كنا نجلس في مهجعنا في سجن تدمر نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1982، عندما وصلتنا قصاصة من جريدة سورية، تهافتنا عليها، نستطلع الأحرف كتميمة سحرية. كان فيها أخبار عن القطاع العام والحركة التصحيحية وفلسطين والإمبريالية والمنجزات الاشتراكية. وفي إحدى زواياها نعي لرجل كان يضج بالحياة أكثر من الحياة، ويعيش في الموت أكثر من الموت، ويكتب شعراً لا يشبه الشعر لأنه هو الشعر. مات رياض الصالح الحسين. لا أذكر إن كنت قد بكيت وقتها، أم أنني خجلت بسبب وجودي مع أربعين رجلاً آخر في مستطيل مساحته عشرون متراً، نتأمل أيدينا ونسقط في الفضيلة الآثمة والإثم الفاضل. ولكنني أذكر أنني انسحبت من مجموع الرفاق، وجلست مع نفسي أسترجع تركيب قصيدته التي أحبها أكثر من غيرها– خراب الدورة الدموية. أسترجعها شطراً شطراً، وكلمة كلمة:
استقلّي باص جسده
أو انتظريه في المحطة التالية
فهو الآن متهم لأنه قتيل
ومتهم بتخريب الدورة الدموية
القبلة الأولى رصاصة
الطلقة الأخيرة حب
حكايتي مع رياض حكاية فاتنة لجيل جميل، جيل انبثق في سبعينات القرن الفائت كما تنبثق سوسنة في جرد، جيل لم ينبت كسنبلة ولكنْ انطلق كرصاصة، ولكنه، أيضاً، انطفأ كرصاصة.
حكاية رياض لا تنفصل عن حكاية سبعة فرسان، شكلوا معاً ظاهرة صغيرة ومتواضعة في سبعينات القرن الماضي ولكنها مع ذلك ذات دلالة: جميل حتمل، حسان عزت، بشير البكر، رياض الصالح الحسين، فرج بيرقدار، خالد درويش، فادية اللاذقاني، وأنا. من هؤلاء الفرسان، مات اثنان وهاجر ستة: مات جميل حتمل في مغتربه القسري بباريس، ومات رياض الصالح الحسين في مغتربه الطوعي بدمشق، وهاجر بشير إلى بيروت، ليستقرّ في ما بعد في باريس، يعيش قصيدته في كلّ يوم ويكتب حياته قصيدة دائمة، قبل أن ينتقل إلى لندن رئيساً لتحرير “العربي الجديد”. وهاجر حسّان إلى الإمارات بحثاً عن عمل، لأن بلده لم يزوّده بأكثر من مكتب في جريدة بائسة. فرج بيرقدار هاجر أولاً إلى السجن، ليمضي فيه أربع عشرة سنة، قبل أن يطلق سراحه، فيترك البلاد إلى السويد، ليصبح رمزاً سورياً جميلاً. فادية اللاذقاني أيضاً اعتقلت نيّفاً وثلاث سنوات، لتخرج بعدها إلى باريس، تشفي المكتئبين والقلقين والفصاميين، ولا تعود إلا مرتين أو ثلاثاً، إحداها لتودّع أمّها، وأخرى لتستقبل شقيقاً لها خرج أيضاً من سجن طويل، ثمّ انغمست في عيش شفيف، تسكنها ذكرى أخيها الآخر الذي أعدم في السجن دون أن ترى جثمانه، فتدفنه، وتدفن معه حزنها المقيم. خالد درويش هاجر إلى فلسطين، بلده الأصلي، حيث يقضم في رام الله اليوم الشعر والسياسة والبرتقال. وبقيت وحدي، كمقهى صيفي ليلة رأس السنة، كورقة صفراء سقطت عن شجرة ولم تستطع أن تصبح سماداً لها، إلى أن دفعت بي باقيات الامام إلى وطن جديد.
ذات مساء ربيعي فاتن من مساءات 1977، اقتحم رياض عالمي، ولم يغادره حتى اللحظة. ليس سهلاً أن يسكنك شاعر ضليل، فيه من القلق ما يسحق مئة فرس برية، ومن الحب ما يغرق مئة امرأة، ومن الكرامة ما يجعلك تشعر بالضآلة والخجل. أحضره بشير البكر، شاعر ضليل آخر وفاسق جميل، ينظر إلى الكون كلّه من علٍ، ويتسكع في شوارع بيروت وباريس ولندن، وقال لنا هو ذا شاعر. وكان الأجدر به أن يقول هي ذي قصيدة، هي ذي قذيفة. كنا في منزل حسان عزت، نحضّر عدداً جديداً من الكراس.
