لم يقتصر تأثير أحداث الوطن العربي التي عرفت بـ«الربيع العربي» على الجوانب السياسية فحسب؛ فهذا الزلزال الذي ضرب البلاد العربية، خلف آثاراً غيرت من جوانب كثيرة، بما فيها الحياة الثقافية والأدبية، ومنها طبيعة الاهتمام بالكتاب؛ والكتاب الورقي بشكل خاص.
لقد أتاح «الربيع العربي» -بحسب مثقفين وكتاب- مناخاً من الحرية ساهم في رفع قيمة مكانة أناس وأشياء وخفض من مكانة أخرى، ومع ذلك لا يجد آخرون أنفسهم منساقين للأمل بحياة جديدة للكتاب المطبوع طوال السنوات الثلاث الأخيرة من عمر الربيع، رغم إيمانهم بأنه منح أصحاب الفكر فرصة ثمينة لتوثيق الأحداث، خصوصاً وأن محبي الكتاب جلهم فوق الـ 30.. وهناك جيل كامل لا يعترف بالورق، عدا عن سلطة التكنولوجيا حيث يوصف هذا الجيل بجيل الآي باد.
«الوطن» حاولت أن تستجلي واقع الكتاب الورقي، فخرجت بهذه الآراء لمجموعة من الكتاب والمثقفين...
يـرى الكاتب والمحلل السياسي الأردني موسى عساف أن السنوات الثلاث الأخيرة شهدت إعادة الحياة للكتاب المطبوع، من خلال الكم الكبير من المؤلفات التي تناولت مختلف جوانب الحراك الذي شهده العالم العربي، السياسية والاجتماعية والثقافية، لافتاً إلى مساهمة الربيع العربي في دفع الجمهور إلى القراءة المتعمقة لفهم طبيعة المرحلة التي يمر بها العالم العربي، والتي اتسمت بكثير من المتناقضات الفكرية، حيث ظهرت جلية من خلال المناقشات العلنية وكسرت كثيراً من التابوهات، والتي كان من المحرم الاقتراب منها لعقود طويلة.
ظهور كتب قيمة
ويشير عساف إلى أنه لكل ذلك؛ ظهر عدد كبير من الكتب المطبوعة ذات القيمة العالية، والتي تخاطب الفكر الحاضر بلغة لم تكن معهودة من قبل، وفتحت المجال كثيراً لطرح آراء وأفكار متناقضة وبشكل علني، وتجلى هذا الطرح خصوصاً في الكتب السياسية والفكرية والأدبية، بأنواعها؛ القصة والرواية والشعر.
يعتقد عساف أن الربيع العربي لم يكن ثورات سياسية فقط لامست المجتمع العربي فحسب، بل هي ثورات ثقافية وأدبية ستنتج مزيداً من الأعمال المتميزة، والتي ستكون شاهداً حياً على ما يعيشه العالم اليوم.
ويقول عساف: شخصياً رغم وسائل الاتصال الحديثة، وانشغالنا بكثير من التقنيات ووسائل تواصل المعرفة، لايزال الكتاب المطبوع يمثل لي المعرفة الأكثر قيمة. علاقتي بالكتاب ولدت منذ الصغر، لذلك أصبح الصديق الوفي الذي ألجأ إليه دائماً، فهو غذاء للروح أستمد منه المعرفة والفكر والأفكار الإيجابية، ورغم انتشار ما بات يعرف بالكتاب الإلكتروني، إلا أن للكتاب المطبوع قيمة معنوية كبيرة لدي، ومازلت أستشعر عمق المعرفة من خلال تصفح الأوراق.
موت الكتاب التقليدي
غير أن الكاتب والمحلل الاقتصادي الأردني مازن النسور يعتقد أن الطلب على الكتاب في تراجع مستمر ولو بشكل بطيء، مبيناً أن ذلك مرتبط بثقافة الأجيال والتقدم التكنولوجي، مؤكداً أننا سننعى الكتاب بشكله التقليدي بعد بضع سنوات وستغدو رفوف المكتبات شيء من التراث.
