محمد مصطفى - في التصوير الإسلامي.. ليلى والمجنون - 3 -

أقام المجنون بين أهله وذويه، يواسونه ويعطفون عليه، ويخصونه برعايتهم وعنايتهم، حتى تاقت نفسه إلى رؤية حبيبته ليلى، فاصطحب بعض أصحابه المخلصين، وذهب معهم إلى حي قبيلتها، فوجدوها جالسة أمام بيتها مع بعض أهلها. وعرفته ليلى فحيته وحياها، ولكنه لما أراد أن يقترب منها ليحادثها منعه ذووها. فأعاده أصحابه إلى بيت والديه مهموما حزيناً متفكراً. وظل يتفكر في أمرها حتى منعه ذلك من الطعام والشراب، وترك محادثة الناس، وصار في حد يرحمه كل من رآه من عدو وصديق، فكان يقول:

ما بال قلبك يا مجنون قد خُلعا ... في حب من لا ترى في وصلها طمعا
الحب والود نيطا بالفؤاد لها ... فأصبحا في فؤادي ثابتين معا

ولامه أهله وعذلوه وقالوا: لا خير لك في ليلى ولا لها فيك، فلو تزوجت واحدة من بنات عمك، نرجو أن يذهب عنك بعض ما بقلبك من حب ليلى، فأنشأ يقول:

قضى الله بالمعروف منها لغيرنا ... وبالشوق مني والغرام قضى ليا
أراني إذا صليتُ يممتُ نجوها ... بوجهي وإن كان المصلى ورائيا
وما بي إشراك ولكن حبها ... وعظم الجوى أعيا الطبيب المداويا
أحب من الأسماء ما وافق اسمها ... وأشبهه أو كان منه مدانيا

واشتد بالمجنون الأمر حتى خاف عليه أهله، فذهب معه أبوه وبعض رجال عشيرته إلى والد ليلى وقالوا له: إن هذا الرجل لهالك، وإنك فاجع به أباه وأهله، فنشدناك الله والرحم أن تزوجه ليلى، فوالله ما هي أشرف منه، ولا لك مثل مال أبيه، وقد حكمك في المهر، وإن شئت أن يخلع نفسه إليك من ماله فعل. فأبى وحلف بالله وطلاق أمها أنه لا يزوج ابنته هذا الرجل المجنون أبداً، فقال قيس:

ألا أيها الشيخ للذي ما بنا يرضى ... شقيتَ ولا هنيتَ من عيشك الغضّ شقيتَ كما أشقيتني وتركتني ... أهيم مع الهلاّك لا أطعمُ الغمضا

كأن فؤادي في مخالب طائر ... إذا ذكرت ليلى يشد بها قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم ... على فما تزداد طولاً ولا عرضا

وسمعه أبوه الملوح فأشفق عليه، وقال إن ابنه عاقل وليس به جنون، ثم التفت إليه وناداه أن يتقدم ويخاطب والد حبيبته ليثبت له عقله ورشاده. . . وتقدم قيس. . . وإذا بكلب ليلى يظهر بغتة، فيعرف فيه حبيب سيدته، ويبصبص له بذنبه. . . فلم يتمالك المجنون من أن يلقى بنفسه على الأرض، إلى جانب الكلب، ليحتضنه ويناجيه ويسأله عن ليلى. . . فكان في ذلك أكبر دليل على جنونه. ورجع أبوه معه إلى بيته حزيناً وقد خاب أمله

ولما حاول أهله مرة أخرى أن يزوجوه إحدى بنات عمه، مزق ملابسه، وفر هارباً. . . إلى حيث تأتيه ذكريات ليلى. . . إلى جبل التوباد. . . ولما دنا منه قال:

وأجهشتُ للتوباد حين رأيته ... وكَبَّر للرحمن حين رآني
وأذريتُ دمع العين لما عرفته ... ونادى بأعلى صوته فدعاني
فقلت له أين الذين عهدتهم ... حواليك في حفظ وطيب زمان
فقال مَضوْا واستودعوني ديارهم ... ومَنْ ذا الذي يبقى على الحدثان

ثم خر مغشياً عليه، فوجده بعض عابري سبيل، فأشفقوا عليه، وحملوه إلى منزل والديه

وفي (شكل 1) اجتمع الملوح بن مزاحم وبعض أقاربه بوالد ليلى يخطبونها لأبنهم قيس. ويرى قيس وقد ألقى بنفسه على الأرض يحتضن كلب ليلى ويناجيه، ويحاول أخوه عبثاً أن يجره إلى الخلف ليبعده عن الكلب. وجلس والد ليلى في الوسط وقد ثبت ما قاله عن جنون قيس، وإلى يمينه الملوح وقد ظهر على وجهه الحزن والأسى. ووضع بعد الحاضرين أصابعهم السبابة في أفواههم دلالة على ما اعتراهم من دهشة لهذا المنظر الغريب الغير مألوف لديهم. وهذه الصورة في مخطوط من منظومات الشاعر هاتفي الجامي، مؤرخ سنة 941هـ (1535م) ومحفوظ في مكتبة الدولة ببرلين.

