أنهيت رواية صنع الله إبراهيم التلصص في أقل من أسبوع، في قراءة ليلية فقط، أنام وأستيقظ عليها، وعلي غير عادتي لم أقفز علي أية صفحة او فصل أو لوحة، بل كثيرا ما عدت لأتثبت مما قرأت.
عادة ما أجد، المقدمة المنطقية، التي تلحم أجزاء الهيكل الروائي إلي بعضها، والتي تعطي لكل كلمة وجملة وفقرة مشروعيتها، وحصانتها، بصفة خاصة، وتمنعنا من التساؤل عما أورد هذا الخبر، في خضم هذه الأخبار المتلاحمة. ولكن في هذه الرواية، كلما عثرت علي واحدة، أجلت البت فيها خشية أن أجد ثانية غيرها. وعندما انتهيت صباح هذا الجمعة، من كل الرواية، استقر رأيي علي ما عثرت عليه في الصفحات الأولي: ما يراه هذا الولد يستوجب الاهتمام.
ذلك أن هذا الولد، هو الذي رأي في كل رواياته، المجتمع المصري، والتغيرات التي تطرأ عليه، والتطورات التي يعاني عسرها، وهو الذي رأي المجتمع الأمريكي، عاريا.
هو هو في اللجنة وفي نجمة أغسطس، وفي بيروت بيروت، وفي ذات، وفي أمريكانلي.
تلك الأشياء التي تعرفها، والتي صارت روتينية بالنسبة إليك، يلمسها صنع الله، فتثير فيك الغرابة، ولربما تجعلك تبتسم أو تحزن، أو حتي تقهقه، كما جري في خاتمة الرواية، عندما لم تفلح شمس المعارف في إخفاء المتلصص، عن أبيه، عاري المؤخرة، وفاطمة الشغالة، تتبرم من تحته.
إن هذا الولد، هو بصيرتنا المصقولة، فكما عرفنا في ذات مثلا، تفاصيل مجتمع الانفتاح، نري في التلصص مصر الأربعينات من كل زواياها وجوانبها، من خلال ملحمة والد، فقد زوجته، ولم يفلح في الزواج مرة أخري، قضي عليه القدر، كما في الملاحم الإغريقية، أن لا يفارق ابنه.
جعل صنع الله، من الولد رأس خيط، نسيج العنكبوت، وراح، ينسج عمودا لولبيا تتحرك دوائره وتكبر، كلما تحرك الولد صحبة أبيه، داخل الغرف، وفي العمارة، في الحارة، سواء علي الأقدام من متجر لآخر، ومن مدرسة لأخري أو في الترام.
إنه يري، وإنه ليسمع، وإنه ليجعلنا نتوقع، خاصة عندما يطل من خلال فتحات المفاتيح. وصنع الله في كل أعماله يستعين بشيء من الفلفل الأسود للإثارة ، فلا تغفل عيناه، تفاصيل جسد الأنثي، وأحيانا حتي الذكور.
كما نعرف أخبار أخته نبيلة، نعرف أخبار القصر الملكي وأخبار الأحزاب ، وأخبار فلسطين والحرب العربية الإسرائيلية. كل ذلك يتخله، حضور الأم في منظر أو في خبر، من خلال تذكر ماض، أو بالأصح من خلال ومضات، فيمتزج الماضي والحال والحاضر. نتوهم موتها، أو طلاقها أو أي شيء جعلها تترك المنزل، حتي نعرف في الأخير، أنها في مستشفي المجانين. يقصدها الزوج المحروم بقرطاس التفاح.
بصرامة العنكبوت، يضعنا صنع الله، (وإبراهيم يتميز في كل أعماله، بصرامة الجراح، المنتبه لكل دقائق العملية)، في شبكة روايته، ويفرض علينا هدوءه ووقاره، وخبثه كذلك، خاصة في وصف ضعف الناس وهزائمهم أو حيلهم المكشوفة، وكما لو أنه يتشفي منهم ومنا.
لأول مرة، أصادف عملا ملحميا، انمحي منه الفعل الماضي، وحل محله، مشمرا علي ذراعيه، الفعل المضارع، مستعينا بالاسماء أو بشبه الجملة.
يجعل المضارع، المرء في وضعية من يشاهد حركات كاميرا، علي الشاشة، في مناظر لا تتقطع.
حتي أننا نكاد، نتوهم أنه، صنع الله، يأخذ بأيدينا نحن، ككاتب، بدل الابن الذي يأخذ بيده أبوه.
ولقد تولدت قوة هائلة في جعل السرد، حركة، وليس توهما أو خيالا.
لغة إبراهيم صنع الله كعادتها تتجنب التقاعر، لتكون سلسة، خجولة أمام الصورة أو الحركة، ولكنها معبرة بقوة، عما يراد أن يصلنا، ولقد جعل إبراهيم، كل مفردات المجتمع المصري، المعبرة عن أشاء دخيلة، لا بديل لها في الفصحي، تندمج مع النص، دون أي نشاز.
استعملت عبارة ملحمة، وأكررها دون تردد، فهي
ملحمة فقراء مصر أيامها.
ملحمة الصراع مع سلطة فاسدة.
ملحمة حداثة، تدق الأبواب، بإمكانيات محدودة.
ملحمة الصراع العربي الإسرائيلي.
ملحمة أب شبيه بسيزيف، صخرته هي هذا الولد الذي يحبه في عمقه، والذي لا يمكن أن يفرط فيه.
ملحمة هذا الولد المحكوم عليه بالعيش معظم طفولته مع الكبار.