ويوضح النسور أن محبي الكتاب أو أولئك الذين ما زالوا يتعاطون معه جلهم فوق الـ 30 عاماً، ما يعني أن جيلاً كاملاً ممن هم دون هذا العمر، إلا من رحم ربي، لا يتعامل مع الورق. مردفاً بأن جميعنا يعلم بأن التكنولوجيا وما رافقها من وسائل إعلام وترفيه ومحطات تلفزة وحتى الوصول إلى الكتاب الإلكتروني، ضربت الورق وهي مستمرة بإنهائه إلى غير عودة. وهنا يمكن تأكيد مقولة جيل الآي باد على أرض الواقع فهي حقيقة رغم أنها تطلق على سبيل السخرية.
ويضيف النسور: أن سرعة الأحداث والمتغيرات لم تعد تنتظر موعد الطباعة وبالتالي الورق، وهذا ينطبق على ما يسمى بـ الربيع العربي وعلى كل ما يدور حولنا، فنحن بتنا نعرف ما يحدث بأقاصي الأرض مباشرة وبضغطة زر.
زيادة حالة الوعي
أما التربوي واللغوي المصري نبيل فوزي فيؤكد أن تأثير أحداث الربيع العربي على الكتاب كان تأثيراً إيجابياً، لافتاً إلى قيام أصحاب الفكر المتميز، والكتّاب المبدعين، برصد الأحداث التي وقعت وأشبعوها تحليلاً مستفيضاً وقاموا بتوثيقها وطبعت الكثير من الكتب، ولاقت رواجاً كبيراً من قطاع كبير من المهتمين بالشأن السياسي والثقافي والاجتماعي، وهذا دليل على ازدياد حالة الوعي عند الغالبية.
فوزي يؤكد أيضا أنه سيظل للكتاب الورقي مكانته وقيمته على الدوام، مشيراً إلى أنه رغم ما أذيع على شاشات التلفزيون وما تناقلته شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية من السرعة في نقل الخبر بالصوت والصورة، إلا أن الإقبال على الكتاب الورقي لم يتراجع كما يظن البعض، فالكتب المطبوعة هي سعادة الحضارة وبدونها يصمت التاريخ، ويخرص الأدب، هي الآثار الأكثر بقاء على الزمن، وأفضل إرثاً للأجيال والأمم.
يقول فوزي: إذا أراد الإنسان أن يزيد في عمره طولاً وعرضاً وعمقاً. فما عليه إلا أن يقرأ للعمالقة الأفذاذ من المفكرين. الذين أنعم الله عليهم بنعمة التأمل وقوة الإدراك.. أما إذا أراد التسلية فليقرأ للصغار من الكتّاب ومن هنا تأتي أهمية الكتاب المطبوع النافع في حياة كل إنسان. الكتاب الذي يحمله على أن يفكر ويناقش ويحاور، ويفتش عما تحت السطور، وينتقل مما تقع عليه عيناه، ويذهب إلى ما يريه العقل ولا يسمح لغيره أن يفكر له نيابة عنه ويصبح مثل شريط الكاسيت الذي يتلقى ولا حيلة له فيما يتلقى، فهذا إهدار لأدميته، وتفريط في حق نفسه، مبيناً أنه من هذا التفاعل بين الكاتب والقارئ الجيد، تتضح قيمة الكتاب الورقي. فرصيد الكاتب الحقيقي هو القارئ الجيد، فالقراءة للكاتب المبدع يمكن أن تعلمنا كيف نكتب، لكن لا يمكن أن تعلمنا كيف نتوقف عن الكتابة. فلا ينبغي للإنسان أن يقعد في صندوق من الجهل، ويغلق على نفسه، فمدينة الفكر كثيرة الأبواب وعليه أن يطرقها ويتفاعل معها ويحصن نفسه بالعلم والمعرفة، فأحد أسباب قوته ألاّ يغيب عنه شيء فيما يدور من حوله، والذي لا يعرف إلا القليل، ليس لديه الكثير الذي يقوله.
