فخري أبو السعود - في الأدب المقارن.. أثر الأخلاق في الأدبين العربي والإنجليزي

التخلق من صفات الإنسان الذي يحيا في الجماعة، تضطره الحياة الاجتماعية إلى تعديل كثير من طباعه الفطرية التي يجبل عليها، وكبح ما يتنافى منها مع مصلحة المجتمع، الأخذ بما فيه تلك المصلحة، فالأخلاق الحسنة أو الفضائل هي الصفات التي بها يكون صلاح الفرد والمجتمع، ومن أجل هذا الصلاح يحمد الصدق والشجاعة والعفة، ويذم الكذب والجبن والفجور؛ وهذه الأخلاق الحسنة التي هي مزيج من طباع الإنسان المركبة فيه، ومقتضيات المجتمع التي يفرضها عليه، تكاد تتفق بين جميع الأمم في شتى الأصقاع والعصور، فما من أمة لا يحمد فيها الكرم والإيثار والقناعة وتذم الرذائل المضادة لهذه الفضائل، معايير الأخلاق هذه يكاد يتحد فيها الجميع، إنما تختلف الأمم والأفراد في مدى مراعاتها حقاً واتباعها عملاً، باختلاف الجبلات والأوساط الجغرافية والاجتماعية.


وللأخلاق أثرها المحقق آداب الأمة وأدب الفرد. تنعكس الأخلاق في مرآة الأدب كما تنعكس العقليات، ويكون ظهور آثارها في الأدب أحياناً بدهياً تلقائياً غير مقصود، كما يكون أحياناً مقصوداً معنياً، إذ يلجا الأديب إلى تصوير أخلاقه الذاتية وأخلاق غيره من أفراد مجتمعه، وتختلف صبغة أدب الأمة الأخلاقية من جيل إلى جيل، حسب ما يتوالى على المجتمع من عوامل الفضيلة والرذيلة، ومتانة العقيدة الدينية أو انحلالها، وارتفاع المثل العليا التي يتوخاها المجتمع أو انحطاطها، اثر كل ذلك واضح في آداب الأمة المكتوبة وفي أقاصيصها الشعبية وأناشيدها المتداولة.

وفي الأخلاق الفاضلة كما تقدم صلاح المجتمع، بيد أن تحبيذ الفضيلة وذم الرذيلة ليسا وضيفة الأدب الأولى، إنما وضيفته تصوير الجمال ووصف الشعور وبيان الحقائق على ما هي عليه غير مموهة، والعبقرية الفنية والفضيلة ليستا دائما توأمين، بل ربما كان الكثير من رجال الفن أميل إلى الإفراط والتفريط في حياتهم، وابعد عن القصد والاعتدال من عامة الناس، وقد ترقى الفنون وتزدهر في عصور الأدبار الخلقي، كما كانت الحال في إيطاليا في عهد النهضة الأوربية؛ على إن الأدب وان لم تكن غايته نشر الفضيلة، و وضيفته ترقية الأخلاق، إن هو إلا مظهر من مظاهر رقي الإنسان وتحضره، وناحية من نواحي حياته الاجتماعية يجب عليه أن يخضع لما يخضع له سائر مناحي تلك الحياة من مقاييس خلقية فيها صلاح المجموع

فإذا لم يكن واجب الأدب الوعظ والإرشاد إلى الخلق القويم فواجه الذي لاشك فيه ألا يصادم الخلق القويم ولا يتحدى تقاليد المجتمع الصالحة، وواجبه أن يتجه ما استطاع وجهة الخير ويتنكب مواضيع الفساد ودواعي التبذل، وكل اثر أدبي مهما بلغت براعته وصدقه ودل على عبقرية صاحبه، إذا خالطه الفجور والإفحاش واتسم بالاستهتار وتوخي الهنات والسوءات، لابد أن يمجه الذوق السليم وينفر منه الطبع الكريم، لما فيه من منافاة للأخلاق السامية التي يأخذ نفسه بها كل متحضر متهذب متثقف ويدرج عليها حتى تتأصل فيه وتصير له طباعاً ثانية

