يتعقب كتاب (مختصر تاريخ العدالة) تأليف: ديفيد جونسون، وترجمة: مصطفى ناصر، وهو العدد 387 من سلسلة عالم المعرفة، «تطور الفكرة الأساسية للعدالة منذ العصور القديمة إلى وقتنا الراهن. ويشكل الكتاب، رغم اختصاره، مسحاً شاملاً لفكرة العدالة منذ ظهور بذرتها الأولى لدى البابليين والعبريين واليونانيين والرومان، وصولاً إلى المفكرين المعاصرين مثل جون راولز وغيره، ويكرس كل فصل من فصول الكتاب لبحث آراء أحد المفكرين الذين تبلورت من خلال جهودهم مفاهيم العدالة مثل أفلاطون وأرسطو وتوماس هوبز ومفكري مذهب المنفعة، مروراً بآراء آدم سميث وبيكاريا وبينثام وجون ستيوارت مل، وثم الفيلسوف العملاق إمانويل كانت».
مسائل واقعية
إن المؤلف «ينسج الجدل الذي يثار حول أفكار فلسفية معقدة بأسلوب سهل الاستيعاب، ويرصع النقاش الفلسفي البحث بمسائل واقعية عن العدالة، ولهذا فقد جاء الكتاب ملبياً لمتطلبات الدقة العلمية والوضوح المطلوب، وقدم لنا المؤلف مادة طالما كنا في حاجة إليها، من خلال سرد قابل لقراءة، يشيد بأهمية العدالة ويركز على الإرث الفكري المتعلق بهذا الموضوع، علاوة على تفاصيل نظريات بارزة مثل نظرية العدالة الاجتماعية وقضايا الظلم الاجتماعي والعالمي التي تشغل أذهان الناس العاديين والفلاسفة على حد سواء منذ زمن طويل».
فصول الكتاب
اشتمل الكتاب على مقدمة للمترجم، وتمهيد بعنوان: من النموذج المعياري إلى الإحساس بالعدالة، وفصولاً هي: البيئة الاجتماعية للعدالة، الغائية والوصاية في «جمهورية» أفلاطون، نظرية أرسطو في العدالة، من الطبيعة إلى الصنعة: من أرسطو إلى هوبز، ظهور مذهب المنفعة، نظرية إمانويل كانت في العدالة، وخاتمة بعنوان: من العدالة الاجتماعية إلى العدالة العالمية.
أهمية جوهرية
يشير مترجم الكتاب مصطفى ناصر إلى أن فكرة العدالة من المسائل ذات الأهمية الجوهرية في مضمار الفلسفة السياسية، وذلك منذ أن بدأ الإنسان يتأمل فيها ملياً، ويحس بالاحتياج إليها في حياته على هذه الأرض. وفي واقع الأمر، هناك كتابان قد احتلا موقع الصدارة في الفكر السياسي الغربي بخصوص العدالة وهما: «جمهورية أفلاطون» وكتاب الفيلسوف الأمريكي جون راولز الذي صدر في العام 1971 بعنوان «نظرية في العدالة»، ويعتبر بمنزلة حجر الزاوية في هذا المجال، وكلاهما يتضمن مقالات في موضوع العدالة يصعب على القارئ العادي أن يسبر أغوارها.
ينبوع المبادئ
ويؤكد ناصر أن المرء لا يكاد يستطيع التفكير في مبدأ يضاهي العدالة في أهميته لصلاح الإنسان منذ أن خلقه الله تعالى واستأمنه على هذه الأرض. إنها ينبوع كل المبادئ التي يسعى إليها الإنسان في إصلاح ذاته والوصول إلى الغايات السامية من الوجود. والعدالة من مبادئ دستورنا السماوي: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي). وقد اهتمت النظريات والفلسفات من اشتراكية ورأسمالية وديمقراطية، وصولاً إلى العدالة الاجتماعية بهذا المبدأ الأساسي في بحثها عن هدف السعادة كل بطريقتها الخاصة التي وضعتها للارتقاء بالوضع البشري، وتجسيد علاقات عدالة بين الناس، والتوصل إلى عقد اجتماعي مع من يتولون مقاليد الحكم في البلاد.