ويواصل فوزي: إن الفكر كالجسم يحتاج دائماً إلى تغذية مستمرة، فالطعام للجسد، والعلم للعقل، فهل يليق بالإنسان أن يفتح فمه، ويغلق عقله؟. ونحن نعيش لنتعلم، ونتعلم لنعيش فالمطالعة للنفس كالرياضة للجسم فلا غنى عن الكتاب، لأن جمال الإنسان لا ينبع من جسد جميل ولكن من عقل متفتح وهَّاج. فجمال الفكر دائماً يتزايد، وجمال الوجه يتناقص. وهنا يحضرني قول (سقراط) شيخ الفلاسفة في حكمه على الإنسان من خلال موقفه وحبه للقراءة فيقول: إذا أردت أن أحكم على إنسان، فإني أسأله كم كتاباً قرأت؟ وماذا قرأت؟ وكان يقصد بذلك الانتفاع بما يُقرأ، فلماذا نهمل الكتاب الذي لا غنى عنه؟. فليحرص كل إنسان على شغل كل وقته فيما يعود عليه بالنفع ولم يجد ما هو أفضل من الكتاب النافع المفيد. وليتذكر دائماً قول الشاعر: «أشباب يضيع في غير نفع.. وزمان يمر إثر زمان. ما رجاء محقق بالتمني.. أو حياة محمودة بالتواني». فماذا يفيد الإنسان إذا عاش بذهن متعطل خامل. والدواهي دائماً لا تأتي إلا من الفراغ.
ويتابع فوزي: جميل أن يجعل كل إنسان المكتبة في بيته أولى اهتماماته، فالمكتبة ليست من كماليات الحياة بل من لوازمها ولا يحق لإنسان أن يربي أولاده دون أن يحيطهم بالكتب، وسيظل الكتاب الورقي دائماً متربعاً على العرش، وخصوصاً عندي أنا شخصياً متفوقاً عن غيره من الوسائل الأخرى، كالراديو والتلفزيون فهو يسمح بحرية أكبر من التخيل والتفسيرات والتذوق، وله كل القدسية والاحترام، فالكلمة المطبوعة لها سحرها، ويكفي أن القارئ يستطيع أن يراجع ما يريده بالسرعة التي تناسبه، وفي أي وقت يشاء. أليس الكتاب هو المرشد في الصغر، والمسَّلي في الكبر والرفيق في العزلة (وخير جليس في الحياة كتاب... تلهو به إن خانك الأحباب) فما أجمل الإنسان الذي يدفن نفسه في كتاب عندما يتخلى عنه الأصدقاء. وخير للإنسان أن تمتلئ مكتبته بالكتب من أن تمتلئ محفظته بالنقود. فقيمة الإنسان فيما يحصله من علم ، فالكتاب هو النور، وبالفكر النير تتهذب النفس وتزكى الروح بالخلق النبيل، «فاحرص على النفس واستكمل فضائلها .. فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان».
رصيد مرتفع
من جهته يرجح التربوي واللغوي البحريني عبد العزيز العسماوي أن يكون ما سمي بالربيع العربي وثوراته رفعت نوعاً ما أو إلى حد ما من رصيد الكتاب العربي لدى قرائه كمؤلف ومنتج، حيث أثرت المكتبة العربية بمؤلفات جديدة ألفت حولها، إلا أن ذلك لا يعني أنها رفعت من قيمة الكتاب الورقي، ولا نقول بأنها قللت أو حطت من قيمته ومكانته، فللكتاب الورقي مكانته عند من يعرفون قيمته، قبل وبعد ما سمي بالربيع العربي، وما زادت تلك الثورات من رصيد قرائه، فللكتاب الورقي قراؤه النهومون بقراءته قبل وبعد تلك الثورات وما سمي بالربيع إن صح التعبير، مع تحفظي الشديد.
