاني
تشبهت بي في وجدي وفي طربي ... هيهات ما نحن في الحالين سيان
ما في حشاها ولا في جفنها أثر ... من نار قلبي ولا من ماء أجفاني
يا ربّة البانةِ الغناءِ تحضنها ... خضراء تلفت أغصانها بأغصان
إن كان نوحك إسعاداً لمغترب ... ناءٍ عن الأهل ممنوع بهجران
فقارضيني إذا ما اعتادني طرب ... وجداً بوجدٍ وسلواناً بسلوان
أولا فقصرَك حتى أستعين بمن ... يعنيه شأني ويأسو كلم أحزاني
ما أنت مني ولا يعنيك ما أخذت ... مني الهموم ولا تدرين ما شأني
كلي إلى الغيم إسعادي فان له ... دمعاً كدمعي وإرناناً كأرناني

أو كقول أبن الجهم:

وا رحمتا لغريب بالبلد الن ... ازح ماذا بنفسه صنعا؟ فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا

يقول في نأيه وفي غربته: ... عدل من الله كل ما صنعا!

أو لهذه القطعة التي نفث بها حافظ وقد عبر بدار كانت مدرجة لهوه، وملعب شبابه، فلما رآها قد غيَّرت معالمها الأيام حتى خفيت عليه جاشت نفسه بالشعر فقال:

كم مر بي فيك عيش لست أذكره ... ومرّ بي فيك عيش لست أنساه
ودّعت فيك بقايا ما علقت به ... من الشباب وما ودعت ذكراه!
أهفو إليك على ما أقرحت كبدي ... من التباريح أولاه وأخراه
لبسته ودموع العين طيعة ... والنفس جياشة والقلب أواه
فكان عوني على وجد أكابده ... ومر عيش على العلات ألقاه
إن خان ودي صديق كنت أصحبه ... أو خان عهدي حبيب كنت أهواه
قد أرخص الدمع ينبوع الفناء يه ... والهفتي ونضوب العيش أغلاه
كم روح الدمع عن قلبي وكم غسلت ... منه السوابق حزناً في حناياه
لم يدر ما يده حتى ترشفه ... فم المشيب على رغم فأفناه
قالوا: تحررت من قيد الملاح فعش ... حراً ففي الأسر ذل كنت تأباه
فقلت: يا ليته دامت صرامته ... ما كان أرفقه عندي وأحناه
بدلت منه بقيد لست أفلته ... وكيف أفلت قيداً صاغه الله؟
أسرى الصبابة أحياء وإن جهدوا ... أما المشيب ففي الأموات أسراه!

فهذا شعر حي نابض، يتفجر بالعواطف، ويفيض بالأحاسيس حتى لتلمس فيه من ذلك أجساماً حية. . . وإنه لنمط أعلى من الفن الخالد على الأيام، الباقي على الدهر، ولكن ترى ماذا تكون قيمة هذا الشعر إذا ما وقف ناقد في تقديره عند قواعد اللغة والنحو، وتناوله بمقاييس (التورية والجناس) والمقابلة والطباق؟ إنه لا شك ينحط به سافلاً سافلاً حتى الحضيض، وإنه لا شك سيرتفع عليه عالياً عالياً بسفاسف الطبقة النازلة من أمثال أبن النبيه والشاب الظريف كما رفع صاحب العقاد (أبن نباته بشعوذته وألاعيبه على أبن الرومي في لوعته وأساه) ومن هنا تنقلب الأوضاع، ويغدو النقد وهو أداة جمود الأدب، وخذلان للقرائح العبقرية، وعامل تقهقر يرجع بالفن إلى الوراء أضعاف ما يجب أن يندفع به إلى الأمام!

فالناقد الحقيقي هو من حكم عقله وقلبه كما يقول شاتوبريان واستغل منطقه وعواطفه في تقدير ما يقرأ، حتى يستطيع أن يقدر التقدير الصحيح، وأن يخدم الحقيقة الفنية والجمال البياني وإلا فهو فاشل في مهمته، يجني على الفن، ويبخس النبوغ، ويكشف نفسه ويعرضها للسخرية، وكأن العلماء قد أدركوا تلك الحقيقة إذ أنكروا على (المعلمين) والرواة أن يكون لهم في نقد الشعر والحكم عليه، فكثيراً ما تنادر الجاحظ عليهم من جراء ذلك حتى أتخذهم مادة لعبثه ومضاحيكه؛ وكثيراً أيضاً ما نالهم الشعراء أنفسهم بقوارص الكلم، وأليم الهجاء. ولعل من أفكه ما لهم في ذلك قول عبيد الله بن عبد الرحمن الأهوازي في معلم أزري على شعره:

يعبب الأحمق الممرور شعري ... وهجوي في بلادته يسير!
ويزعم أنه نقاد شعري ... هو الحادي وليس له بعير

وفي هذا النمط ما روي من أن أبا جعفر الخزاز عاب شعراً للبحتري، فكانت كبيرة على نفس البحتري حتى عدها إحدى نوائب الدهر إذ يقول:

الحمد لله على ما أرى ... من قدر الله الذي يجري
ما كان ذا العالم من عالمي ... يوماً ولا ذا الدهر من دهري
يعترض الحرمان في مطلبي ... ويحكم الخزاز في شعري

وقد كان الخزاز كما وصفه ياقوت راوية مكثراً موصوفاً بالثقة أخذ عن أبي الحسن المدائني والعتابي، فما نحسب البحتري أنكر عليه النظر في الأدب والحكم على شعره من جهة اطلاعه وعلمه، ولكنه لا شك أنكره عليه من جهة استعداده الفني، ورحابة عواطفه، وسماحة طبعه. ولست ادري ماذا كان يقول أبو عبادة لو أمتد به الأجل ورأى الأدب يحتمل الرهق كل الرهق من (خزازين) كثيرين يتولون دراسة الأدب في مدارسنا المصرية وهم كجماعة المعلمين في قرطبة الذين تحدث عنهم أبن شهيد في قصة التوابع والزوابع ينحتون عن قلوب غليظة كقلوب البعران إلى فطن حمأة، وأذهان صدئة، لا منفذ لها من الرقة ولا مدب لها في شعاع البيان، وكل بضاعتهم من الأدب كلمات من غريب اللغة، وبعض مسائل من النحو والصرف وعلوم البلاغة لا يفهمون منها إلا ما يفهم القرد اليماني من الرقص على الإيقاع، والزمر على الإلحان. فهم يتنكبون النواحي العاطفية في الأدب، ويقفون في تقديرهم عند الصور الجافة من الفن البياني يقدمونها لتلاميذهم فيجد التلاميذ في تناولها غضاضة دونها غضاضة المريض من تناول الدواء، الأمر الذي ألقى في روع أولئك المساكين أن الأدب العربي كله نمط واحد من الكزازة والجفوة والتشوفة والغثاثة والثقل، فانصرفوا عنه يطلبون متاعهم العقلي ولذتهم العاطفية في رياض الآداب الغربية، فإذا ما جلست إلى الواحد منهم وجدته من العلم بتلك الآداب بمكان، على حين لا تجده من الأدب العربي على بال، وتلك حال لو دامت فستكون الشر المستطير، والخطر الكبير

محمد فهمي عبد اللطيف


مجلة الرسالة - العدد 275
بتاريخ: 10 - 10 - 1938

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...