لا جدال في أن الإعلانات التجارية لها أثرها في كل واحد منا من حيث نشعر أو لا نشعر، ولو لم يكن الأمر كذلك لما أنفقت شركات الإعلان مئات الملايين من الدولارات على ترويج سلع استهلاكية، سواء كان ذلك في الصحف أو المجلات أو الإذاعة أو التلفزيون. وأشد ما يكون الإعلان تأثيرا على المراهقين، لأن هذه الفئة لم تحصل بعد على الخبرات التي تساعدها في تبين الخطأ من الصواب، ولم تشكل مواقفها ومفاهيمها وقيمها، ولا تستطيع مقاومة ما تمطرها به وسائل الاتصال المختلفة من أفكار وإغراءات إلى درجة أن بعض المربين يعتقدون أن وسائل الإعلام هي التي تتولى تربية أطفالنا ولسنا نحن الآباء والأمهات.
والمعلنون مدركون لنقاط الضعف في المراهقين، ولا يترددون في استغلالها بكل ما لديهم من طاقات مالية ونفسية وفنية فالسيكارة تغدو رمزاً لاستقلال الفرد، وبنطال الجينز يغدو رمزا للجاذبية والفتوة، وعطر معين يغدو رمزا للتحقق والفتنة. ولكن ماذا يتعلم المراهقون من الإعلانات التجارية؟ إنهم يتعلمون أن المرأة وسيلة إثارة فحسب، أو هي في أفضل الأحوال زوجة مهووسة بالنظافة والترتيب، ويتعلمون أن يكونوا مستهلكين، وأن يعتبروا الأشياء ذات قيمة بحد ذاتها، وليس بالقياس إلى حاجتنا إليها، ويتعلمون أن بإمكانك أن تشتري السعادة إذا كنت قادرا على دفع الثمن، ويتعلمون أن هناك حلولا جاهزة وميسرة لمشكلات الحياة المعقدة. ويترتب على هذا أن قيمة الإنسان تصبح معتمدة على ما يستعمله من سيارة أو عطر أو سيكارة.
والمرأة في الإعلان فتاة جميلة وأنيقة ونحيلة ورشيقة وممشوقة القوام، ولكنها قبل كل شيء شابة في مقتبل العمر لا تجاعيد في وجهها ولا خطوط (أي أنها تفتقر إلى الخبرة والنضج). وما زالت وسائل الإعلام تمطرنا بهذه الصورة للمرأة المثالية حتى أصبحت هي المعيار القائم في المجتمع تقاس كل امرأة بها، الأمر الذي يجعل معظم النساء العاديات يشعرن بالخجل وبعقدة النقص وبالذنب لسقوطهن في امتحان المقارنة مع المرأة في الإعلان. بل يشعرن أن من المعتذر أن يكن موضع حب واحترام وتقدير في مجتمع المثل الأعلى فيه امرأة شابة وجميلة.
ولا جدال في أن هذه الصورة صورة مصطنعة، ولا يمكن تحقيقها إلا بوسائل اصطناعية. فنجد كثيرا من النساء يدفعهن اليأس إلى تقليد الصورة، فيغالين في طلاء وجوههن بالألوان (فصناعة أدوات التجميل بلغت قيمتها آلاف الملايين من الدولارات)، ويتسابقن في شراء أحدث الأزياء وأثمن العطور. لقد تعلمت المرأة أن تنظر إلى وجهها على أنه قناع، وان تنظر إلى جسمها على أنه شكل، وازدادت الهوة بين الشكل والذات الحقيقية، والشكل في حاجة مستمرة إلى تعديل وتجميل في حين أن الذات الحقيقية مهملة لا يلتفت إليها أحد.
