القد دخلنا على رؤوس أصابعنا وجلسنا، جِلسة غير مريحة، وسط جمعية تنظر إلينا من طرف خفي. ومع أننا لسنا -حقا- أجانب؛ حيث يمكننا، بكل مشروعية، إعلان أنفسنا أبناء لهذه البقاع، إلا أن ثَمة شيئا فينا كان مصدرا للخوف منا ولرفضنا، وإن كان ذلك يتم بشكل غير عقلي.
فنحن الآخرون -وسنظل كذلك-؛ أي أولئك البداة الخارجون عن السياق التاريخي. إننا، وإن كنا نعيش -حاليا- في المدن، نرتدي-أحيانا- بذلات عصرية، نقود سيارات معدة للمدينة أو عابرة للصحاري، نتحدث -بطلاقة- لغات أجنبية، ندخن سيجارة أمريكية، ونكرر -بشكل شامل- التصورات الشكلية للمفكرين الغربيين الكبار، سنظل، في نظرهم، ما كنا دائما: بدوا رحلا، قُطاعَ طرق تقريبا.
بالنسبة للعرب، فإننا نمثل، تقريبا، صورة لما كانوا عليه ولم يعودوا يريدون أن يكونوا عليه: جحافل محاربة جائعة كانت تنهب، على مدى قرون عديدة، المدن الغنية في المشرق والمغرب… نحن -قبل كل شيء- “أعراب” و”عروبيون”؛ شعوب هامشية متسكعة… فحتى وإن كانوا يُقِرون بأننا نتكلم لغة عربية قحة ونحتفظ بالكثير من التقاليد العربية القديمة التي تعود إلى ما قبل الإسلام، فإن المهم هو هذا: إنهم لا يعتبروننا -حقا- منهم، رغم أن الكثيرين منا متحمسون للعروبة والعروبية ويحملون في قلوبهم الجروح الدرامية في فلسطين والعراق وسوريا. وفي المغرب العربي، على سبيل المثال، لا يتم التفكير دائما في الأشياء الجيدة التي لدى هؤلاء “الصحراويين”؛ هؤلاء الأعراب الرافضين للاندماج و”الذين لا يحترمون أي شيء” كما تقول العامة.
بالنسبة للأفارقة جنوبي الصحراء، فنحن -بالتأكيد- محتَرَمون كمشايخ متصوفين ودعاة، ولكننا نمثل -على وجه الخصوص- الوجه الأكثر بشاعة للماضي: العبودية. كما يثير غضبَهم شعورُنا الغالب بالفخر وعقدة التفوقية السائدة لدينا والموروثة من البداوة، وإن كانت غير مؤسسة. إن الببظان، “نارْ”، هم عنصر غير مرغوب فيه في الجنوب، بل هو مكروه. والشعور بالكراهية اتجاه البيظان والطوارق يتزايد شيئا فشيئا في السنغال ومالي على سبيل المثال. وما قتْل الدعاة الموريتانيين والماليين، المسالمين، بدم بارد، على يد عناصر من الجيش المالي، إلا الوجه الخفي لهذا الشعور الذي يبدو أن الصحافة و”المراقبين” يرفضون - بشكل قاطع- النظر إليه: العنصرية ضد البظان.
المهم أننا نتشبث بدولة واحدة هي موريتانيا التي هي البلد الوحيد الذي استطعنا أن نفرض فيه وجودنا؛ لأننا نشكل فيه أغلبية، ولأننا نسيطر فيه على مقاليد الحكم مهما قيل عن ذلك. وعلينا أن نعترف أننا كنا نقوم -من وقت لآخر- بإظهار أننا أول من استوطن هذه الأرض: إنه التفاخر، الطبيعي فينا. ورغم كل الخطابات الرسمية، وكل الإيديولوجيات التي حكمت البلاد، فقد ظللنا دائما نميل إلى الاعتقاد بأن هذا البلد هو -قبل كل شيء- بلد البظان، وأن البظاني -سواء كان في المغرب أو الجزائر أو مالي أو اتشاد- هو من هذه الأرض التي توجد فيها قبيلته؛ إذ أن الانتماء القبَلي يُعتَبَرُ في نظرنا الانتماء الوحيد الجدير بالاهتمام. إنني، وأنا أكتب هذه السطور، أكاد أسمع صرخات استنكار من البعض: أنا لا أقوم إلا بكتابة ما يحاول البعض تغطيته بسترات ملونة.
