خليل مردم بك - جمهرة المغنين..

أو شرح قصيدة السيد عبد الرحمن ابن النقيب المعروف بابن حمزة التي يذكر فيها المغنين والندماء في الدولتين الأموية والعباسية


لا مرية بأن الغناء راحة الروح وترجمان العواطف ومسرة الشعور ومثير الاحساسات ترتاح إليه النفوس على السراء والضراء وحين اليأس وينفث الإنسان به ما أكنه صدره في كمين التأثرات وجن في حنايا ضلوعه من خفي السرائر مما لا يدركه الوهم ولا يتوهمه الإدراك فما يكاد يطرق سمع السامع حتى يفعل به فعل الكهرباءة بالأجسام فكم من جبان عاد بتأثيره شجاعاً وبخيل أصبح جواداً أو عزهاة أمسى وامقاً فأي ناسك يسمع العاشق يناجي محبوبته مغنياً ومستفهماً

هل تعلمين وراء الحب منزلة ... تدني إليك فإن الحب أقصاني

ولا ينقلب أكثر صبابة من جميل بثينة بل وأي غريب يسمع الشاعر اليماني وهو يجود بنفسه نازحاً عن بلده يطرب بقوله:

ولما تراءت عند مروٍ منيتي ... وخل بها جسمي وحمت وفاتيا
أقول لأصحابي أرفعوني لأنني ... يقر بعيني أن سهيل بداليا

ولا ينقطع نياب قلبه حنيناً لوطنه.

ولم يستبد بالغناء قوم دون قوم بل ولا الإنسان دون الحيوان فما تغريد الطائر عند انصداع الفجر على غصن يأوده نسيم سج في روضة أنف بل وما بغام الظباء عندما تودع الشمس الأفق تاركة بوجناته أرجوانية من القبلات في فلاة لا يدرك الطرف أخرها الاغناء تعرب عما تتأثر به وكم من صادح رفرف على رأسه مغن

والطير قد يسوقه للموت ... اصفاؤه إلى حنين الصوت

ووحش أنس بصوت حسن وأشباه ذلك كثير فيما سنذكره في لمعة عن تاريخ الغناء والمغنين. ولقد اطلعت على قصيدة فريدة في بابها للسيد عبد الرحمن النقيب المعروف بابن حمزة يذكر فيها المغنين والندماء ومجالسهم عند خلفاء الدولتين واحداً بعد واحد إلى زمن الراضي ثم ذكر البرامكة وآل حمدان وابن العميد والصاحب ابن عباد ثم شفع ذلك بذكر الأماكن التي لها مناسبة ومساس بالموضوع كغوطة دمشق وشعب يوان وصغد سمرقند والأبلة ثم أورد طرفاً من مدينة العباسيين وعاداتهم في سكنهم ومعاشهم وختمها بتوديع ك ذلك بالسقيا لهم ولأيامهم شأن كل من اطلع على يسير من تاريخهم. فداخلني إذ ذاك من السرور ما الله به عليم لأنها طبقات رجال أكل الدهر على أخبارهم وشرب حتى أصبحوا نسياً منسياً لكنها لا تقف بالقارئ على أكثر من تعداد أسماء لا يعرف من حالها شيئاً (أعني المغنين) فرأيت إن أشرحها شرحاً يفسر من محاسنها ويكشف النقاب عن فضارتها بعد أن فاتحت بذلك أحد أركان العلم والأدب فما كان منه إلا أن نفث في روعي روحاً أججت فاتر الهمة فعند ذلك مضيت في العمل فما زلت التقت من كل كتاب نادرة وطومار نكتة شاردة أضم بعضها إلى بعض وأقرب المسافات بينها بالمناسبات (لتفرق ذلك في مبعثرات الكتب وعدم تدوينه في كتاب على حدة فيما وصلنا من الأسفار قليل ما هي) حتى أقمعته وأنا على ثقة من أني لم أبلغه درجة الكمال لكان جهد المقل وغاية المملق وتتميماً للفائدة صدرته بلمعة ذكرت فيها (تاريخ الغناء، وأول من دونه، وتأثيره، وآلاته، ومن دونت له صنعة فيه من الخلفاء وأولادهم، احتج به في جوازه، وتاريخ المغنين، ومنزلتهم، وترجمة صاحب القصيدة) وترجمة الشرح (بجمهرة المغنين).

لمعة في تاريخ الغناء والمغنين

تاريخ الغناء

الغناء قديم وجد مع النفس فهو تربها الذي تأنس به وصاحبها الحميم تفزع إليه وقت الشدائد وتستعين به على تنمية ما تميل إليه من حزن أو سرور ولم يكن الغناء في فابر العصور على ما نعهده اليوم من ضبط القواعد والروابط بل كان بسيطاً ساذجاً وأول من جعل له قواعد وضوابط على ما قيل بطليموس وكان أول من غنى في العرب لعاد يقال لهما الجرادتان ومن غنائهما

ألا يا قيين ويحك قم وهينم ... لعل الله يصبحنا غماما

وهكذا كان غناء العرب في جاهليتهم ساذجاً كتغني الحداة في حداء إبلهم والفتيان بالقمر والنجم والفلاة والخيل. وقد ورد ذكر الغناء في شعرهم قال طرفة ابن العبد:

