إنها خطة مستفادة، يمكن استخلاصها من نظام التعليم ومناهج التأليف. ويتضح من تلك المناهج أنه قد كانت هناك فعلا خطة عرفية لتدبير شأن السوق اللغوية. فقد كان هناك من جهة تعليم يقوم على أساس تحفيظ القرآن ومتون علوم العربية وعلوم الحساب والفرائض. ومن جهة ثانية، كانت لغة التلقين الواصفة (métalangage pédagogique) في العملية البيداغوجية داخل الفصل («ليحْضار») وفي فضاء الكُتاب أو المدرسة هي اللغة الأمازيغية، التي طورت كثيرا من المصطلحات الميتالغوية الواصفة والتربوية (تيغري «القراءة»، تيرّا «الكتابية»، الاّس «مراجعة»، تيغوديو «دراسة»، احسّو «حفظ»، يد- ليف «أبجدية»،اسكّيل «حرف»، امحّاس «إثبات حركات الشكل»، ليف، بي، تا، تا- ياعجمن، ... يا- يرزان «الياء المقصورة»، يا- ور- يمحيسن «ياء المد»، واو- ور- يمحسن «واو المدّ»، اسفتو «إملاء»، اكَُمّاي «تهجّي»، اسوفغ «ختم القرآن»، امحضار «تلميذ»، المّود «تعليم»، ليحضار «حجرة الدرس»، امسافري «طالب أفّاق»، تيمسّوفرا «طلب العلم في الآفاق»، الخ.).
ومن جهة ثالثة، كان هناك حرص، في ما يتعلق بالحد الأدنى من التكوين الواجب الاشتراك فيه بين «المتعلم» و»غير المتعلم» في باب التربية الدينية والمدنية (أسس الدين والأخلاق والمعاملات)، على أن يتم ذلك التكوين باللغة التي يفهمها الجميع، أي اللغة الأمازيغية في الفضاء المعني؛ وهو ما انعكس، على مستوى التأليف، في بروز نوع أدبي مستقل عن الثقافة العربية العالمة كالمتون والمراجع المعروفة من جهة، وكذا عن الثقافة الأمازيغية العامة من جهة ثانية كما يعكسها ديوان الشعر الأمازيغي الحي في تقاليد أحواش والروايس؛ ذلك النوع هو ما عُرف ب»المازغي». ويتمثل «المازغي» في رصيد هائل من المنظومات المؤلفة بالأمازيغية والمدونة بالحرف العربي في ما يتعلق أسس الدين والأخلاق وقيم التعامل العام، والتي يتفاوت الناس في ما يحفظون منها، ويتخصص بعض الرواة في ترديدها في حلقات الأسواق والمواسم على شكل كورالات عمومية؛ وهو ما يمكن حتى من لا يحسن القراءة من حفظ ما تيسر منها بالسماع («بحر الدموع»، «الحوض» للهوزالي مثلا). فهذا النوع الأدبي، أي «المازغي»، ونظرا بالضبط للغاية التربوية منه، هو الذي يعنيه كل من براهيم ازناكَ (القرن 16م) في وحماد التاميلي المذكورين في الحلقة السابقة، لما تساءل الأول، في استفهام إنكاري، عن الأساس الذي يمكن أن يمنع تعليم الناس الدين والأخلاق باللسان الأمازيغي، وأنكر الثاني تلغيم منظومات المازغي بمفردات عربية لا مبرر لها معجميا بقدر ما هي من باب الحذلقة والإغراب التعجيزي التعمَوي الذي يسعى إلى فرض سلطة الوصاية العالمة لطبقة أصحاب القلم على العامة.
ومن جهة رابعة، تم تطوير نوع تأليفي آخر خاص بتدبير أصيل لمعطيات التعدد اللغوي في إطار توزيع عرفي للوظائف في ذلك الوقت، ألا هو النوع المعجمي الذي عرف ب»كشف الرموز». ويتمثل في رصيد من المعاجم القطاعية مزدوجة اللغة (عربي-أمازيغي) والمدونة بالحرف العربي، الذي كان الحرف الوحيد المتداول بين المسلمين على أوسع نطاق حينئذ. وهي معاجم تنتظم فيها المادة حسب الحقول الدلالية (جسم الإنسان، اللباس، المحيط المنزلي، الفلاحة، الأشجار والنباتات، الرعي، الحيوان، الخ.). فإذ كانت الغاية البيداغوجية من النوع المعروف ب»المازغي» هي ضمان وصول معلومة التأطير الديني والأخلاقي للفرد في المدينة بالنسبة إلى كافة أمازيغيّي اللسان، رجالا ونساء بدون وصاية وسيط من الخاصة، وهم طبقة الأئمة والفقهاء حينئذ، فإن الواقع اللغوي متعدد المستويات والاستعمالات (أمازيغية، عربية دارجة بدوية وحضرية، حسانية، عربية فصحى، عبرية) لمجمل فرقاء معاملات الوقت، من أحوال شخصية، وبيوعات وأكرية، وتعاقدات والتزامات، قد جعل العُرف يستقر على تغليب استعمال عربية «فصحى» في تراكيبها على الأقل، لتحرير عقود تلك المعاملات (مع بقاء بعض «الألواح» القانونية التي لا تعني داخليا إلا القبائل الأمازيغية مدونة بالأمازيغية). ولهذه الغاية، من بين غايات أخرى، في الطب والصيدلة التقليدين على الخصوص، ظهر فنّ التأليف في ما عرف ب»كشف الرموز». فهذا الفن كان يساعد أصحاب «تاوتّاقت» (أي «تحرير العقود») على معرفة التقابلات المعجمية ما بين الأمازيغية والعربية الفصحى في باب كل ما يتعلق بشؤون الحياة في الحقول المذكورة، كما يساعد الأطباء والصيادلة التقليديين من المنقبين في كتب «الطب والحكمة» من معرفة المقابلات الأمازيغية لوصفات الأعشاب والعناصر الطبيعية والمركبات والمستحضرات لتيسير وصفاتهم لمرضاهم ولنقل صناعتهم إلى متعلّميهم من ذريتهم في الغالب بما أن المهن غالبا ما كانت تُتوارث كما تُتوارث الثروة والزعامة السياسية.