ذات مساء ربيعي فاتن من مساءات 1977، اقتحم رياض عالمي، ولم يغادره حتى اللحظة. ليس سهلاً أن يسكنك شاعر ضليل، فيه من القلق ما يسحق مئة فرس برية، ومن الحب ما يغرق مئة امرأة، ومن الكرامة ما يجعلك تشعر بالضآلة والخجل
كنا حسان وجميل وبشير وفادية اللاذقاني وأنا نصدر كراسة أدبية شهرية، للكتابة غير الرسمية. قلنا: نريدها كتابة خارج النص وخارج القوانين وخارج الصحافة الرسمية. وكنا نطبعها على الآلة الكاتبة، ثم نصورها على الورق الحساس (جستتنر) ثم نطبعها، ونجمع الأوراق سوية ونخرزها، وننطلق إلى الجامعة ومقاهي الأدباء والشوارع لنبيعها بليرة سورية واحدة. انضمّ إلى مغامرتنا لاحقاً فرج بيرقدار ورياض الصالح الحسين وخالد درويش. وكتب معنا ممدوح عدوان وعلي الجندي وفرج بيرقدار ومحمود شاهين وخالد درويش، ورسم معنا يوسف عبدلكي وسعد يكن وألفريد حتمل، وقرأَنا كلُّ من كان مهتماً، وقلبه علينا، خوفاً من زنزانة طائشة قد تصيبنا. وقد أصابت رياض بالفعل، حيث اعتقل لبضعة أسابيع، وحقق معه في شكل الكراس ومحتواه.
“أين عثرت عليه؟” سالتُ بشير.
“في مقهى القصر بحلب. كان يكتب شعراً عمودياً ويتواصل من طريق الكتابة. أقنعه بالحديث وبالقصية الجديدة.”
بشير أيضاً هو من أحضر إلينا خالد درويش، وهو شاعر معبّأ بفلسطين، كما يُعمّر القلب بالحزن. هادئ بغضب دفين تحت جلده وأظافره. قبل أن يتعثر ببشير، كان خالد يعلّم في قري كردية في ريف عفرين. حدثني عن القرية بوجد، وحدثني عن شاهو، النمرة الكردية التي تركت في جسده وروحه ندبة لا تزول. شاهو صارت قصّة في مجموعتي التي نشرتها بعد عامين بعنوان “لماذا مات يوسف النجار”. اعتقل وعذّب بسبب مشاركته في نشر الكرّاس، وخرج ليعيد تأكيد الحبّ والحق في الحياة:
حين تكونين معي
بلاداً تصير الحجارة،
الفصولُ مواعيد،
والأصدقاءُ مرايا.
كان هدفنا من الكرّاس الخروج عن سلطة الرقابة وسلطة الشعر التقليدي وسلطة الأحزاب السياسية المهيمنة على الأدب والفن، الأحزاب التي فرضت علينا أيمن أبو شعر شاعراً كبيراً ورائق النقري فيلسوفاً معاصراً. لم تكن الصحاف تنشر قصائدنا وقصصنا، فقلنا ننشرها نحن، وفعلنا، مخلّفين وراءنا موجة نقدية أعطت ما كتبناه حقّه وقتها.
في الكرّاس نشر بشير أجمل قصائده آنذاك، ثمّ جمعها في ديوان أول، وأعطاها لصديق له فنان لكي يصمّم له غلافه، فأضاعها الصديق.
وفي الكراس أيضاً، نشر رياض الصالح الحسين أول قصيدة له: خراب الدورة الدموية: وقد أثارت لحظة ظهورها لغطاً حاداً، وانقسم الناس انقساماً حاداً بين مرحب بالقصيدة ورافض لها. المعارضون قالوا هذا مهرطق، يصفّ كلماتٍ جنب كلمات ليكتب شيئا أشبه بالكفر، أما المؤيدون فقد اندهشوا بحرارتها وبساطتها ومقدرتها الهائلة على الوضوح المستحيل:
يركض في دهاليزها فرس شوكيّ
يحكّ بقوائمه ظهرها الطافح ببثور الجرب
هي.. هي
المدينة-المئذنة
ثمة طاووس وحيد في حديقتها الواسعة
يفرد بزهو ذنبه الملوّن، لينظر إليه
ماسح أحذية ذو عينين حزينتين
ووجه ملطخ بالبويا
امرأة شقراء عيناها جرح ووجهها كآبة
بائع بطاقات يانصيب خاسرة سلفاً
كاتب هذه القصيدة المطرود من عمله
لأنه حاول التأكيد على أن الأرض توقفت عن الدوران،
وأن الأبيض لم يزل أبيض والأسود لم يزل…
لا يشبه هذا الكلام الشعر، لسبب بسيط لأنه هو الشعر، ولا يمكن للشيء أن يشبه ذاته، ولا يمكن للشعر أن يبدو “كأنه” شعر. وهو بالتأكيد لا يشبه شعراً آخر. فعلى عظمة شعراء كبار سبقوا رياض في شكل قريب من القصيدة، كمحمد الماغوط وإسماعيل عامود وحامد بدرخان ونزيه أبو عفش، إلا أن قصيدة رياض تظل مختلفة، تصدمك أكثر لأنها أبسط، وتستهلك مشاعرك أكثر لأنها أصدق، وتكرهها لأنها لا تشبه الشعر، ثم تعشقها لأنها هي الشعر.