خريطة أفكار
من جانبه يقول المؤلف ديفيد جونسون في مقدمة الكتاب: كان الهدف الرئيسي الذي توخيته من هذا العمل أن أضع خريطة تتسم بالاختصار والدقة للأفكار الأساسية التي لها صلة بالعدالة، تلك الأفكار التي شغلت أذهان الناس في العالم «الغربي» عبر أحقاب تاريخه المدوّن. إن أقدم شكلاً من أشكال فهم العدالة، وربما كان أكثرها حظاً من التأييد والانتشار، لم يكن يركز على هدف بارز تُستقى منه مبادئ وقوانين العدالة مثلما يُفترض، ولا على تصوّر لمفهوم الحق ومجموعة من الواجبات الصارمة التي تنبع من ذلك – ولكنه كان يركز بدل ذلك على خصائص العلاقات التي بين الأشخاص. يستمد هذا النوع من الفهم جذوره من «التعامل بالمثل» (Concept of reciprocity)، وهو مفهوم طيّع إلى درجة كافية لأن يُشَكَّل ويُزين بطرائق شتى على مرّ القرون حتى تشعّب إلى طيف متباين من التصوّرات الموسّعة عن العدالة، ومع ذلك فقد تمسّك هذا الاتجاه بمعنى جوهري يوحّد كل تلك التصوّرات ويجعل أي واحد منها جزءاً لا يتجزأ من منظومة واسعة من الأفكار.
علاقات الناس
ويضيف: علاوة على هذا فإني أطمح لأن أقدم للقارئ بعض الأسباب التي تدفعني الاعتقاد بأن ذلك التصوّر للعدالة، والذي يركز على طبيعة علاقات الناس بدل التركيز على هدف واحد بارز أو مجموعة واجبات صارمة، يستحق أن ينهض كبديل مرموق للاتجاهين المُشار إليهما آنفاً، واللذين إذا أخذناهما معاً بنظر الاعتبار نرى أنهما قد هيمنا على المناقشات العلمية التي ما فتئت تدور حول العدالة على مدى الأجيال العديدة الماضية. لا أقصد الافتراض أن التصوّرات المحددة عن العدالة باعتبارها تعامل بالمثل، والتي كانت قد مارست الدور الأكثر أهمية في تاريخ الأفكار قبل عصرنا الراهن، يمكن أن تفيدنا بشيء من دون إجراء أي تغير عليها لكي تغدو إرشادات موثوقة من شأنها أن تتصدى للمعضلات المعقدة التي ترتبط بالعدالة في عالم اليوم. ينبغي مراجعة هذه التصورات إذا أردنا لها أن تُسهم بشكل بناء في الارتقاء بالأفكار والممارسات التي يمكنها أن تشكل آفاق مستقبلنا. ولكن، لغرض رسم صورة للعدالة تركز على طبيعة علاقات البشر وبوسعها أن تؤدي دوراً مؤثراً في إعادة صياغة أفكارنا، علينا أولاً استعادة شيء من التراث الفكري الذي اعتمدت عليه تصورات قديمة، وأن نتفحص نقاط القوة والضعف في ذلك التراث على أمل أن نكون قادرين على ابتكار أفكار عن العدالة يمكن أن تفيدنا كثيراً في هذا الشأن. على هذا الأساس، الإمكان اعتبار الكتاب الذي بين يدي القارئ ورقة بحث تهدف إلى استرجاع أفكار من الماضي أو مسحاً مختصراً لتكل الأفكار.
اتجاهان للأفكار
ويشير جونستون إلى مضي حتى الآن، سنوات عديدة منذ أن انتهى الباحثون من وضع خريطة تفصيلية وثابتة لكل الأفكار تقريباً التي تمت بصلة إلى موضوع العدالة، وقد صنّفوا تلك الأفكار في مجملها إلى اتجاهين فقط. وفقاً لهذا التقسيم، فإن الأفكار التي تندرج في إطار ما يُعرف بمذهب المنفعة تنطوي على وجهات نظر تنص على وجود هدف معين وتستمد تصوّراً للعدالة من ذلك الهدف أو الغرض، ويحصل هذا عادة من خلال تحديد مجموعة من المبادئ، والقوانين، والمؤسسات التي يُتوقع أن تؤدي دوراً فعّالاً في إحراز الهدف المنشود. إن الهدف الذي كثيراً ما يجري الكلام عنه في الأزمنة الحديثة يتمثل في تحقيق أقصى قدر من السعادة للإنسان. وتتشكل ملامح هذا الهدف في ضوء مبدأ المنفعة (أو مبدأ السعادة القصوى)، والذي هو بمنزلة الفكرة الجوهرية في التراث الفكري الكلاسيكي لمذهب المنفعة. يُستخدم مصطلح «منفعي» utilitarian لوصف هذا الاتجاه الفكري اعترافاً بالهيمنة التي أحرزتها أخيراً هذه المدرسة، مع أن ذلك يشمل أيضاً عدداً من المدارس الأخرى التي تكرّس لأشكال متباينة من تجليّات هذا الموضوع أو هي تسعى إلى أغراض بعيدة عنه جملة وتفصيلاً.