وهل المرأة راضية بعد ذلك؟ لقد جزأت شركات الإعلان جسم المرأة فجعلت كل عضو فيه بحاجة إلى ترميم وتجميل، فلا بد أن تولي المرأة عناية خاصة برموشها وشفتيها وشعرها وصدرها وساقيها وهي لا تستطيع نيل استحسان الآخرين، في نظر المعلنين، إلا إذا استعملت أحمر شفاه معيناً أو شامبو معينا أو عطرا معينا أو فستانا من دار أزياء معينة. أما الصحة البدنية والنفسية فلا يعتقد المعلنون أنها ذات أهمية. إن أدوات الزينة والوجبات السريعة والمشروبات الغازية والكحولية والسكائر في واقع الأمر مضرة حتى للجاذبية التي يدعى المعلنون أنهم حريصون عليها. ونادرا ما نجد بين المعلنين من يهتم اهتماما حقيقيا بالتغذية بمفهومها الصحيح أو بالتدريبات البدنية التي هي عنصر أساسي في الصحة والرشاقة. وتتعلم المراهقة من الإعلان أن تكون في خوف دائم من أن تفقد محاسنها، وان تدخل في سباق مع غيرها من النساء للتفوق عليهن في الجمال والرشاقة والفتوة.
وهذا يعني أن عليها ألا تكبر في السن فالتقدم في السن عيب لا يغتفر وأن عليها أن تبقى فجة وعالة على غيرها. وهي تتعلم أن الجنس نشاط نرجسي لا صلة له بعلاقة إنسانية مثمرة، فالمرأة في الإعلان تتهادى مزهوة بنفسها، تلمس برؤوس أناملها الرقيقة جلدها الحريري، وتعانق نفسها، وتغتبط بشعرها الأملس اللماع الطويل، وتستحم بشكل مثير مستخدمة احدث الشامبويات والمطريات، ثم تطيل النظر في مرآتها مستمتعة بمفاتنها. إن شركات الإعلان تسخر في إعلاناتها من إمكانية تحقيق الذات بل تجعلها عملية مستحيلة. فإذا كان الهدف هو محاكاة المثل الأعلى، وهو بالتعريف مثل فارغ من كل قيمة، فإنه لا مجال هناك لعاطفة إنسانية جميلة، ولا لخلق كريم، ولا لتميز أو كبرياء.
وشركات الإعلان لا تعفي الرجل من مثل أعلى مستحيل آخر يسعى إليه بكل ما لديه من طاقة. فمن هو الرجل المثالي في الإعلان؟ هو رجل مهووس بالنجاح المادي، وهو رجل لا تكتمل رجولته إلا بالاستيلاء على أجمل النساء، وبشراء أفخم السيارات، وبالتعامل مع أضخم المصارف، وباكتساب مظاهر الغطرسة، وبتدخين أثمن السكائر. وتحرص شركات الإعلان على إبراز فارق واضح بين الرجل الأعزب والرجل المتزوج. فالأول ناجح ومندفع ويتمتع بالحياة، والثاني تثقله الهموم والمشكلات، وكأن زواجه هو سبب همومه ومشكلاته.
صحيح أن صورة المرأة في الإعلانات التجارية قد طرأ عليها بعض التغيير في السنوات القليلة الماضية. لقد أصبحت المرأة خارقة، فهي تتمتع بطاقة فوق طاقة البشر. فبعد أن تنهي يوما مرهقا في العمل تعود إلى البيت لتعد الطعام وتقوم بالتنظيف والترتيب باستخدام منتوج معين وليس بمساعدة زوجها، فهي امرأة متحررة، وهي مدينة بتحررها إلى هذا المنتوج السحري الذي تستعمله. ولكن هذا التعديل في صورة المرأة في الإعلانات التجارية لا يمثل أي تقدم حقيقي، ولا يقدم إلا حلولاً وهمية لمشكلات سياسية واجتماعية معقدة في حياة كل أفراد المجتمع فالإعلان يوحي بان من السهل على المرأة أن تكون زوجة وعاملة في الوقت نفسه، ويتجاهل أن معظم النساء سواء في وطننا العربي أو في الغرب يعانين من وضع إنساني واجتماعي متخلف، ويتقاضين أجورا تقل عما يتقاضاه الرجال للقيام بالعمل نفسه، كما أنه يسهم في تشتيت الجهود الرامية إلى إيجاد حلول حقيقية لمشكلات المرأة.