كان رياض أصمَّ ولكنه لم يكن أبكم. لا أعني أنه كان يتحدث بطلاقة كسياسي كذاب، في سجال سياسي في فضائية آثمة حول موضوعة لا يقتنع بها هو نفسه، ولكنه لم يكن أبكم. لا أقصد أنه كان يحاضر بشطارة مثقف يفهم – مثل معظم المثقفين – في كل شيء: في الاقتصاد والذرة والسياسة والأدب والدين وفي الفرق بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي. لا، ولكنه لم يكن أبكم. لا أعني أنه كان يغني كهيفاء وهبي أو على الديك، ولكنه لم يكن أبكم. فقد كان يقرأ شعره وشعر نزيه أبو عفش وحامد بدرخان واسماعيل عامود، عندما نكون معاً أو في أمسيات شعرية، وكان يغني أحياناً، يردد أغنيات لفيروز، وكان يحب أن يردد غالباً أغنية “بكتب اسمك يا حبيبي عل الحور العتيق، بتكتب اسمي يا حبيبي عا رمل الطريق” لفيروز، ويسأل: “من يعرف عماذا تسأل فيروز في سؤالها: “ما زالك بتحبني، ليش دخلك ليش؟” ليش شو؟ كان يسأل، وأجزم أنه رحل عنا من دون أن يعرف الإجابة.
كان عاشقاً كبيراً. لم أر في حياتي من هو أكثر منه عشقاً للنساء، ولكن في الوقت ذاته احتراماً وتقديراً لهن. والمرأة المثلى بالنسبة إليه هي المرأة “الواسعة”، المرأة “من صفصاف وأعشاب نارية”، المرأة “التي ترتدي العاصفة والوحوش”، المرأة “الزرقاء”، والمرأة “الوسيمة” ربما، ولكنه لم يصف المرأة ولا مرة واحدة بالجميلة الفاتنة، لم يصف بإفراط عيني امرأة أو فمها أو نهديها. ولكنه تحدث عن العينين والفم والنهد. تحدث عن النهد: “نهدها غزالة”، وعن الفم الذي “سرق منه وردة،” وعن العينين “التين يرعى فيهما عاشق شجراً ومعتقلات،” عن الشَعر الذي “يركض فيه حصان هائج”، ولكنه عندما أراد وصف المرأة التي يحب، قال إنها:
حادة كالشفرة
صلبة كحربة فولاذية تخترق القلب
واسعة كالمحيط
جميلة كالفرح
مضيئة كالضحكة حبيبتي الممتلئة بالأعياد
شهية كرغيف الخبز
طيبة كبرتقالة
المرأة بالنسبة إليه شريك وصديق وحبيب يقاسمه همومه الصغيرة والكبيرة ورغيف الخبز والحزن والحلم والجنون.
جاءنا مرة وكنا في مقهى الإيتوال (المقهى الجميل الذي كان يستضيف على خلقي ومظفر النواب وعلي الجندي وممدوح عدوان وزكريا تامر ومصطفى البدوي ونزيه أبو عفش ودعد حداد وليلى نصير … ثم تحول الآن إلى معرض للدراجات الآلية وصبايا الجمال المستعار) جاءنا مرة وقال: أنا عاشق. وحكى لنا كيف أمضى بعد ظهر يوم الأمس مع حبيبته يرعيان الحشيش في الطبيعة كالخواريف. (هذه استعارته وليست استعارتي). وكان وجهه ينقط بشراً.
كان اسمها سمر: ولا أحسب أنه أحب غيرها. وكثيراً ما رمز لها في شعره بـ “الآنسة س”.
حينما كنت صغيراً كغرسة الحمص
وأليفاً كالهرة
سألتني سيارة هرمة
بعد أن لطخت وجهي بالطين:
بماذا ستغتسل في المستقبل؟
آنئذ دخلت الآنسة س
فتحت لها الباب وهي خائفة
جلست على السرير بانفعال
نظرت إلى زوايا غرفتي كلصة وتنهدت:
علينا أن نأكل كثيراً يا صديقي ونموت
فما عاد في الأرض متسع لنا
قرأت لها قصيدة فبكت
وحدثتني عن الأقفاص النظيفة
حبة برتقال واحدة وسبعة عشر ألف متسول:
ماذا يعني؟
سمر كانت عالمه الصغير. لم تكن عشيقته: كانت سرَّه وكذبته وقصيدته التي لم يكتبها قط. لم تكن امرأته: كانت دفقة الحياة التي يستمد منها عيشه يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة. كانت قضيته وصلاته وموته وبعثه وانتشاره.