الواجب الأخلاقي
ويتابع: أما مجموعة الأفكار التي لها صلة بـ»ما هو واجب أخلاقياً» deontolgical (كما تُسمّى في اللغة الاصطلاحية لفلسفة الأخلاق في العصر الحديث)، فهي تقع ضمن الاتجاه الآخر المُعترف به في هذا الصدد. تجمع بين مختلف وجهات النظر الأخلاقية اقتناعاً بأن العدالة هي مسألة واجبات صارمة لا يمكن تجاوزها أو التغاضي عنها لأي اعتبارات أخرى، ولا حتى لتحقيق أهداف محبّذة إلى حد كبير. تتلخص الفكرة المبدئية التي انبثقت منها هذه المجموعة من وجهات النظر في أن بعض الأشياء تعتبر «صحيحة» أو تتماشى مع مفهوم الحق، سواء كانت «نافعة» أم لا. ورغم أن وجهات النظر الأساسية المُعترف بها بحسب هذا التصنيف لها جذور تاريخية عميقة نسبياً، فإن الاعتقاد أن كل الأفكار المهمة التي تتناول العدالة بالإمكان اعتبارها تجسيدات لواحد من هذين الاتجاهين لا يعود إلى زمن يتجاوز أواخر القرن الثامن عشر، عندما كانت كل من المدرستين التقليديتين الأساسيتين لفلسفة الأخلاق في العصر الحديث – المدرسة التي تؤيد مذهب المنفعة وتلك التي تنضوي تحت فلسفة إمانويل كانت – قد اكتسبت هويتها المميّزة وبقيت تحافظ عليها باطراد واضح منذ تلك الفترة التي شهدت بوادر تشكلهما، لافتاً المؤلف إلى تميز هذا التصوير لجغرافيا الأفكار التي تتطرق إلى العدالة بأنه قد أهمل، أو حتى تناسى، مدة زمنية سابقة تصل إلى أربعة آلاف سنة من التفكير المستمر في هذا الموضوع. إنه في حقيقة الأمر اختزال للتاريخ بشكل مثير للاستغراب.
ديفيد جونسون يختصر تاريــخ العدالـــة الإنسانيـــة فـــي كتـــاب
مسائل واقعية
إن المؤلف «ينسج الجدل الذي يثار حول أفكار فلسفية معقدة بأسلوب سهل الاستيعاب، ويرصع النقاش الفلسفي البحث بمسائل واقعية عن العدالة، ولهذا فقد جاء الكتاب ملبياً لمتطلبات الدقة العلمية والوضوح المطلوب، وقدم لنا المؤلف مادة طالما كنا في حاجة إليها، من خلال سرد قابل لقراءة، يشيد بأهمية العدالة ويركز على الإرث الفكري المتعلق بهذا الموضوع، علاوة على تفاصيل نظريات بارزة مثل نظرية العدالة الاجتماعية وقضايا الظلم الاجتماعي والعالمي التي تشغل أذهان الناس العاديين والفلاسفة على حد سواء منذ زمن طويل».
فصول الكتاب
اشتمل الكتاب على مقدمة للمترجم، وتمهيد بعنوان: من النموذج المعياري إلى الإحساس بالعدالة، وفصولاً هي: البيئة الاجتماعية للعدالة، الغائية والوصاية في «جمهورية» أفلاطون، نظرية أرسطو في العدالة، من الطبيعة إلى الصنعة: من أرسطو إلى هوبز، ظهور مذهب المنفعة، نظرية إمانويل كانت في العدالة، وخاتمة بعنوان: من العدالة الاجتماعية إلى العدالة العالمية.