ويضيف العسماوي إن للكتاب الورقي كمصدر أساس للمعرفة والبحث ـ مع تعدد وسائل البحث والمعرفة والتعليم والتعلم في عصرنا الحاضرـ دوراً كبيراً ورائداً في توثيق وتسجيل التراث والتاريخ العربي بكل عصوره بشكل عام، والتراث الأدبي شعره ونثره بشكل خاص، لكل ذلك وغيره، صار للكتاب الورقي شأن عظيم في نفوس المثقفين من الأدباء والكتاب والفلاسفة والمناطقة، فعرفوه حق المعرفة وقدروه حق التقدير حتى إن بعض الشعراء عدوه نعم الصاحب والجليس والخل الوفي والصديق الصدوق، قال الشاعر مبيناً أهمية وقيمة الكتاب الورقي بالنسبة للقارئ العارف فعلاً بأهميته وقيمته «أعز مكان في الدنا سرج سابح... وخير جليس في الأنام كتاب»، وقال آخر «وخير جليس في الزمان كتاب .. تسلو به إن خانك الأصحاب»، ومع تعدد طرق وأساليب البحث والحصول على المعلومة بيسر وسهولة، كظهور الكتاب الإلكتروني كمنافس للكتاب الورقي، إلا أنه بقي الوسيلة الفضلى للبحث والمعرفة.
خصوصية وقدسية
أما الكاتب والمحلل السياسي وليد أحمد فيجد في الكتاب مكانة وقيمة لا تزول، رغم ما نشهده من إقبال على ما يعرف باسم «الثقافة الإلكترونية»، وربما يكون النشر الإلكتروني وسيلة جديدة للانتشار، لكن الكتاب الورقي له خصوصيته وقدسيته، وارتباطه المباشر بالمؤلف والقارئ، كما إنه يعطي عمق المعرفة والبحث والتأمل.
ويؤكد أحمد أن ثورات ما يعرف بـ «الربيع العربي» ساهمت بشكل مباشر في رفع قيمة الكتاب الورقي نظراً لمناخ الحرية الذي تمتعت به تلك الدول، وإن كانت تلك الحرية قد تحولت إلى فوضى، إضافة إلى عدم وجود رقابة صارمة على النشر، ومن هنا نشرت إصدارات وكتب تتحدث عن عهود الاستبداد والقهر في تلك الدول، كما سمحت ثورات الربيع العربي بإصدار الروايات والقصص التي تجسد الواقع الذي يعيشه المواطن العربي، متوقعاً أحمد أن تشهد الفترة المقبلة نشر مزيد من الكتب والروايات والقصص التي تؤرخ لتلك المرحلة الهامة في تاريخ الأمة العربية والإسلامية.
الوطن البحرينية الاثنين 17 مارس 2014
لقد أتاح «الربيع العربي» -بحسب مثقفين وكتاب- مناخاً من الحرية ساهم في رفع قيمة مكانة أناس وأشياء وخفض من مكانة أخرى، ومع ذلك لا يجد آخرون أنفسهم منساقين للأمل بحياة جديدة للكتاب المطبوع طوال السنوات الثلاث الأخيرة من عمر الربيع، رغم إيمانهم بأنه منح أصحاب الفكر فرصة ثمينة لتوثيق الأحداث، خصوصاً وأن محبي الكتاب جلهم فوق الـ 30.. وهناك جيل كامل لا يعترف بالورق، عدا عن سلطة التكنولوجيا حيث يوصف هذا الجيل بجيل الآي باد.
«الوطن» حاولت أن تستجلي واقع الكتاب الورقي، فخرجت بهذه الآراء لمجموعة من الكتاب والمثقفين...
يـرى الكاتب والمحلل السياسي الأردني موسى عساف أن السنوات الثلاث الأخيرة شهدت إعادة الحياة للكتاب المطبوع، من خلال الكم الكبير من المؤلفات التي تناولت مختلف جوانب الحراك الذي شهده العالم العربي، السياسية والاجتماعية والثقافية، لافتاً إلى مساهمة الربيع العربي في دفع الجمهور إلى القراءة المتعمقة لفهم طبيعة المرحلة التي يمر بها العالم العربي، والتي اتسمت بكثير من المتناقضات الفكرية، حيث ظهرت جلية من خلال المناقشات العلنية وكسرت كثيراً من التابوهات، والتي كان من المحرم الاقتراب منها لعقود طويلة.