من روزا لوكسمبورغ حتى فاطمة برناوي
كان جسد من أحبها معجوناً بالجراثيم
والقنابل الموقوتة
وكان قميص من أحبها مبللاً بالزهور
وأناشيد الرعاة
من روزا لوكسمبورغ حتى فاطمة برناوي
كانت يداها تضيقان… تضيقان
حتى تصبحا بحجم جثة
وعيناها تتسعان.. تتسعان
حتى تصبحا بحجم قبلة
لم تشغله السياسة. وبينما استهلكتنا نحن، بخاصة جميل حتمل وفرج بيرقدار وأنا، تضاريس السياسة وجبالها، لم تكن تعني بالنسبة إلى رياض شيئاً. أعني بالطبع السياسة بتفاصيلها ودهاليزها وخلافات السياسيين حول أي الأحزاب أفضلها، وصراعات الأحزاب مع بعضها، وصراعها مع السلطة، وتنافسها على كسب المناصرين الجدد. كل ذلك لم يعنِ لرياض شيئاً. ولكنه كان أشدنا اهتماماً بمصير الإنسان، وكرهاً للاستبداد، وتوقاً إلى الانعتاق والتحرر والعدالة والمساواة. لم تستهلكه السياسة الضيقة، الملتوية، المحرتقة، الوسخة أحياناً. ولكنه انشغل بالأسئلة الكبيرة عن الظلم والعدل والمحبة والاستلاب.
بعد قليل ستتقدم البذلة الأنيقة
التي تحتوي رجلاً لامعاً
لتقدم الهدية
إلى وحش رؤوسه بعدد القارات والمدن والقرى،
وحش لا يملك أوصاف دراكيولا
فأنيابه مهذبة للغاية
ولديه امرأة جميلة ولطيفة
تأكل قلوب الأطفال ببراعة لا عب شطرنج ماهر
وأما هو فيحب الويسكي المثلج
وقزقزة الحبال الصوتية للبلابل
وبينما لم تشغله السياسة، فإن شاغلاً آخر كان يحتل كيانه: الموت. لم أعرف شاعراً حكى عن الموت في هذه السن المبكرة مثل رياض. فبينما كنا نتحدث عن الثورة والتغيير وحكم البروليتاريا، كان رياض يتحدث عن الموت، وبينما كنا نتشاجر حول طبيعة الثورة: هل هي ديموقراطية أم اشتراكية، وعن الفرق بين الديموقراطية البورجوازية والديمووقراطية الثورية، كان رياض يتحدث عن القبور:
كانت تقول لي
وأصابعها تتحرك كقطيع من الوعول في شعري:
ألديك غرفة بطول قامتي؟
وهل نافذتها مفتوحة على الشارع أم المقبرة؟
هو نوع من الالتباس ما بين الحب والموت، ليس فيه أثر للخوف أو الرهبة.
زارني الموت
ولم يكن على الرف قهوة
ولأن الموت يحب القهوة مثل جميع الناس
فلقد قلب شفتيه وصفق الباب وراءه
ومضى في قطار العتمة.
كما يغدو الموت عادة يومية أو حدثا مألوفا، بل إنه يغدو أيضاً فعلاً تبادلياً مع الحياة
هاأنذا أقضم أظافري وأفكر بحزن
فليلة السبت لن أستطيع أن أنسل إلى بيت
حبيبتي لألعب مها الورق
ولذا قررت أن أموت لمرة واحدة
بدلاً من الموت سبع مرات في الأسبوع
وبما أنني لا أملك تابوتاً ولا قبراً ولا كفناً
فلقد قررت أن أحيا بعدد الموتى
لست من أنصار من يقول بالنبوءات، وليس رياض نبياً. إنه شاعر والشاعر الحقيقي هو والمعرفة صنوان، فرياض إذاً ما كان يتنبأ ولكنه كان يعرف.
عندما جاءني خبر موته، كنت أنا نفسي في مكان يشبه الموت. وصلتني صفحة مقطوعة من جريدة يومية، كان فيها أخبار عن القطاع العام والحركة التصحيحية وفلسطين والإمبريالية والمنجزات الاشتراكية. وفي إحدى زواياها نعي للرجل الذي كان يضج بالحياة أكثر من الحياة، ويعيش في الموت أكثر من الموت، ويكتب شعراً لا يشبه الشعر لأنه هو الشعر. لا أذكر إن كنت قد بكيت وقتها، أم أنني خجلت بسبب وجودي مع أربعين رجلاً آخر في مستطيل مساحته عشرون متراً، نتأمل أيدينا ونسقط في الفضيلة الآثمة والإثم الفاضل.