كانت للعرب في الجاهلية أمثلة عليا من الأخلاق الفاضلة التي تمليها حياة البادية، كالشجاعة والذود عن الذمار والدفاع عن الحريم والجود والقناعة وإجارة المستجير؛ وحول التمدح بتلك الأخلاق يدور جانب عظيم من الشعر الجاهلي، يعزو الشاعر تلك الفضائل إلى نفسه تارة كما فعل عنترة في معلقته، وإلى قومه عامة كما فعل عمرو بن كلثوم ولبيد والسموأل، وإلى ممدوحه كما كان يفعل زهير والأعشى، ولبعض أشراف الجاهلية كالأفوه الأودي وحاتم الطائي وذي الإصبع العدواني، وآثار في ذلك رائعة ببلاغتها وقوة أسرها وسمو منزعها، ويرسلها بعضهم قصيداً رصيناً، وبعضهم يرسلها نصائح للمخاطب، ويصوغها بعضهم وصايا إلى أبنائهم، وبعضهم يجعلها حواراً بينه وبين زوجه على تلك الطريقة العربية الجميلة؛ وطلب العرب حسن الأحدوثة وطيب الأثر، ولم يدخروا في ذلك قولاً أو فعلاً، قال حاتم الطائي:

وتذكر أخلاق الفتى وعظامه ... مغيبة في اللحد بال رميمها

وبديهي إن التمسك بكل هاتيك المثل العليا الخلقية لم يكن ديدن جميع العرب ولا التغني بها دأب جميع الشعراء، بل كانت أسباب الشر والفجور موفورة، ودواعي المجون والخلاعة عديدة، تتجلى في سيرة امرئ القيس الذي لم يكن يكاد يفيق غراماً أو خماراً، وحياة طرفه التي صورها في معلقته، حيث وصف ثلاث حاجاته في الحيات، فمنهن سبقه العاذلات بشربة كميت، وتقصير يوم الدجن ببهكنة تحت الخباء المعمد، وكره إذا نادى المضاف محنباً، وكان ذيوع المفاسد قبيل ظهور الإسلام سبب ظهور كثير من الحكماء الذين اخذوا أنفسهم بالزهد ودعوا إليه، كما اخذ كثير من أشراف العرب أنفسهم بمجانبة الخمر والقمار ونحوهما، ومن أولئك عامر بن الظرب الذي يقول وقد حرم في جماعة من السادة الخمر على أنفسهم

أقسمت بالله اسقيها واشربها ... حتى يفرق ترب القبر أوصالي

مورثة القوم أضغاناً بلا إحن ... مزرية بالفتى ذي النجدة الحالي

وظل أكثر المثل العليا الأخلاقية في الإسلام كما كان في الجاهلية، بعد أن هذب الإسلام من حواشيها وكفكف من غلوائها، فتمدح شعراء الإسلام بالفضائل كالكرم والوفاء وحسن الجوار وكتمان السر والحلم عن السفيه والتصون عن الفحشاء والترفع عن المماراة والمجازاة بالحسنة عن السيئة، كما فعل مسكين الدارمي وأوس بن معن، والمقنع الكندي والشريف الرضي، وتفاخروا بالبلاء في الحروب والإباء على الضيم والتعالي على الجهال وطلب السيادة والمعالي، كما فعل أبو فراس والمتنبي، ومدح الشعراء ممدوحيهم بهذا وذاك، ورموا مهجويهم بأضداد تلك الفضائل، وتهكموا في مداعباتهم بالبخلاء والجبناء والمنهزمين والأدعياء والمتطفلين. ومن محاسن أشعار امتداح الخلق الكريم قول سالم بن وابصة الذي يتمثل فيه الروح الإسلامي:

أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه ... كأن به عن كل فاحشة وقرا

سليم دواعي الصدر لا باسطاً أذى ... ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً هجرا

إذا ما أتت من صاحب لك زلة ... فكن أنت محتالاً لزلته عذرا

وقول الشريف الرضي:

يصول عليّ الجاهلون وأعتلي ... ويعجم في القائلون وأعرب

لساني حصاة يقرع الجهل بالحجى ... إذا نال مني العاضه المتأوب

ولا أعرف الفحشاء إلا بوصفها ... ولا انطق العوراء والقلب مغضب

وكأن احتواء الشعر على تلك الآداب النفسية من أسباب ضن العرب الشديدة به، وتسميتهم إياه ديوانهم، وأخذهم أبناءهم بحفظه. وكانت دراسة آثار أبطال العرب وأشرافهم تلك تقوم في التربية العربية مقام دراسة أشعار هوميروس في التربية اليونانية القديمة، كل منهما تقدم للناشئ نماذج من الفضيلة وأمثلة من الشخصيات العظيمة يحاكيها ويتشبه بها، وهذا الباب من اكرم أبواب الشعر العربي واجمعه لخير ميزات الأدب العربي، ومن البلاغة والصراحة والإيجاز ونفاذ النظرة

على انه بجانب هذه النزعة الخلقية السامية المتخلفة عن أشراف الجاهلية، والتي رفعتها فضائل الإسلام درجات من الرقة والسمو ظهرت رويداً رويداً نزعة مضادة لها كانت ذات اثر في الأدب واضح وضوح نزعة التسامي تلك أو هو أوضح، وتلك هي نزعة الاستهتار والمجون والإباحة التي كانت نتيجة محتومة لاتساع الفتوح واختلاط العرب بأشتات الأجناس واستفحال الترف واتساع الثروة وتفاقم دواعي الشهوات؛ ثم انحطاط مكانة المرأة من جراء ذلك واختفائها من المجتمع. حتى ذاعت فيه الآداب الخشنة والألفاظ الفاحشة، بدل أن يتهذب مع الحضارة، ويتخلص من جفوة البداوة الجاهلية

وانعكس أثر كل هذا الفساد في الأدب العربي، فجاءت كتب الأدب محملة بالحكايات المخزية والعبارات النابية والإشارات المندية، وشبب الشعراء بالذكور، وتمدحوا بالتسلل إلى الخدور، وتفاخروا بالإسراف في الشراب والعكوف على سماع الألحان، وجاهر بعضهم بالزندقة وتهكموا بعقائد المجتمع الدينية، ووقع بعضهم في خصومهم بأفذع الهجاء وتهجموا على أعراضهم واتهموا حلائلهم. وفي أشعار جرير والفرزدق وبشار وأبي نواس والمتنبي وابن الرومي من ذلك الشيء الكثير

أوغل الشعراء في تلك الأبواب إيغالاً لا يكاد يصدقه العقل، ومن العجيب أن الطريقة التقليدية التي يجري عليها تاريخ الأدب العربي لا تزال تعد من فحول العربية شعراء لم يكد يؤثر عنهم مقال في سوى تلك الأغراض الحيوانية. ومن البديهي انه مهما تفنن الناظم في وصف الخمر وتصوير الشهوات، فلن يرفعه ذلك إلى مصاف الشعراء العظام. ودواوين ابن أبي ربيعة وبشار وحماد وأبي نواس وأمثالهم إن هي إلا استهتار وتمدح بالمخازي ومجاهرة بالفسوق محكمة الديباجة بارعة النظم؛ فإذا كان هؤلاء من فحول الأدب العربي فما أقصره عن بلوغ المثل الأعلى للأدب الراقي. ومن ايسر مجون أبي نواس قوله:

ألا فاسقني خمراً وقل لي: هي الخمر ... ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر فهو لا يقنع أن يفرط في الشراب ما شاء، بل يأبى إلا الإمعان في الفجور وإلا أن يتم لذته بالجهر بالعربدة

ولئن حمدت الحرية الفكرية التي كان يتمتع بها الفلاسفة والعلماء في كثير من الدول الإسلامية، فما كذلك هذه الحرية التي استباحها المجان من الأدباء، الأولى حرية تساعد تقدم الفكر ورقي العلم، والثانية تؤدي إلى انحطاط الخلق وتضرب في دعائم المجتمع. الأولى حرية فكرية نافعة، والثانية إباحية خلقية ضارة، والأدب يرسم للمجتمع - وان لم يقصد - مثلاً عليا يتوخاها، فإذا تمادى في تصوير دنئ النوازع فانه يهبط بالنفوس إلى مستوى منحط لا تريد عنه ارتفاعاً. وليس شك في إن أشعار أبي نواس ومثاله كانت من اكبر أسباب انحطاط المجتمع الإسلامي، وقد كانت حياة الصعلكة التي كان يحياها، وأشعار العربدة التي نظمها، نموذجا للأدباء في عصور الأدبار، فكان الأدب والصعلكة وإدمان الشراب ووصف الخمر فبنظرهم توائم لابد أن تجتمع