وخلاصة القول أن الدور الذي تصوره الإعلانات التجارية للمرأة هو دور محدود ومتناقض مع ذاته. فالمطلوب من المرأة أن تظل طفلة بريئة وساذجة، فهذا من شروط أنوثتها، ولكن عليها في الوقت ذاته أن تكون امرأة خارقة فهذا من مستلزمات المدنية الحديثة. أما الرجل فمطلوب منه أن يخفي مشاعره وأحاسيسه، وأن يكون باردا وقاسيا، وأن يركز طاقته كلها على تحقيق طموحاته المادية التي لا تعرف الحدود. وفي هذه الأحوال جميعا سيكون الرجل والمرأة عاجزين عن إقامة علاقة إنسانية سليمة بينهما.
zedhakim@yahoo.co.uk
لندن - بريطانيا
والمعلنون مدركون لنقاط الضعف في المراهقين، ولا يترددون في استغلالها بكل ما لديهم من طاقات مالية ونفسية وفنية فالسيكارة تغدو رمزاً لاستقلال الفرد، وبنطال الجينز يغدو رمزا للجاذبية والفتوة، وعطر معين يغدو رمزا للتحقق والفتنة. ولكن ماذا يتعلم المراهقون من الإعلانات التجارية؟ إنهم يتعلمون أن المرأة وسيلة إثارة فحسب، أو هي في أفضل الأحوال زوجة مهووسة بالنظافة والترتيب، ويتعلمون أن يكونوا مستهلكين، وأن يعتبروا الأشياء ذات قيمة بحد ذاتها، وليس بالقياس إلى حاجتنا إليها، ويتعلمون أن بإمكانك أن تشتري السعادة إذا كنت قادرا على دفع الثمن، ويتعلمون أن هناك حلولا جاهزة وميسرة لمشكلات الحياة المعقدة. ويترتب على هذا أن قيمة الإنسان تصبح معتمدة على ما يستعمله من سيارة أو عطر أو سيكارة.
والمرأة في الإعلان فتاة جميلة وأنيقة ونحيلة ورشيقة وممشوقة القوام، ولكنها قبل كل شيء شابة في مقتبل العمر لا تجاعيد في وجهها ولا خطوط (أي أنها تفتقر إلى الخبرة والنضج). وما زالت وسائل الإعلام تمطرنا بهذه الصورة للمرأة المثالية حتى أصبحت هي المعيار القائم في المجتمع تقاس كل امرأة بها، الأمر الذي يجعل معظم النساء العاديات يشعرن بالخجل وبعقدة النقص وبالذنب لسقوطهن في امتحان المقارنة مع المرأة في الإعلان. بل يشعرن أن من المعتذر أن يكن موضع حب واحترام وتقدير في مجتمع المثل الأعلى فيه امرأة شابة وجميلة.
ولا جدال في أن هذه الصورة صورة مصطنعة، ولا يمكن تحقيقها إلا بوسائل اصطناعية. فنجد كثيرا من النساء يدفعهن اليأس إلى تقليد الصورة، فيغالين في طلاء وجوههن بالألوان (فصناعة أدوات التجميل بلغت قيمتها آلاف الملايين من الدولارات)، ويتسابقن في شراء أحدث الأزياء وأثمن العطور. لقد تعلمت المرأة أن تنظر إلى وجهها على أنه قناع، وان تنظر إلى جسمها على أنه شكل، وازدادت الهوة بين الشكل والذات الحقيقية، والشكل في حاجة مستمرة إلى تعديل وتجميل في حين أن الذات الحقيقية مهملة لا يلتفت إليها أحد.
وهل المرأة راضية بعد ذلك؟ لقد جزأت شركات الإعلان جسم المرأة فجعلت كل عضو فيه بحاجة إلى ترميم وتجميل، فلا بد أن تولي المرأة عناية خاصة برموشها وشفتيها وشعرها وصدرها وساقيها وهي لا تستطيع نيل استحسان الآخرين، في نظر المعلنين، إلا إذا استعملت أحمر شفاه معيناً أو شامبو معينا أو عطرا معينا أو فستانا من دار أزياء معينة. أما الصحة البدنية والنفسية فلا يعتقد المعلنون أنها ذات أهمية. إن أدوات الزينة والوجبات السريعة والمشروبات الغازية والكحولية والسكائر في واقع الأمر مضرة حتى للجاذبية التي يدعى المعلنون أنهم حريصون عليها. ونادرا ما نجد بين المعلنين من يهتم اهتماما حقيقيا بالتغذية بمفهومها الصحيح أو بالتدريبات البدنية التي هي عنصر أساسي في الصحة والرشاقة. وتتعلم المراهقة من الإعلان أن تكون في خوف دائم من أن تفقد محاسنها، وان تدخل في سباق مع غيرها من النساء للتفوق عليهن في الجمال والرشاقة والفتوة.