ظهور كتب قيمة
ويشير عساف إلى أنه لكل ذلك؛ ظهر عدد كبير من الكتب المطبوعة ذات القيمة العالية، والتي تخاطب الفكر الحاضر بلغة لم تكن معهودة من قبل، وفتحت المجال كثيراً لطرح آراء وأفكار متناقضة وبشكل علني، وتجلى هذا الطرح خصوصاً في الكتب السياسية والفكرية والأدبية، بأنواعها؛ القصة والرواية والشعر.
يعتقد عساف أن الربيع العربي لم يكن ثورات سياسية فقط لامست المجتمع العربي فحسب، بل هي ثورات ثقافية وأدبية ستنتج مزيداً من الأعمال المتميزة، والتي ستكون شاهداً حياً على ما يعيشه العالم اليوم.
ويقول عساف: شخصياً رغم وسائل الاتصال الحديثة، وانشغالنا بكثير من التقنيات ووسائل تواصل المعرفة، لايزال الكتاب المطبوع يمثل لي المعرفة الأكثر قيمة. علاقتي بالكتاب ولدت منذ الصغر، لذلك أصبح الصديق الوفي الذي ألجأ إليه دائماً، فهو غذاء للروح أستمد منه المعرفة والفكر والأفكار الإيجابية، ورغم انتشار ما بات يعرف بالكتاب الإلكتروني، إلا أن للكتاب المطبوع قيمة معنوية كبيرة لدي، ومازلت أستشعر عمق المعرفة من خلال تصفح الأوراق.
موت الكتاب التقليدي
غير أن الكاتب والمحلل الاقتصادي الأردني مازن النسور يعتقد أن الطلب على الكتاب في تراجع مستمر ولو بشكل بطيء، مبيناً أن ذلك مرتبط بثقافة الأجيال والتقدم التكنولوجي، مؤكداً أننا سننعى الكتاب بشكله التقليدي بعد بضع سنوات وستغدو رفوف المكتبات شيء من التراث.
ويوضح النسور أن محبي الكتاب أو أولئك الذين ما زالوا يتعاطون معه جلهم فوق الـ 30 عاماً، ما يعني أن جيلاً كاملاً ممن هم دون هذا العمر، إلا من رحم ربي، لا يتعامل مع الورق. مردفاً بأن جميعنا يعلم بأن التكنولوجيا وما رافقها من وسائل إعلام وترفيه ومحطات تلفزة وحتى الوصول إلى الكتاب الإلكتروني، ضربت الورق وهي مستمرة بإنهائه إلى غير عودة. وهنا يمكن تأكيد مقولة جيل الآي باد على أرض الواقع فهي حقيقة رغم أنها تطلق على سبيل السخرية.
ويضيف النسور: أن سرعة الأحداث والمتغيرات لم تعد تنتظر موعد الطباعة وبالتالي الورق، وهذا ينطبق على ما يسمى بـ الربيع العربي وعلى كل ما يدور حولنا، فنحن بتنا نعرف ما يحدث بأقاصي الأرض مباشرة وبضغطة زر.
زيادة حالة الوعي
أما التربوي واللغوي المصري نبيل فوزي فيؤكد أن تأثير أحداث الربيع العربي على الكتاب كان تأثيراً إيجابياً، لافتاً إلى قيام أصحاب الفكر المتميز، والكتّاب المبدعين، برصد الأحداث التي وقعت وأشبعوها تحليلاً مستفيضاً وقاموا بتوثيقها وطبعت الكثير من الكتب، ولاقت رواجاً كبيراً من قطاع كبير من المهتمين بالشأن السياسي والثقافي والاجتماعي، وهذا دليل على ازدياد حالة الوعي عند الغالبية.
فوزي يؤكد أيضا أنه سيظل للكتاب الورقي مكانته وقيمته على الدوام، مشيراً إلى أنه رغم ما أذيع على شاشات التلفزيون وما تناقلته شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية من السرعة في نقل الخبر بالصوت والصورة، إلا أن الإقبال على الكتاب الورقي لم يتراجع كما يظن البعض، فالكتب المطبوعة هي سعادة الحضارة وبدونها يصمت التاريخ، ويخرص الأدب، هي الآثار الأكثر بقاء على الزمن، وأفضل إرثاً للأجيال والأمم.