ففي الأدب العربي آثار من الخلق الكريم وتمدح بالفضيلة، بجانبها آثار من الأخلاق المنحطة ومجاهرة بالاستهتار؛ وفي الإنجليزية طرف من هذه وطرف من تلك أيضاً: فقد تأثر بعض شعراء الإنجليزية بالمثل العليا الأخلاقية التي سنتها المسيحية، بجانب تلك التي أثرت عن الوثنية، وظهر اثر ذلك في أشعار سبنسر الذي جعل كل فارس في ملحمته (الملكة الحسناء) عنواناً على فضيلة من الفضائل المسيحية. وبدا ذلك أيضاً في أدب عهد المطهرين، ففي كتاب (رحلة الحاج) لبنيان تتشخص الفضائل والرذائل على ذلك النحو، ثم كان تنيسون وكبلنج يمزجان النزعة المسيحية بالنعرة الوطنية؛ وظهرت في الأدب الإنجليزي بجانب ذلك نزعة الاستهتار والمجون في بعض الفترات، كما حدث في بعض القرن السابع عشر من جراء التأثر بالبلاط الفرنسي المترف، وفي أواخر القرن التاسع عشر من جراء التأثر بالأدب الفرنسي أيضاً، إذ نزع بعض القصصيين الإنجليز كأوسكار وايلد إلى ذلك الضرب التحليلي من القصص الذي يسرف في تصوير الذات، واستكناه دنئ العواطف وخسيس النزعات

على إن كلا الأمرين - اعني التمدح بكريم الأخلاق والمجاهرة الاستهتار والتبذل - كانا ضئيلي الأثر قصيري العمر قليلي الاتباع في تاريخ المجتمع والأدب الإنجليزي، فالتشدق بالمحامد والمكارم ليس يعجب الذوق الإنجليزي الذي يؤثر الصمت ويفضل العمل على القول، ومن ثم لم تنفق أخلاقيات تنيسون وإضرابه بين صفوة المثقفين، بل كانت من أسباب خمول ذلك الشاعر بعد وفاته؛ والتمادي في التحدث بالشهوات بعيد كذلك عن طبع الإنجليزي والاجتراء على قواعد الفضيلة ومراسيم الحشمة وتقاليد المجتمع لا يحظى منه بغير الإنكار والإعراض، ومن ثم ثار بالمتهورين من الشعراء والكتاب أمثال بيرون وشلي واوسكار وايلد، فالجأ الأولين إلى حياة المنفى وزج الثالث في غيابة السجن، ولم تشفع لهم لديه مواهبهم الممتازة ولا صيتهم خارج إنجلترا، بل قد يغلوا المجتمع الإنجليزي في الغيرة على تقاليده إلى حد يسميه بعض الناس نفاقاً اجتماعياً، فيغضب على أدباء كرام سليمي الطوية، كما غضب على هاردي ولورانس من القصصيين المحدثين

فالطبع الإنجليزي يأبى أن يكون الأدب مطية للتفلسف الخلقي والفخر الطنان، كما يأبى أن يكون الأدب معرضاً للتبذل والتوقح، وإنما رسالة الأدب الإنجليزي التي ورثها عن الأدب الإغريقي هي الجمال والشعور الصادق، يحوط ذلك جو من الوقار والتسامي كان يعوز حتى الأدب الإغريقي ذاته أحياناً؛ وإنما احتفظ الإنجليز بصفات الرجولة والرزانة تلك لأنهم - فضلاً عن طبيعتهم الهادئة التي هي وليدة جوهم البارد - لم ينساقوا في تيار من الترف الموبق بانتشار فتوحهم وترامي أملاكهم، كما فعل غيرهم من الأمم التي شادت الإمبراطوريات في عصور التاريخ، لان تشييد الإمبراطورية البريطانية جاء تدريجياً هادئاً كالنمو الطبيعي، وبنجاة الإنجليز من مفاسد الترف والثروة المفاجئة سلمت لهم أخلاقهم القويمة.