إذا نحنا قلنا اسمعينا انبرت لنا ... على رسلها مطلوقة لم تشدد

أي لم تتكلف وهذا هو الغناء الساذج وكانوا يطلقون على الترنم بالشعر اسم غناء وإن كان بالتهليل أو القراءة سموه تغيراً لأنه يذكر بالغابر ولم يزالوا على طريقتهم هذه بالغناء إلى أن جاء الإسلام ودوخوا الأقطار واستولوا على الممالك فكانوا إذ ذاك لا يطريون إلا بالقراءة والشعر الحماسي لتمكن الدين منهم ولأنهم في دور تأسيس وفتوح فلما استتب لهم الأمر غلب عليهم الرفه والترف بما حصلوا عليه من غنائم الأمم فمالوا إلى الدعة والسعة في العيش ورقت طبائعهم ولانت جوانبهم وتفرق المغنون من الفرس والروم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي لهم وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم وظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائب خاثر مولى عبد الله بن جعفر فلحنوا شعر العرب وأجادوا فيه وطويس أول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق وعنه أخذ ابن سريج والدلال ونؤمة الضحى وكان يكنى أبا عبد المنعم وأول صوت غنى به في الإسلام:

وقد براني الشوق حتى ... كدت من شوقي أذوب

وما زالت صنعة الغناء تتدرج في مدارج الارتقاء إلى أن بلغت الغاية القصوى أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي الموصلي وابنه اسحق وابنه حماد وكانت الدولة يوم إذ في عنفوان شبابها وكانت العرب اشتغلت في نقل العلوم وكان من جملتها كتب الموسيقى لليونان والهند فتناولوها ودرسوها وأصبحت الموسيقى عندهم علماً ذا أصول وألفوا فيها التأليف دع ما استنبطوه من الألحان واخترعوه من الآلات وأمعنوا في القصف واتخذت آلات الرقص في الملبس والقضبان والأشعار التي يترنم بها لميه وجعل صنفاً واحداً واتخذت آلات أخرى للرقص تسمى بالكرج وهي تماثيل خير سرجة من الخشب معلقة بأطراف أقبية يلبسها النسوان ويحاكين بها امتطاء الخيل ويكررن ويفررن ويثاقفن وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتقل فن الغناء إلى المغرب بواسطة زرياب غلام الموصلبين فإنه لحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن

الداخل أمير الأندلس فبالغ في تكرمته وركب للقائه وأسنى له الجوائز وجعله من خواص ندمائه فأورث بالأندلس من صنعة للغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف وطمامتها بإشبيلية بحر زاخر وعقدت للغناء المجالس وماأدراك تلك المجالس قباب من بلور يتحدر الماء من أطرافها ومن حول القوم الحور وبينهم فتانة العينين مهضومة الحشا تنحني على ابن الطرب فتغنيه مشفقة.

(جادك الغيث إذا الغيث هما ... يا زمان الوصل في الأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما ... في الكرى أو خلسة المختلس)

وتناقل منها بعد ذهاب عضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقيا والمغرب وانقسم على أمصارها: ولم يزل الغناء يتكيف بمجريات الدولة العباسية صعوداً وهبوطاً حتى جرت عليها جوار السعد والنحس فتارة تعتورها دواعي الانحلال وأخرى تصادمها هوادي الاضمحلال وهي تتماسك تماسك الريحانة في مهاب الرياح إلى أن قضى عليها القضاء المبرم فقضى معها الغناء كما قضت فنون الأدب وكثير من العلوم فلبثت علوم الأدب ومعها الغناء في طي الخفاء ماشاء الله أن تلبث فكان الغناء يعد في تلك الفترة لغواً وينظر للمغني بالنظر الذي لا يرضاه الأدب إلى أن بعث الله تعالى في هذه العصور الأخيرة في مصر والشام والعراق من نهض بالأدب من كبوته وبالغناء من القطرين الأولين من عثرته ولكن لم يزل الغناء حتى الآن في دور طفولتيه لم يبلغ الحلم كأخيه الشعر وسائر فنون الأدب التي قطعت شوطاً بعيداً.

أول من دون الغناء

اتفق الجمهور على أن واضع هذا الفن أولا فيثاغورس فإنه صنع آلة وشد عليها ابريسماً ووضع قواعد هذا العلم وأضاف بعده الحكماء مخترعاتهم إلى ماوضعه إلى أن انتهت التوبة إلى أرسطاطليس فتفكر فوضع الأرغنون وكان غرضهم من استخراج قواعد هذا الفن تأسيس الأرواح والنفوس الناطقة إلى عالم القدس لا مجرد اللهو والطرب. أما عند العرب فإن أول من ألف في هذا الفن يونس بن سليمان الكاتب الذي أخذ الغناء من معبد وتبعه كثيرون كالخليل ابن أحمد فإنه ألف كتاباً في الموسيقى زم فيه أصناف النغم وحصر به أنواع اللحون وحدد ذلك كله ولخصه وذكر مبالغ أقسامه ونهايات أعداده. وكيحو بن أبي منصور الموصلي فإنه ألف كتاباً في الأغاني وآخر في العود والملاهي وابراهيم بن المهدي ألف كتاباً سماه كتاب الغناء واسحق بن ابراهيم الموصلي ألف كتباً كثيرة في الغناء والمغنين. وبذل المغنية ألفت كتاباً في الأغاني يشتمل على أثني عشر صوت ويحي بن مرزوق المكي ألف متاباً يشتمل أيضاً على أثني عشر ألف صوت إهداء إلى محمد بن عبد الله ابن طاهر فوصله بثلاثين ألف درهم وشاع هذا الكتاب وصححه الموصلي وعبد الله ابن عبد الله بن طاهر ألف كتاباً دعاه (الآداب الرفيعة) في النغم وعلل الأغاني.

وأمير المؤمنين عبد الله بن المعتز ألف كتاباً سماه (الجامع في الغناء) وغير هؤلاء كثيرون ولم يصلنا من هذه الكتب غير كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني وهو من أجل كتب هذا الفن إن لم يكن أجلها.

(دمشق)
خليل مردم بك

مجلة المقتبس - العدد 95
بتاريخ: 1 - 12 - 1914

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...