وهذا يعني أن عليها ألا تكبر في السن فالتقدم في السن عيب لا يغتفر وأن عليها أن تبقى فجة وعالة على غيرها. وهي تتعلم أن الجنس نشاط نرجسي لا صلة له بعلاقة إنسانية مثمرة، فالمرأة في الإعلان تتهادى مزهوة بنفسها، تلمس برؤوس أناملها الرقيقة جلدها الحريري، وتعانق نفسها، وتغتبط بشعرها الأملس اللماع الطويل، وتستحم بشكل مثير مستخدمة احدث الشامبويات والمطريات، ثم تطيل النظر في مرآتها مستمتعة بمفاتنها. إن شركات الإعلان تسخر في إعلاناتها من إمكانية تحقيق الذات بل تجعلها عملية مستحيلة. فإذا كان الهدف هو محاكاة المثل الأعلى، وهو بالتعريف مثل فارغ من كل قيمة، فإنه لا مجال هناك لعاطفة إنسانية جميلة، ولا لخلق كريم، ولا لتميز أو كبرياء.
وشركات الإعلان لا تعفي الرجل من مثل أعلى مستحيل آخر يسعى إليه بكل ما لديه من طاقة. فمن هو الرجل المثالي في الإعلان؟ هو رجل مهووس بالنجاح المادي، وهو رجل لا تكتمل رجولته إلا بالاستيلاء على أجمل النساء، وبشراء أفخم السيارات، وبالتعامل مع أضخم المصارف، وباكتساب مظاهر الغطرسة، وبتدخين أثمن السكائر. وتحرص شركات الإعلان على إبراز فارق واضح بين الرجل الأعزب والرجل المتزوج. فالأول ناجح ومندفع ويتمتع بالحياة، والثاني تثقله الهموم والمشكلات، وكأن زواجه هو سبب همومه ومشكلاته.
صحيح أن صورة المرأة في الإعلانات التجارية قد طرأ عليها بعض التغيير في السنوات القليلة الماضية. لقد أصبحت المرأة خارقة، فهي تتمتع بطاقة فوق طاقة البشر. فبعد أن تنهي يوما مرهقا في العمل تعود إلى البيت لتعد الطعام وتقوم بالتنظيف والترتيب باستخدام منتوج معين وليس بمساعدة زوجها، فهي امرأة متحررة، وهي مدينة بتحررها إلى هذا المنتوج السحري الذي تستعمله. ولكن هذا التعديل في صورة المرأة في الإعلانات التجارية لا يمثل أي تقدم حقيقي، ولا يقدم إلا حلولاً وهمية لمشكلات سياسية واجتماعية معقدة في حياة كل أفراد المجتمع فالإعلان يوحي بان من السهل على المرأة أن تكون زوجة وعاملة في الوقت نفسه، ويتجاهل أن معظم النساء سواء في وطننا العربي أو في الغرب يعانين من وضع إنساني واجتماعي متخلف، ويتقاضين أجورا تقل عما يتقاضاه الرجال للقيام بالعمل نفسه، كما أنه يسهم في تشتيت الجهود الرامية إلى إيجاد حلول حقيقية لمشكلات المرأة.
وخلاصة القول أن الدور الذي تصوره الإعلانات التجارية للمرأة هو دور محدود ومتناقض مع ذاته. فالمطلوب من المرأة أن تظل طفلة بريئة وساذجة، فهذا من شروط أنوثتها، ولكن عليها في الوقت ذاته أن تكون امرأة خارقة فهذا من مستلزمات المدنية الحديثة. أما الرجل فمطلوب منه أن يخفي مشاعره وأحاسيسه، وأن يكون باردا وقاسيا، وأن يركز طاقته كلها على تحقيق طموحاته المادية التي لا تعرف الحدود. وفي هذه الأحوال جميعا سيكون الرجل والمرأة عاجزين عن إقامة علاقة إنسانية سليمة بينهما.
zedhakim@yahoo.co.uk
لندن - بريطانيا