كل هذا -بالطبع- لا يتماشى مع روح العصر، وهو غير مستقيم سياسيا، وربما لا يحسن قوله خارج دوائرنا الضيقة… ولكن قد يتحتم علينا، في يوم من الأيام، أن نكشف عنا جانبا من اللثام، وأن نعيد النظر قليلا في مصادر فخرنا و -كذلك- في مخاوفنا الكبرى؛ لأننا عندما ننظر إلى ما يحيط بنا نشعر -أحيانا- بالخوف.
إننا نرى قضية الصحراء مستعصية على الحل والآلاف من إخواننا يعانون في مخيمات اللاجئين قرب تندوف، في حين أن رائحة الرصاص تفوح من حولهم. ونرى شمالي -مالي وهو يتحول إلى ساحةِ مغامرة، يتهدد ثقافتَنا فيها خطرُ الانهيار على يد الإسلام الراديكالي أو قوات غرب إفريقيا. وفي الوقت نفسه فإننا نقف عاجزين عن تصحيح مظالم الماضي: فلا “الحراطين”، هؤلاء العبيد السابقون الذين يريدون أن يكونوا مساوين لنا، ولا “الصناع”، هؤلاء المقصيون الذين يودون الخروج من الظل، لا هؤلاء ولا أولئك وجدوا الاعتبار -حقيقة- لدينا. نحن محاطون بأسئلة لا نملك إجابات عليها، ولا نسعى -حتى- إلى الحصول عليها؛ لأننا واثقون من شيء واحد: لقد أمضينا الكثير من القرون لا يحبنا أي أحد، ولم يضرنا ذلك شيئا.
ولكن سيكون علينا، في يوم من الأيام، أن نجد التفسيرات ونواجه الواقع ونطرح الأسئلة الحقيقية ونغربل كل شيء ثم -في النهاية- نقدم أنفسنا للآخرين كما نحن وكما نريد أن نكون: شعب متمدن، سليل حضارات عديدة، متنوع الأعراق إلى حد كبير، يريد أن يستفيد، ويروض شياطينه الداخلية، ويكون مقبولا من قِبَل الآخرين.
وعلى جيراننا في الشمال والجنوب أن يبذلوا، من جانبهم، جهدا إضافيا ويفهموا -في الأخير- حقيقة، نهائية هذه المرة: إننا لن نكون الزائدة الدودية لا لهؤلاء ولا لهؤلاء.
عن:
#موريتانيا أخبار
Posted by mintmauritanie
فنحن الآخرون -وسنظل كذلك-؛ أي أولئك البداة الخارجون عن السياق التاريخي. إننا، وإن كنا نعيش -حاليا- في المدن، نرتدي-أحيانا- بذلات عصرية، نقود سيارات معدة للمدينة أو عابرة للصحاري، نتحدث -بطلاقة- لغات أجنبية، ندخن سيجارة أمريكية، ونكرر -بشكل شامل- التصورات الشكلية للمفكرين الغربيين الكبار، سنظل، في نظرهم، ما كنا دائما: بدوا رحلا، قُطاعَ طرق تقريبا.
بالنسبة للعرب، فإننا نمثل، تقريبا، صورة لما كانوا عليه ولم يعودوا يريدون أن يكونوا عليه: جحافل محاربة جائعة كانت تنهب، على مدى قرون عديدة، المدن الغنية في المشرق والمغرب… نحن -قبل كل شيء- “أعراب” و”عروبيون”؛ شعوب هامشية متسكعة… فحتى وإن كانوا يُقِرون بأننا نتكلم لغة عربية قحة ونحتفظ بالكثير من التقاليد العربية القديمة التي تعود إلى ما قبل الإسلام، فإن المهم هو هذا: إنهم لا يعتبروننا -حقا- منهم، رغم أن الكثيرين منا متحمسون للعروبة والعروبية ويحملون في قلوبهم الجروح الدرامية في فلسطين والعراق وسوريا. وفي المغرب العربي، على سبيل المثال، لا يتم التفكير دائما في الأشياء الجيدة التي لدى هؤلاء “الصحراويين”؛ هؤلاء الأعراب الرافضين للاندماج و”الذين لا يحترمون أي شيء” كما تقول العامة.