مات رياض
ومات جميل
ورحل بشير
ورحل فرج
ورحل حسان
ورحلت فادية
ورحل خالد
ثمّ رحلتُ أنا إلى عالم من الغربة الهشة والحزن الشفيف.
استقلّي باص جسده
أو انتظريه في المحطة التالية
فهو الآن متهم لأنه قتيل
ومتهم بتخريب الدورة الدموية
القبلة الأولى رصاصة
الطلقة الأخيرة حب
حكايتي مع رياض حكاية فاتنة لجيل جميل، جيل انبثق في سبعينات القرن الفائت كما تنبثق سوسنة في جرد، جيل لم ينبت كسنبلة ولكنْ انطلق كرصاصة، ولكنه، أيضاً، انطفأ كرصاصة.
حكاية رياض لا تنفصل عن حكاية سبعة فرسان، شكلوا معاً ظاهرة صغيرة ومتواضعة في سبعينات القرن الماضي ولكنها مع ذلك ذات دلالة: جميل حتمل، حسان عزت، بشير البكر، رياض الصالح الحسين، فرج بيرقدار، خالد درويش، فادية اللاذقاني، وأنا. من هؤلاء الفرسان، مات اثنان وهاجر ستة: مات جميل حتمل في مغتربه القسري بباريس، ومات رياض الصالح الحسين في مغتربه الطوعي بدمشق، وهاجر بشير إلى بيروت، ليستقرّ في ما بعد في باريس، يعيش قصيدته في كلّ يوم ويكتب حياته قصيدة دائمة، قبل أن ينتقل إلى لندن رئيساً لتحرير “العربي الجديد”. وهاجر حسّان إلى الإمارات بحثاً عن عمل، لأن بلده لم يزوّده بأكثر من مكتب في جريدة بائسة. فرج بيرقدار هاجر أولاً إلى السجن، ليمضي فيه أربع عشرة سنة، قبل أن يطلق سراحه، فيترك البلاد إلى السويد، ليصبح رمزاً سورياً جميلاً. فادية اللاذقاني أيضاً اعتقلت نيّفاً وثلاث سنوات، لتخرج بعدها إلى باريس، تشفي المكتئبين والقلقين والفصاميين، ولا تعود إلا مرتين أو ثلاثاً، إحداها لتودّع أمّها، وأخرى لتستقبل شقيقاً لها خرج أيضاً من سجن طويل، ثمّ انغمست في عيش شفيف، تسكنها ذكرى أخيها الآخر الذي أعدم في السجن دون أن ترى جثمانه، فتدفنه، وتدفن معه حزنها المقيم. خالد درويش هاجر إلى فلسطين، بلده الأصلي، حيث يقضم في رام الله اليوم الشعر والسياسة والبرتقال. وبقيت وحدي، كمقهى صيفي ليلة رأس السنة، كورقة صفراء سقطت عن شجرة ولم تستطع أن تصبح سماداً لها، إلى أن دفعت بي باقيات الامام إلى وطن جديد.
ذات مساء ربيعي فاتن من مساءات 1977، اقتحم رياض عالمي، ولم يغادره حتى اللحظة. ليس سهلاً أن يسكنك شاعر ضليل، فيه من القلق ما يسحق مئة فرس برية، ومن الحب ما يغرق مئة امرأة، ومن الكرامة ما يجعلك تشعر بالضآلة والخجل. أحضره بشير البكر، شاعر ضليل آخر وفاسق جميل، ينظر إلى الكون كلّه من علٍ، ويتسكع في شوارع بيروت وباريس ولندن، وقال لنا هو ذا شاعر. وكان الأجدر به أن يقول هي ذي قصيدة، هي ذي قذيفة. كنا في منزل حسان عزت، نحضّر عدداً جديداً من الكراس.