أفاق المجنون من غشيته حائل اللون ذاهلاً، فوجدة نفسه في منزل والديه وقد جلسا إلى جانبه مع اخوته ابن عمه زياد بن مزاحم وبعض أقاربه، يبتهلون إلى الله تعالى أن يخفف عن قيس ويرد إليه عقله. وأجال المجنون بصره فيمن حوله، فتبينهم وعرف فيهم أهله وذويه، فترك لنفسه العنان، وجعل يبكي أشد بكاء وأوجعه للقلب ويقول:

صريع من الحب المبرح والهوى ... وأي فتى من علة الحب يسلم

وتقدم الناس إلى أبيه أن يخرجه إلى مكة، ويعوذه بيت الله الحرام، لعل الله يعافيه مما ابتلى به. فخرج به أبوه، وسار معه ابن عمه زياد، الذي جعل يلازمه ويدون ما يقول من أشعار وأناشيد. ومروا في طريقهم بحمامة تنوح على دوحة، فوقف المجنون صاغياً لها يبكي، وتخلف معه زياد وقال له: ما هذا الذي يبكيك؟ سر بنا نلحق الرفقة. فأنشد المجنون:

أأن هتفت يوماً بوادٍ حمامةٌ ... بكيتَ ولم يعذِرك بالجهل عاذرُ
دَعتْ ساقَ حرٍ بعدما عَلَت الضحي ... فهاج لكَ الأحزانَ إن ناح طائرُ
يقول زيادٌ إذ رأى الحيَّ هَجَّروا ... أرى الحيَّ قد ساروا فهل أنت سائرُ
وإني وإن غالَ التقادمُ حاجتي ... مُلِمٌّ على أوْطان ليلى فناظرُ

ولما دخل مكة أمره أبوه أن يدعو الله أن ينسيه ذكر ليلى ويبغضها إليه، فقال المجنون: اللهم زدني لليلى حباً، وبها كلفاً، ولا تنسني ذكرها أبداً. فزجره أبوه وأخذه حتى أمسكه أستار الكعبة وقال له: قل اللهم أرحني من ليلى وحبها. فتعلق المجنون بأستار الكعبة. . .

ولكن قال يا ربُّ ... ملكت الخير والشرَّا
فهات الضرَّ إن كان ... هوى ليلى هو الضرَّا
وإن كان هو السحر ... فلا تُبطلْ لها سحرا
ويا رب هب السلوى ... لغيري وهب الصبرا
وهب لي موتة المُضْني ... بها لا ميتة أخرى

(شوقي)

فلما سمعه أبوه رق له، وأخذ بيده نحو (منى) يريد رمي الجمار. وكان الوقت موسم الحج، والطريق غاصة بقوافل الحجاج، تغدو وتروح بين بيت الله لحرام وجميع بلاد العالم الإسلامي. وكان قيس يسير بين أهله متفكراً، يستقبل الريح التي تهب من ناحية نجد، وإذا به يسمع صوت حاد يتجه صوب تلك الناحية، حيث مضارب بني عامر على سفح جبل التوباد. ثم يتعالى الصوت قليلاً قليلاً حتى يظهر الحادي ومن ورائه قافلة تسير، وأنصت قيس، وإذا بالحادي ينشد في صوت عذب حنون: هلا هلا هيَّا، إطوى الفلاطيا، وقربي الحيا، للنازح الصب جلاجل في البيد، شجية الترديد، كرنة الغرِّيد، في الفنن الرطب هلا هلا سيري، وامضي بتيسير، طيري بنا طيري، للماء والعشب طيري اسبقي الليلا، وأدركي الغيلا، العهد من ليلى، ومنزل الحب بالله يا حادي، فتش بتوباد، فالقلب في الوادي، والعقل في الشعب

(شوقي)

ولما سمع المجنون الحادي يردد في أنشودته ذكر ليلى والتوباد، صرخ صرخة مدوية وخر مغشياً عليه. واجتمع عليه قومه، وأبوه باك حزين، وجعلوا يروحون له ويرشون على وجهه الماء إلى أن أفاق مصفر اللون وأنشأ يقول:

وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... إطار بلى طائراً كان في صدري
دعا باسم ليلى أسخن الله عينه ... وليلى بأرض الشام في بلد قفر
عرضت على قلبي العراء فقال لي ... من الآن فاجزع لا تمل من الصبر

وفشا أمر المجنون بين الحجاج، فلامه بعض قومه وطلب منه أن يستشعر الصبر ويستبقي مودة الحبيب بكتمان الحب، فكان من جوابه أن قال:

إن الغواني قتَّلت عشاقها ... يا ليت من جهل الصبابة ذاقها
في صدغهن عقارب يلسعننا ... ما من لسعن بواجد ترياقها
إن الشقاء عناق كل خريدة ... كالخيزرانة لا تمل عناقها
زانت روادفها دقاق خصورها ... إني أحب من الخصور دقاقها

إن التي طرق الرجال خيالها ... ما كنت زائرها ولا طراقها

ثم انسل من بين أهله، ومزق ملابسه، ولجأ إلى جبل التوباد، حيث جعل يخطط بإصبعه في التراب، ويجمع العظام حوله، ويعاشر الظباء والوحوش.

وفي (شكل2) نرى الناس وقد أحاطوا بالكعبة الشريفة رافعين أيديهم بالدعاء لقيس أن يمن الله عليه بالفرج. بينما تعلق قيس بأستار الكعبة وهو يقول:

أتوب إليك يا رحمن مما ... عملت فقد تظاهرت الذنوب

فأما من هوى ليلى وتركي ... زيارتها فإني لا أتوب وقد صور المصور الإيراني الكعبة الشريفة بأستارها كما هيأها خياله، وجعل الحمام يطير حولها عليها في أمن وسلام. وهذه الصورة من تصوير المصور حيدر قولي في أسلوب المصور الشهير رضا عباسي. وهي في مخطوط من المنظومات الخمس للشاعر الكنجوي كتب حوالي سنة 1034هـ (1624م) في مدينة أصفهان. وهذا المخطوط محفوظ في المكتبة الأهلية بباريس.

(يتبع)

محمد مصطفى
مساعد فني دار الآثار العربية

مجلة الرسالة - العدد 517
بتاريخ: 31 - 05 - 1943

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...