يقول فوزي: إذا أراد الإنسان أن يزيد في عمره طولاً وعرضاً وعمقاً. فما عليه إلا أن يقرأ للعمالقة الأفذاذ من المفكرين. الذين أنعم الله عليهم بنعمة التأمل وقوة الإدراك.. أما إذا أراد التسلية فليقرأ للصغار من الكتّاب ومن هنا تأتي أهمية الكتاب المطبوع النافع في حياة كل إنسان. الكتاب الذي يحمله على أن يفكر ويناقش ويحاور، ويفتش عما تحت السطور، وينتقل مما تقع عليه عيناه، ويذهب إلى ما يريه العقل ولا يسمح لغيره أن يفكر له نيابة عنه ويصبح مثل شريط الكاسيت الذي يتلقى ولا حيلة له فيما يتلقى، فهذا إهدار لأدميته، وتفريط في حق نفسه، مبيناً أنه من هذا التفاعل بين الكاتب والقارئ الجيد، تتضح قيمة الكتاب الورقي. فرصيد الكاتب الحقيقي هو القارئ الجيد، فالقراءة للكاتب المبدع يمكن أن تعلمنا كيف نكتب، لكن لا يمكن أن تعلمنا كيف نتوقف عن الكتابة. فلا ينبغي للإنسان أن يقعد في صندوق من الجهل، ويغلق على نفسه، فمدينة الفكر كثيرة الأبواب وعليه أن يطرقها ويتفاعل معها ويحصن نفسه بالعلم والمعرفة، فأحد أسباب قوته ألاّ يغيب عنه شيء فيما يدور من حوله، والذي لا يعرف إلا القليل، ليس لديه الكثير الذي يقوله.
ويواصل فوزي: إن الفكر كالجسم يحتاج دائماً إلى تغذية مستمرة، فالطعام للجسد، والعلم للعقل، فهل يليق بالإنسان أن يفتح فمه، ويغلق عقله؟. ونحن نعيش لنتعلم، ونتعلم لنعيش فالمطالعة للنفس كالرياضة للجسم فلا غنى عن الكتاب، لأن جمال الإنسان لا ينبع من جسد جميل ولكن من عقل متفتح وهَّاج. فجمال الفكر دائماً يتزايد، وجمال الوجه يتناقص. وهنا يحضرني قول (سقراط) شيخ الفلاسفة في حكمه على الإنسان من خلال موقفه وحبه للقراءة فيقول: إذا أردت أن أحكم على إنسان، فإني أسأله كم كتاباً قرأت؟ وماذا قرأت؟ وكان يقصد بذلك الانتفاع بما يُقرأ، فلماذا نهمل الكتاب الذي لا غنى عنه؟. فليحرص كل إنسان على شغل كل وقته فيما يعود عليه بالنفع ولم يجد ما هو أفضل من الكتاب النافع المفيد. وليتذكر دائماً قول الشاعر: «أشباب يضيع في غير نفع.. وزمان يمر إثر زمان. ما رجاء محقق بالتمني.. أو حياة محمودة بالتواني». فماذا يفيد الإنسان إذا عاش بذهن متعطل خامل. والدواهي دائماً لا تأتي إلا من الفراغ.
ويتابع فوزي: جميل أن يجعل كل إنسان المكتبة في بيته أولى اهتماماته، فالمكتبة ليست من كماليات الحياة بل من لوازمها ولا يحق لإنسان أن يربي أولاده دون أن يحيطهم بالكتب، وسيظل الكتاب الورقي دائماً متربعاً على العرش، وخصوصاً عندي أنا شخصياً متفوقاً عن غيره من الوسائل الأخرى، كالراديو والتلفزيون فهو يسمح بحرية أكبر من التخيل والتفسيرات والتذوق، وله كل القدسية والاحترام، فالكلمة المطبوعة لها سحرها، ويكفي أن القارئ يستطيع أن يراجع ما يريده بالسرعة التي تناسبه، وفي أي وقت يشاء. أليس الكتاب هو المرشد في الصغر، والمسَّلي في الكبر والرفيق في العزلة (وخير جليس في الحياة كتاب... تلهو به إن خانك الأحباب) فما أجمل الإنسان الذي يدفن نفسه في كتاب عندما يتخلى عنه الأصدقاء. وخير للإنسان أن تمتلئ مكتبته بالكتب من أن تمتلئ محفظته بالنقود. فقيمة الإنسان فيما يحصله من علم ، فالكتاب هو النور، وبالفكر النير تتهذب النفس وتزكى الروح بالخلق النبيل، «فاحرص على النفس واستكمل فضائلها .. فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان».