أهمية جوهرية
يشير مترجم الكتاب مصطفى ناصر إلى أن فكرة العدالة من المسائل ذات الأهمية الجوهرية في مضمار الفلسفة السياسية، وذلك منذ أن بدأ الإنسان يتأمل فيها ملياً، ويحس بالاحتياج إليها في حياته على هذه الأرض. وفي واقع الأمر، هناك كتابان قد احتلا موقع الصدارة في الفكر السياسي الغربي بخصوص العدالة وهما: «جمهورية أفلاطون» وكتاب الفيلسوف الأمريكي جون راولز الذي صدر في العام 1971 بعنوان «نظرية في العدالة»، ويعتبر بمنزلة حجر الزاوية في هذا المجال، وكلاهما يتضمن مقالات في موضوع العدالة يصعب على القارئ العادي أن يسبر أغوارها.
ينبوع المبادئ
ويؤكد ناصر أن المرء لا يكاد يستطيع التفكير في مبدأ يضاهي العدالة في أهميته لصلاح الإنسان منذ أن خلقه الله تعالى واستأمنه على هذه الأرض. إنها ينبوع كل المبادئ التي يسعى إليها الإنسان في إصلاح ذاته والوصول إلى الغايات السامية من الوجود. والعدالة من مبادئ دستورنا السماوي: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي). وقد اهتمت النظريات والفلسفات من اشتراكية ورأسمالية وديمقراطية، وصولاً إلى العدالة الاجتماعية بهذا المبدأ الأساسي في بحثها عن هدف السعادة كل بطريقتها الخاصة التي وضعتها للارتقاء بالوضع البشري، وتجسيد علاقات عدالة بين الناس، والتوصل إلى عقد اجتماعي مع من يتولون مقاليد الحكم في البلاد.
خريطة أفكار
من جانبه يقول المؤلف ديفيد جونسون في مقدمة الكتاب: كان الهدف الرئيسي الذي توخيته من هذا العمل أن أضع خريطة تتسم بالاختصار والدقة للأفكار الأساسية التي لها صلة بالعدالة، تلك الأفكار التي شغلت أذهان الناس في العالم «الغربي» عبر أحقاب تاريخه المدوّن. إن أقدم شكلاً من أشكال فهم العدالة، وربما كان أكثرها حظاً من التأييد والانتشار، لم يكن يركز على هدف بارز تُستقى منه مبادئ وقوانين العدالة مثلما يُفترض، ولا على تصوّر لمفهوم الحق ومجموعة من الواجبات الصارمة التي تنبع من ذلك – ولكنه كان يركز بدل ذلك على خصائص العلاقات التي بين الأشخاص. يستمد هذا النوع من الفهم جذوره من «التعامل بالمثل» (Concept of reciprocity)، وهو مفهوم طيّع إلى درجة كافية لأن يُشَكَّل ويُزين بطرائق شتى على مرّ القرون حتى تشعّب إلى طيف متباين من التصوّرات الموسّعة عن العدالة، ومع ذلك فقد تمسّك هذا الاتجاه بمعنى جوهري يوحّد كل تلك التصوّرات ويجعل أي واحد منها جزءاً لا يتجزأ من منظومة واسعة من الأفكار.
علاقات الناس
ويضيف: علاوة على هذا فإني أطمح لأن أقدم للقارئ بعض الأسباب التي تدفعني الاعتقاد بأن ذلك التصوّر للعدالة، والذي يركز على طبيعة علاقات الناس بدل التركيز على هدف واحد بارز أو مجموعة واجبات صارمة، يستحق أن ينهض كبديل مرموق للاتجاهين المُشار إليهما آنفاً، واللذين إذا أخذناهما معاً بنظر الاعتبار نرى أنهما قد هيمنا على المناقشات العلمية التي ما فتئت تدور حول العدالة على مدى الأجيال العديدة الماضية. لا أقصد الافتراض أن التصوّرات المحددة عن العدالة باعتبارها تعامل بالمثل، والتي كانت قد مارست الدور الأكثر أهمية في تاريخ الأفكار قبل عصرنا الراهن، يمكن أن تفيدنا بشيء من دون إجراء أي تغير عليها لكي تغدو إرشادات موثوقة من شأنها أن تتصدى للمعضلات المعقدة التي ترتبط بالعدالة في عالم اليوم. ينبغي مراجعة هذه التصورات إذا أردنا لها أن تُسهم بشكل بناء في الارتقاء بالأفكار والممارسات التي يمكنها أن تشكل آفاق مستقبلنا. ولكن، لغرض رسم صورة للعدالة تركز على طبيعة علاقات البشر وبوسعها أن تؤدي دوراً مؤثراً في إعادة صياغة أفكارنا، علينا أولاً استعادة شيء من التراث الفكري الذي اعتمدت عليه تصورات قديمة، وأن نتفحص نقاط القوة والضعف في ذلك التراث على أمل أن نكون قادرين على ابتكار أفكار عن العدالة يمكن أن تفيدنا كثيراً في هذا الشأن. على هذا الأساس، الإمكان اعتبار الكتاب الذي بين يدي القارئ ورقة بحث تهدف إلى استرجاع أفكار من الماضي أو مسحاً مختصراً لتكل الأفكار.