ذات مساء ربيعي فاتن من مساءات 1977، اقتحم رياض عالمي، ولم يغادره حتى اللحظة. ليس سهلاً أن يسكنك شاعر ضليل، فيه من القلق ما يسحق مئة فرس برية، ومن الحب ما يغرق مئة امرأة، ومن الكرامة ما يجعلك تشعر بالضآلة والخجل
كنا حسان وجميل وبشير وفادية اللاذقاني وأنا نصدر كراسة أدبية شهرية، للكتابة غير الرسمية. قلنا: نريدها كتابة خارج النص وخارج القوانين وخارج الصحافة الرسمية. وكنا نطبعها على الآلة الكاتبة، ثم نصورها على الورق الحساس (جستتنر) ثم نطبعها، ونجمع الأوراق سوية ونخرزها، وننطلق إلى الجامعة ومقاهي الأدباء والشوارع لنبيعها بليرة سورية واحدة. انضمّ إلى مغامرتنا لاحقاً فرج بيرقدار ورياض الصالح الحسين وخالد درويش. وكتب معنا ممدوح عدوان وعلي الجندي وفرج بيرقدار ومحمود شاهين وخالد درويش، ورسم معنا يوسف عبدلكي وسعد يكن وألفريد حتمل، وقرأَنا كلُّ من كان مهتماً، وقلبه علينا، خوفاً من زنزانة طائشة قد تصيبنا. وقد أصابت رياض بالفعل، حيث اعتقل لبضعة أسابيع، وحقق معه في شكل الكراس ومحتواه.
“أين عثرت عليه؟” سالتُ بشير.
“في مقهى القصر بحلب. كان يكتب شعراً عمودياً ويتواصل من طريق الكتابة. أقنعه بالحديث وبالقصية الجديدة.”
بشير أيضاً هو من أحضر إلينا خالد درويش، وهو شاعر معبّأ بفلسطين، كما يُعمّر القلب بالحزن. هادئ بغضب دفين تحت جلده وأظافره. قبل أن يتعثر ببشير، كان خالد يعلّم في قري كردية في ريف عفرين. حدثني عن القرية بوجد، وحدثني عن شاهو، النمرة الكردية التي تركت في جسده وروحه ندبة لا تزول. شاهو صارت قصّة في مجموعتي التي نشرتها بعد عامين بعنوان “لماذا مات يوسف النجار”. اعتقل وعذّب بسبب مشاركته في نشر الكرّاس، وخرج ليعيد تأكيد الحبّ والحق في الحياة:
حين تكونين معي
بلاداً تصير الحجارة،
الفصولُ مواعيد،
والأصدقاءُ مرايا.
كان هدفنا من الكرّاس الخروج عن سلطة الرقابة وسلطة الشعر التقليدي وسلطة الأحزاب السياسية المهيمنة على الأدب والفن، الأحزاب التي فرضت علينا أيمن أبو شعر شاعراً كبيراً ورائق النقري فيلسوفاً معاصراً. لم تكن الصحاف تنشر قصائدنا وقصصنا، فقلنا ننشرها نحن، وفعلنا، مخلّفين وراءنا موجة نقدية أعطت ما كتبناه حقّه وقتها.
في الكرّاس نشر بشير أجمل قصائده آنذاك، ثمّ جمعها في ديوان أول، وأعطاها لصديق له فنان لكي يصمّم له غلافه، فأضاعها الصديق.
وفي الكراس أيضاً، نشر رياض الصالح الحسين أول قصيدة له: خراب الدورة الدموية: وقد أثارت لحظة ظهورها لغطاً حاداً، وانقسم الناس انقساماً حاداً بين مرحب بالقصيدة ورافض لها. المعارضون قالوا هذا مهرطق، يصفّ كلماتٍ جنب كلمات ليكتب شيئا أشبه بالكفر، أما المؤيدون فقد اندهشوا بحرارتها وبساطتها ومقدرتها الهائلة على الوضوح المستحيل:
يركض في دهاليزها فرس شوكيّ
يحكّ بقوائمه ظهرها الطافح ببثور الجرب
هي.. هي
المدينة-المئذنة
ثمة طاووس وحيد في حديقتها الواسعة
يفرد بزهو ذنبه الملوّن، لينظر إليه
ماسح أحذية ذو عينين حزينتين
ووجه ملطخ بالبويا
امرأة شقراء عيناها جرح ووجهها كآبة
بائع بطاقات يانصيب خاسرة سلفاً
كاتب هذه القصيدة المطرود من عمله
لأنه حاول التأكيد على أن الأرض توقفت عن الدوران،
وأن الأبيض لم يزل أبيض والأسود لم يزل…
لا يشبه هذا الكلام الشعر، لسبب بسيط لأنه هو الشعر، ولا يمكن للشيء أن يشبه ذاته، ولا يمكن للشعر أن يبدو “كأنه” شعر. وهو بالتأكيد لا يشبه شعراً آخر. فعلى عظمة شعراء كبار سبقوا رياض في شكل قريب من القصيدة، كمحمد الماغوط وإسماعيل عامود وحامد بدرخان ونزيه أبو عفش، إلا أن قصيدة رياض تظل مختلفة، تصدمك أكثر لأنها أبسط، وتستهلك مشاعرك أكثر لأنها أصدق، وتكرهها لأنها لا تشبه الشعر، ثم تعشقها لأنها هي الشعر.