أضف إلى ذلك تمتعهم بالحكم الديمقراطي، أي بحكمهم أنفسهم وخضوع الشعب لمشيئة الشعب وحدها، مما جعل للرأي العام الكلمة العليا في المحافظة على الأخلاق والذب عن تقاليد المجتمع إذا تحداه متحد وقع عليه الغرم المادي والأدبي وطاشت دعوته قبل ان يتأثر بها سواه؛ على حين كان الرأي العام في الأمم الإسلامية ضعيفاً مستخذياً أمام جبروت الملكية المطلقة، فكان أفاضل القوم ينقمون على حركات الاستهتار في المجتمع وآثار المجون في الأدب، ولكنهم كانوا مغلولي الأيدي لا يستطيعون عن عقيدتهم دفاعاً، وألف بعضهم حيناً جمعيات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والضرب على أيدي العابثين فأصابهم من بطش السلطان وتعقبه ما لم يصب أولئك العابثين.

وكانت الملكية في الدول الإسلامية أحياناً تشجع التهاجي بالمقذغات بين الشعراء شغلاً لهم وللجمهور عن شؤون السياسة وظل بشار يتحدى عقائد الناس ويسخر من فضائلهم وينال من أعراضهم وهو آمن معافى، حتى تطاول على عرض الخليفة ذاته فكان في ذلك تلفه. ولما لم يكن للناس من قوة الرأي العام حارس ومدافع، عمد من استطاع منهم بحول أو مكيدة إلى الانتقام بنفسه ممن تعرض له بالفحش، فلقي كل من المتنبي وابن الرومي حتفه على يد مهجوه. هكذا استفحل المنكر في المجتمع والإباحة في الأدب من اثر ذيوع الترف وتحكم الملكية المطلقة، رغم أن المجتمع كان مجتمعاً إسلامياً والدولة كان أساسها دينياً، وكان الأجدر أن أدباً يزدهر في ظل الدين الإسلامي الحنيف، يكون اعف الآداب لفظاً وأشرفها قصداً.

وقد تقدم القول إن سريان ذلك الفساد في كيان المجتمع الإسلامي عقب الفتوح أدى إلى انحطاط المرأة واختفائها من المجتمع، وكان ذلك من دواعي انتشار هجر القول في الأدب فان وجود المرأة في المجتمع عامل تجمل وتوقر وتعفف في المسلك والمقال، وهو عامل سعد به الأدب الإنجليزي فكان من أسباب تساميه الخلقي، وظلت النظرة إلى المرأة في الإنجليزية سامية عفيفة، وظلت صحبتها منبع وحي وداعية تكرم لدى الأدباء، وقد قال ستيل عن صاحبة له فاضلة إن محادثتها هي ثقافة قائمة بذاتها

فالأديب الإنجليزي لا يتمدح بالمحامد ولا يجاهر بالمباذل، لأن طبعه لا يستسيغ هذا ولا ذاك، ومجتمعه لا يقبلهما منه، ثم هو لا يهجو غيره ولا يفحش في الهجاء. وإنما يصور أخلاق أفراد المجتمع بما فيها من فضائل ومعايب، ويتهكم بالمنشدقين بالفضائل والمتظاهرين بالعلم أو بالثروة أو بالعظمة، أي بالمسرفين في كل شئ المجاوزين حد القصد والاعتدال، والتوسط الذي هو خير الأمور، فالاعتدال شعار الإنجليزي في مسلكه وفي أدبه، والتطرف يثير سخره واحتقاره، وهذا الميل منه واضح في مواضيع الأدب الفكاهية، وضوحه في أغراضه الجدية

فخري أبو السعود


مجلة الرسالة - العدد 205
بتاريخ: 07 - 06 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...