بالنسبة للأفارقة جنوبي الصحراء، فنحن -بالتأكيد- محتَرَمون كمشايخ متصوفين ودعاة، ولكننا نمثل -على وجه الخصوص- الوجه الأكثر بشاعة للماضي: العبودية. كما يثير غضبَهم شعورُنا الغالب بالفخر وعقدة التفوقية السائدة لدينا والموروثة من البداوة، وإن كانت غير مؤسسة. إن الببظان، “نارْ”، هم عنصر غير مرغوب فيه في الجنوب، بل هو مكروه. والشعور بالكراهية اتجاه البيظان والطوارق يتزايد شيئا فشيئا في السنغال ومالي على سبيل المثال. وما قتْل الدعاة الموريتانيين والماليين، المسالمين، بدم بارد، على يد عناصر من الجيش المالي، إلا الوجه الخفي لهذا الشعور الذي يبدو أن الصحافة و”المراقبين” يرفضون - بشكل قاطع- النظر إليه: العنصرية ضد البظان.
المهم أننا نتشبث بدولة واحدة هي موريتانيا التي هي البلد الوحيد الذي استطعنا أن نفرض فيه وجودنا؛ لأننا نشكل فيه أغلبية، ولأننا نسيطر فيه على مقاليد الحكم مهما قيل عن ذلك. وعلينا أن نعترف أننا كنا نقوم -من وقت لآخر- بإظهار أننا أول من استوطن هذه الأرض: إنه التفاخر، الطبيعي فينا. ورغم كل الخطابات الرسمية، وكل الإيديولوجيات التي حكمت البلاد، فقد ظللنا دائما نميل إلى الاعتقاد بأن هذا البلد هو -قبل كل شيء- بلد البظان، وأن البظاني -سواء كان في المغرب أو الجزائر أو مالي أو اتشاد- هو من هذه الأرض التي توجد فيها قبيلته؛ إذ أن الانتماء القبَلي يُعتَبَرُ في نظرنا الانتماء الوحيد الجدير بالاهتمام. إنني، وأنا أكتب هذه السطور، أكاد أسمع صرخات استنكار من البعض: أنا لا أقوم إلا بكتابة ما يحاول البعض تغطيته بسترات ملونة.
كل هذا -بالطبع- لا يتماشى مع روح العصر، وهو غير مستقيم سياسيا، وربما لا يحسن قوله خارج دوائرنا الضيقة… ولكن قد يتحتم علينا، في يوم من الأيام، أن نكشف عنا جانبا من اللثام، وأن نعيد النظر قليلا في مصادر فخرنا و -كذلك- في مخاوفنا الكبرى؛ لأننا عندما ننظر إلى ما يحيط بنا نشعر -أحيانا- بالخوف.
إننا نرى قضية الصحراء مستعصية على الحل والآلاف من إخواننا يعانون في مخيمات اللاجئين قرب تندوف، في حين أن رائحة الرصاص تفوح من حولهم. ونرى شمالي -مالي وهو يتحول إلى ساحةِ مغامرة، يتهدد ثقافتَنا فيها خطرُ الانهيار على يد الإسلام الراديكالي أو قوات غرب إفريقيا. وفي الوقت نفسه فإننا نقف عاجزين عن تصحيح مظالم الماضي: فلا “الحراطين”، هؤلاء العبيد السابقون الذين يريدون أن يكونوا مساوين لنا، ولا “الصناع”، هؤلاء المقصيون الذين يودون الخروج من الظل، لا هؤلاء ولا أولئك وجدوا الاعتبار -حقيقة- لدينا. نحن محاطون بأسئلة لا نملك إجابات عليها، ولا نسعى -حتى- إلى الحصول عليها؛ لأننا واثقون من شيء واحد: لقد أمضينا الكثير من القرون لا يحبنا أي أحد، ولم يضرنا ذلك شيئا.
ولكن سيكون علينا، في يوم من الأيام، أن نجد التفسيرات ونواجه الواقع ونطرح الأسئلة الحقيقية ونغربل كل شيء ثم -في النهاية- نقدم أنفسنا للآخرين كما نحن وكما نريد أن نكون: شعب متمدن، سليل حضارات عديدة، متنوع الأعراق إلى حد كبير، يريد أن يستفيد، ويروض شياطينه الداخلية، ويكون مقبولا من قِبَل الآخرين.
وعلى جيراننا في الشمال والجنوب أن يبذلوا، من جانبهم، جهدا إضافيا ويفهموا -في الأخير- حقيقة، نهائية هذه المرة: إننا لن نكون الزائدة الدودية لا لهؤلاء ولا لهؤلاء.
عن:
#موريتانيا أخبار
Posted by mintmauritanie