كان رياض أصمَّ ولكنه لم يكن أبكم. لا أعني أنه كان يتحدث بطلاقة كسياسي كذاب، في سجال سياسي في فضائية آثمة حول موضوعة لا يقتنع بها هو نفسه، ولكنه لم يكن أبكم. لا أقصد أنه كان يحاضر بشطارة مثقف يفهم – مثل معظم المثقفين – في كل شيء: في الاقتصاد والذرة والسياسة والأدب والدين وفي الفرق بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي. لا، ولكنه لم يكن أبكم. لا أعني أنه كان يغني كهيفاء وهبي أو على الديك، ولكنه لم يكن أبكم. فقد كان يقرأ شعره وشعر نزيه أبو عفش وحامد بدرخان واسماعيل عامود، عندما نكون معاً أو في أمسيات شعرية، وكان يغني أحياناً، يردد أغنيات لفيروز، وكان يحب أن يردد غالباً أغنية “بكتب اسمك يا حبيبي عل الحور العتيق، بتكتب اسمي يا حبيبي عا رمل الطريق” لفيروز، ويسأل: “من يعرف عماذا تسأل فيروز في سؤالها: “ما زالك بتحبني، ليش دخلك ليش؟” ليش شو؟ كان يسأل، وأجزم أنه رحل عنا من دون أن يعرف الإجابة.
كان عاشقاً كبيراً. لم أر في حياتي من هو أكثر منه عشقاً للنساء، ولكن في الوقت ذاته احتراماً وتقديراً لهن. والمرأة المثلى بالنسبة إليه هي المرأة “الواسعة”، المرأة “من صفصاف وأعشاب نارية”، المرأة “التي ترتدي العاصفة والوحوش”، المرأة “الزرقاء”، والمرأة “الوسيمة” ربما، ولكنه لم يصف المرأة ولا مرة واحدة بالجميلة الفاتنة، لم يصف بإفراط عيني امرأة أو فمها أو نهديها. ولكنه تحدث عن العينين والفم والنهد. تحدث عن النهد: “نهدها غزالة”، وعن الفم الذي “سرق منه وردة،” وعن العينين “التين يرعى فيهما عاشق شجراً ومعتقلات،” عن الشَعر الذي “يركض فيه حصان هائج”، ولكنه عندما أراد وصف المرأة التي يحب، قال إنها:
حادة كالشفرة
صلبة كحربة فولاذية تخترق القلب
واسعة كالمحيط
جميلة كالفرح
مضيئة كالضحكة حبيبتي الممتلئة بالأعياد
شهية كرغيف الخبز
طيبة كبرتقالة
المرأة بالنسبة إليه شريك وصديق وحبيب يقاسمه همومه الصغيرة والكبيرة ورغيف الخبز والحزن والحلم والجنون.
جاءنا مرة وكنا في مقهى الإيتوال (المقهى الجميل الذي كان يستضيف على خلقي ومظفر النواب وعلي الجندي وممدوح عدوان وزكريا تامر ومصطفى البدوي ونزيه أبو عفش ودعد حداد وليلى نصير … ثم تحول الآن إلى معرض للدراجات الآلية وصبايا الجمال المستعار) جاءنا مرة وقال: أنا عاشق. وحكى لنا كيف أمضى بعد ظهر يوم الأمس مع حبيبته يرعيان الحشيش في الطبيعة كالخواريف. (هذه استعارته وليست استعارتي). وكان وجهه ينقط بشراً.
كان اسمها سمر: ولا أحسب أنه أحب غيرها. وكثيراً ما رمز لها في شعره بـ “الآنسة س”.
حينما كنت صغيراً كغرسة الحمص
وأليفاً كالهرة
سألتني سيارة هرمة
بعد أن لطخت وجهي بالطين:
بماذا ستغتسل في المستقبل؟
آنئذ دخلت الآنسة س
فتحت لها الباب وهي خائفة
جلست على السرير بانفعال
نظرت إلى زوايا غرفتي كلصة وتنهدت:
علينا أن نأكل كثيراً يا صديقي ونموت
فما عاد في الأرض متسع لنا
قرأت لها قصيدة فبكت
وحدثتني عن الأقفاص النظيفة
حبة برتقال واحدة وسبعة عشر ألف متسول:
ماذا يعني؟
سمر كانت عالمه الصغير. لم تكن عشيقته: كانت سرَّه وكذبته وقصيدته التي لم يكتبها قط. لم تكن امرأته: كانت دفقة الحياة التي يستمد منها عيشه يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة. كانت قضيته وصلاته وموته وبعثه وانتشاره.