رصيد مرتفع
من جهته يرجح التربوي واللغوي البحريني عبد العزيز العسماوي أن يكون ما سمي بالربيع العربي وثوراته رفعت نوعاً ما أو إلى حد ما من رصيد الكتاب العربي لدى قرائه كمؤلف ومنتج، حيث أثرت المكتبة العربية بمؤلفات جديدة ألفت حولها، إلا أن ذلك لا يعني أنها رفعت من قيمة الكتاب الورقي، ولا نقول بأنها قللت أو حطت من قيمته ومكانته، فللكتاب الورقي مكانته عند من يعرفون قيمته، قبل وبعد ما سمي بالربيع العربي، وما زادت تلك الثورات من رصيد قرائه، فللكتاب الورقي قراؤه النهومون بقراءته قبل وبعد تلك الثورات وما سمي بالربيع إن صح التعبير، مع تحفظي الشديد.
ويضيف العسماوي إن للكتاب الورقي كمصدر أساس للمعرفة والبحث ـ مع تعدد وسائل البحث والمعرفة والتعليم والتعلم في عصرنا الحاضرـ دوراً كبيراً ورائداً في توثيق وتسجيل التراث والتاريخ العربي بكل عصوره بشكل عام، والتراث الأدبي شعره ونثره بشكل خاص، لكل ذلك وغيره، صار للكتاب الورقي شأن عظيم في نفوس المثقفين من الأدباء والكتاب والفلاسفة والمناطقة، فعرفوه حق المعرفة وقدروه حق التقدير حتى إن بعض الشعراء عدوه نعم الصاحب والجليس والخل الوفي والصديق الصدوق، قال الشاعر مبيناً أهمية وقيمة الكتاب الورقي بالنسبة للقارئ العارف فعلاً بأهميته وقيمته «أعز مكان في الدنا سرج سابح... وخير جليس في الأنام كتاب»، وقال آخر «وخير جليس في الزمان كتاب .. تسلو به إن خانك الأصحاب»، ومع تعدد طرق وأساليب البحث والحصول على المعلومة بيسر وسهولة، كظهور الكتاب الإلكتروني كمنافس للكتاب الورقي، إلا أنه بقي الوسيلة الفضلى للبحث والمعرفة.
خصوصية وقدسية
أما الكاتب والمحلل السياسي وليد أحمد فيجد في الكتاب مكانة وقيمة لا تزول، رغم ما نشهده من إقبال على ما يعرف باسم «الثقافة الإلكترونية»، وربما يكون النشر الإلكتروني وسيلة جديدة للانتشار، لكن الكتاب الورقي له خصوصيته وقدسيته، وارتباطه المباشر بالمؤلف والقارئ، كما إنه يعطي عمق المعرفة والبحث والتأمل.
ويؤكد أحمد أن ثورات ما يعرف بـ «الربيع العربي» ساهمت بشكل مباشر في رفع قيمة الكتاب الورقي نظراً لمناخ الحرية الذي تمتعت به تلك الدول، وإن كانت تلك الحرية قد تحولت إلى فوضى، إضافة إلى عدم وجود رقابة صارمة على النشر، ومن هنا نشرت إصدارات وكتب تتحدث عن عهود الاستبداد والقهر في تلك الدول، كما سمحت ثورات الربيع العربي بإصدار الروايات والقصص التي تجسد الواقع الذي يعيشه المواطن العربي، متوقعاً أحمد أن تشهد الفترة المقبلة نشر مزيد من الكتب والروايات والقصص التي تؤرخ لتلك المرحلة الهامة في تاريخ الأمة العربية والإسلامية.
الوطن البحرينية الاثنين 17 مارس 2014