اتجاهان للأفكار
ويشير جونستون إلى مضي حتى الآن، سنوات عديدة منذ أن انتهى الباحثون من وضع خريطة تفصيلية وثابتة لكل الأفكار تقريباً التي تمت بصلة إلى موضوع العدالة، وقد صنّفوا تلك الأفكار في مجملها إلى اتجاهين فقط. وفقاً لهذا التقسيم، فإن الأفكار التي تندرج في إطار ما يُعرف بمذهب المنفعة تنطوي على وجهات نظر تنص على وجود هدف معين وتستمد تصوّراً للعدالة من ذلك الهدف أو الغرض، ويحصل هذا عادة من خلال تحديد مجموعة من المبادئ، والقوانين، والمؤسسات التي يُتوقع أن تؤدي دوراً فعّالاً في إحراز الهدف المنشود. إن الهدف الذي كثيراً ما يجري الكلام عنه في الأزمنة الحديثة يتمثل في تحقيق أقصى قدر من السعادة للإنسان. وتتشكل ملامح هذا الهدف في ضوء مبدأ المنفعة (أو مبدأ السعادة القصوى)، والذي هو بمنزلة الفكرة الجوهرية في التراث الفكري الكلاسيكي لمذهب المنفعة. يُستخدم مصطلح «منفعي» utilitarian لوصف هذا الاتجاه الفكري اعترافاً بالهيمنة التي أحرزتها أخيراً هذه المدرسة، مع أن ذلك يشمل أيضاً عدداً من المدارس الأخرى التي تكرّس لأشكال متباينة من تجليّات هذا الموضوع أو هي تسعى إلى أغراض بعيدة عنه جملة وتفصيلاً.
الواجب الأخلاقي
ويتابع: أما مجموعة الأفكار التي لها صلة بـ»ما هو واجب أخلاقياً» deontolgical (كما تُسمّى في اللغة الاصطلاحية لفلسفة الأخلاق في العصر الحديث)، فهي تقع ضمن الاتجاه الآخر المُعترف به في هذا الصدد. تجمع بين مختلف وجهات النظر الأخلاقية اقتناعاً بأن العدالة هي مسألة واجبات صارمة لا يمكن تجاوزها أو التغاضي عنها لأي اعتبارات أخرى، ولا حتى لتحقيق أهداف محبّذة إلى حد كبير. تتلخص الفكرة المبدئية التي انبثقت منها هذه المجموعة من وجهات النظر في أن بعض الأشياء تعتبر «صحيحة» أو تتماشى مع مفهوم الحق، سواء كانت «نافعة» أم لا. ورغم أن وجهات النظر الأساسية المُعترف بها بحسب هذا التصنيف لها جذور تاريخية عميقة نسبياً، فإن الاعتقاد أن كل الأفكار المهمة التي تتناول العدالة بالإمكان اعتبارها تجسيدات لواحد من هذين الاتجاهين لا يعود إلى زمن يتجاوز أواخر القرن الثامن عشر، عندما كانت كل من المدرستين التقليديتين الأساسيتين لفلسفة الأخلاق في العصر الحديث – المدرسة التي تؤيد مذهب المنفعة وتلك التي تنضوي تحت فلسفة إمانويل كانت – قد اكتسبت هويتها المميّزة وبقيت تحافظ عليها باطراد واضح منذ تلك الفترة التي شهدت بوادر تشكلهما، لافتاً المؤلف إلى تميز هذا التصوير لجغرافيا الأفكار التي تتطرق إلى العدالة بأنه قد أهمل، أو حتى تناسى، مدة زمنية سابقة تصل إلى أربعة آلاف سنة من التفكير المستمر في هذا الموضوع. إنه في حقيقة الأمر اختزال للتاريخ بشكل مثير للاستغراب.
ديفيد جونسون يختصر تاريــخ العدالـــة الإنسانيـــة فـــي كتـــاب