من روزا لوكسمبورغ حتى فاطمة برناوي
كان جسد من أحبها معجوناً بالجراثيم
والقنابل الموقوتة
وكان قميص من أحبها مبللاً بالزهور
وأناشيد الرعاة
من روزا لوكسمبورغ حتى فاطمة برناوي
كانت يداها تضيقان… تضيقان
حتى تصبحا بحجم جثة
وعيناها تتسعان.. تتسعان
حتى تصبحا بحجم قبلة
لم تشغله السياسة. وبينما استهلكتنا نحن، بخاصة جميل حتمل وفرج بيرقدار وأنا، تضاريس السياسة وجبالها، لم تكن تعني بالنسبة إلى رياض شيئاً. أعني بالطبع السياسة بتفاصيلها ودهاليزها وخلافات السياسيين حول أي الأحزاب أفضلها، وصراعات الأحزاب مع بعضها، وصراعها مع السلطة، وتنافسها على كسب المناصرين الجدد. كل ذلك لم يعنِ لرياض شيئاً. ولكنه كان أشدنا اهتماماً بمصير الإنسان، وكرهاً للاستبداد، وتوقاً إلى الانعتاق والتحرر والعدالة والمساواة. لم تستهلكه السياسة الضيقة، الملتوية، المحرتقة، الوسخة أحياناً. ولكنه انشغل بالأسئلة الكبيرة عن الظلم والعدل والمحبة والاستلاب.
بعد قليل ستتقدم البذلة الأنيقة
التي تحتوي رجلاً لامعاً
لتقدم الهدية
إلى وحش رؤوسه بعدد القارات والمدن والقرى،
وحش لا يملك أوصاف دراكيولا
فأنيابه مهذبة للغاية
ولديه امرأة جميلة ولطيفة
تأكل قلوب الأطفال ببراعة لا عب شطرنج ماهر
وأما هو فيحب الويسكي المثلج
وقزقزة الحبال الصوتية للبلابل
وبينما لم تشغله السياسة، فإن شاغلاً آخر كان يحتل كيانه: الموت. لم أعرف شاعراً حكى عن الموت في هذه السن المبكرة مثل رياض. فبينما كنا نتحدث عن الثورة والتغيير وحكم البروليتاريا، كان رياض يتحدث عن الموت، وبينما كنا نتشاجر حول طبيعة الثورة: هل هي ديموقراطية أم اشتراكية، وعن الفرق بين الديموقراطية البورجوازية والديمووقراطية الثورية، كان رياض يتحدث عن القبور:
كانت تقول لي
وأصابعها تتحرك كقطيع من الوعول في شعري:
ألديك غرفة بطول قامتي؟
وهل نافذتها مفتوحة على الشارع أم المقبرة؟
هو نوع من الالتباس ما بين الحب والموت، ليس فيه أثر للخوف أو الرهبة.
زارني الموت
ولم يكن على الرف قهوة
ولأن الموت يحب القهوة مثل جميع الناس
فلقد قلب شفتيه وصفق الباب وراءه
ومضى في قطار العتمة.
كما يغدو الموت عادة يومية أو حدثا مألوفا، بل إنه يغدو أيضاً فعلاً تبادلياً مع الحياة
هاأنذا أقضم أظافري وأفكر بحزن
فليلة السبت لن أستطيع أن أنسل إلى بيت
حبيبتي لألعب مها الورق
ولذا قررت أن أموت لمرة واحدة
بدلاً من الموت سبع مرات في الأسبوع
وبما أنني لا أملك تابوتاً ولا قبراً ولا كفناً
فلقد قررت أن أحيا بعدد الموتى
لست من أنصار من يقول بالنبوءات، وليس رياض نبياً. إنه شاعر والشاعر الحقيقي هو والمعرفة صنوان، فرياض إذاً ما كان يتنبأ ولكنه كان يعرف.
عندما جاءني خبر موته، كنت أنا نفسي في مكان يشبه الموت. وصلتني صفحة مقطوعة من جريدة يومية، كان فيها أخبار عن القطاع العام والحركة التصحيحية وفلسطين والإمبريالية والمنجزات الاشتراكية. وفي إحدى زواياها نعي للرجل الذي كان يضج بالحياة أكثر من الحياة، ويعيش في الموت أكثر من الموت، ويكتب شعراً لا يشبه الشعر لأنه هو الشعر. لا أذكر إن كنت قد بكيت وقتها، أم أنني خجلت بسبب وجودي مع أربعين رجلاً آخر في مستطيل مساحته عشرون متراً، نتأمل أيدينا ونسقط في الفضيلة الآثمة والإثم الفاضل.
مات رياض
ومات جميل
ورحل بشير
ورحل فرج
ورحل حسان
ورحلت فادية
ورحل خالد
ثمّ رحلتُ أنا إلى عالم من الغربة الهشة والحزن الشفيف.