ملحمة النمو والاكتشاف، الطبيعيين الغريزيين.
هنيئا صديقي إبراهيم
نقلا عن اخبار الادب
عدد 4 فبراير
عادة ما أجد، المقدمة المنطقية، التي تلحم أجزاء الهيكل الروائي إلي بعضها، والتي تعطي لكل كلمة وجملة وفقرة مشروعيتها، وحصانتها، بصفة خاصة، وتمنعنا من التساؤل عما أورد هذا الخبر، في خضم هذه الأخبار المتلاحمة. ولكن في هذه الرواية، كلما عثرت علي واحدة، أجلت البت فيها خشية أن أجد ثانية غيرها. وعندما انتهيت صباح هذا الجمعة، من كل الرواية، استقر رأيي علي ما عثرت عليه في الصفحات الأولي: ما يراه هذا الولد يستوجب الاهتمام.
ذلك أن هذا الولد، هو الذي رأي في كل رواياته، المجتمع المصري، والتغيرات التي تطرأ عليه، والتطورات التي يعاني عسرها، وهو الذي رأي المجتمع الأمريكي، عاريا.
هو هو في اللجنة وفي نجمة أغسطس، وفي بيروت بيروت، وفي ذات، وفي أمريكانلي.
تلك الأشياء التي تعرفها، والتي صارت روتينية بالنسبة إليك، يلمسها صنع الله، فتثير فيك الغرابة، ولربما تجعلك تبتسم أو تحزن، أو حتي تقهقه، كما جري في خاتمة الرواية، عندما لم تفلح شمس المعارف في إخفاء المتلصص، عن أبيه، عاري المؤخرة، وفاطمة الشغالة، تتبرم من تحته.
إن هذا الولد، هو بصيرتنا المصقولة، فكما عرفنا في ذات مثلا، تفاصيل مجتمع الانفتاح، نري في التلصص مصر الأربعينات من كل زواياها وجوانبها، من خلال ملحمة والد، فقد زوجته، ولم يفلح في الزواج مرة أخري، قضي عليه القدر، كما في الملاحم الإغريقية، أن لا يفارق ابنه.
جعل صنع الله، من الولد رأس خيط، نسيج العنكبوت، وراح، ينسج عمودا لولبيا تتحرك دوائره وتكبر، كلما تحرك الولد صحبة أبيه، داخل الغرف، وفي العمارة، في الحارة، سواء علي الأقدام من متجر لآخر، ومن مدرسة لأخري أو في الترام.
إنه يري، وإنه ليسمع، وإنه ليجعلنا نتوقع، خاصة عندما يطل من خلال فتحات المفاتيح. وصنع الله في كل أعماله يستعين بشيء من الفلفل الأسود للإثارة ، فلا تغفل عيناه، تفاصيل جسد الأنثي، وأحيانا حتي الذكور.
كما نعرف أخبار أخته نبيلة، نعرف أخبار القصر الملكي وأخبار الأحزاب ، وأخبار فلسطين والحرب العربية الإسرائيلية. كل ذلك يتخله، حضور الأم في منظر أو في خبر، من خلال تذكر ماض، أو بالأصح من خلال ومضات، فيمتزج الماضي والحال والحاضر. نتوهم موتها، أو طلاقها أو أي شيء جعلها تترك المنزل، حتي نعرف في الأخير، أنها في مستشفي المجانين. يقصدها الزوج المحروم بقرطاس التفاح.
بصرامة العنكبوت، يضعنا صنع الله، (وإبراهيم يتميز في كل أعماله، بصرامة الجراح، المنتبه لكل دقائق العملية)، في شبكة روايته، ويفرض علينا هدوءه ووقاره، وخبثه كذلك، خاصة في وصف ضعف الناس وهزائمهم أو حيلهم المكشوفة، وكما لو أنه يتشفي منهم ومنا.
لأول مرة، أصادف عملا ملحميا، انمحي منه الفعل الماضي، وحل محله، مشمرا علي ذراعيه، الفعل المضارع، مستعينا بالاسماء أو بشبه الجملة.
يجعل المضارع، المرء في وضعية من يشاهد حركات كاميرا، علي الشاشة، في مناظر لا تتقطع.
حتي أننا نكاد، نتوهم أنه، صنع الله، يأخذ بأيدينا نحن، ككاتب، بدل الابن الذي يأخذ بيده أبوه.
ولقد تولدت قوة هائلة في جعل السرد، حركة، وليس توهما أو خيالا.
لغة إبراهيم صنع الله كعادتها تتجنب التقاعر، لتكون سلسة، خجولة أمام الصورة أو الحركة، ولكنها معبرة بقوة، عما يراد أن يصلنا، ولقد جعل إبراهيم، كل مفردات المجتمع المصري، المعبرة عن أشاء دخيلة، لا بديل لها في الفصحي، تندمج مع النص، دون أي نشاز.
استعملت عبارة ملحمة، وأكررها دون تردد، فهي
ملحمة فقراء مصر أيامها.
ملحمة الصراع مع سلطة فاسدة.
ملحمة حداثة، تدق الأبواب، بإمكانيات محدودة.
ملحمة الصراع العربي الإسرائيلي.
ملحمة أب شبيه بسيزيف، صخرته هي هذا الولد الذي يحبه في عمقه، والذي لا يمكن أن يفرط فيه.
ملحمة هذا الولد المحكوم عليه بالعيش معظم طفولته مع الكبار.
ملحمة النمو والاكتشاف، الطبيعيين الغريزيين.
هنيئا صديقي إبراهيم
نقلا عن اخبار الادب
عدد 4 فبراير