مميزات هذا التدبير السويو- لغوي
على غرار أغلبية أوجه التدبير الاجتماعي المعروفة في الوقت، لا تتولى رسمَ خطة ذلك التدبير السوسيو- لغوي جهةٌ رسمية مركزية مسماة مؤسسيا، بقدر ما كانت مجرد أعراف تمليها المعطيات السوسيو- لغوية في علاقتها بالحاجيات الاجتماعية. وهو تدبير سوسيو- لغوي يتسم بإدراك ضمني لتعدد الوظائف اللغوية كما هي عليه في الوقت ولدرجة تأهّل وتأهيل كل لغة في ميدان من الميادين. ويعمل في نفس الوقت على توظيف هذه اللغة من أجل امتلاك اللغة الأخرى (توظيف الأمازيغية كلغة بيداغوجية لتلقين العربية، واستعمال مؤلفات «كشف الرموز» لتيسير امتلاك مهارة التوثيقات المشتركة ولنقل وتعميم بعض المعارف). كما يتسم بتحديد ضمني للمجالات التي يتعين فيها تعميم المعرفة بشكل لا يمكن أن يتم إلا باللغة الأم (مؤلفات «المازغي» في باب التنشئة الدينية والأخلاقية المدنية).
كل هذا لا ينفي وجود تدافع في أوساط أصحاب القلم بين من يرجحون الوظيفة التعميمية التيسيرية (vulgarisation) للاستعمال اللغوي ومن يرجحون وظيفة استعمال أيديولوجي تعجيزي للغة باعتبارها مصدرا للسلطة الرمزية، وإلا لما كان هناك أمثال تساؤل براهيم أزناك في قوله («أين يوجد ذاك الكتاب الذي يحرّم تعليم الأقوام دينهم باللسان الأمازيغي؟»)، ولا ملاحظة حماد التاميلي بخصوص النهج اللغوي لبعض المؤلفين في «المازغي» حين قال: («ما أكثر ما ألّفوا [بالأمازيغة في الدين والنصيحة]، لكن قلما كان ذلك جيد الوضوح بحيث يفهمه الأمّي؛ ذلك أنهم يخلطون فيه الكلام الأمازيغي بمفردات عربية لا يفقهها الأمازيغيون؛ فيستغلق المعنى على غير المتعلم منهم، ويقل من يفهم منهم»).
من التلغيم المعجمي إلى التطهير المعجمي
والواقع أن ما يؤاخذه التاملي على هؤلاء موجود في كثير من تلك المؤلفات، مثل مؤلفات الهوزالي على سبيل المثال. ففي كتاب «بحر الدموع» الذي نظمه المؤلف في بداية القرن الثامن عشر، في فترة كان المعجم الأمازيغي من الغنى بحيث إنه كان لا يزال يحتفظ بكثير من المفردات التي هجرت اليوم مثل كلمتي «تيميضي» (مائة) و»يفض» (ألف) اللتين استعملهما المؤلف نفسه حوالي عشر مرات، نجد هذا المؤلف، ذا ميولات المشيخة الطرقية، يحشو مؤلفه بكلمات عربية عادية غير اصطلاحية بدل مفردات أمازيغية لا تزال حية إلى اليوم. إذ غايته في تأليف «المازغي» هي أن يثبت مكانته في الحياة ويخلد ذكره بعد الممات في صفوف من يسميهم ب»المُحبّين»، وليس ما كان يهدف إليه أمثال المدني التوغماوي مثلا الذي يقول: ((«ريغ ادّ-ناوي اوال- لّي ينضم يبنوعاشير داغ، س- واوال ن- تشلحيت، اد- نيت كَيس يفهم يان يكَان لومّي، اد-اكُّ داغ ور يجهل دّين» «لقد عزمت على نقل ما نظمه ابن عاشر إلى لسان تاشلحيت، حتى يتمكن مِن فهْمِه من هو أمّي، فلا يبقى جاهلا بالدين»)). بل إن البعض يبلغ به الغلوّ إلى درجة ترجمة حتى أسماء الأماكن والأعلام في وثائق العقود وفي المناقب والإثنوغرافيا مما لا يزال من تلك الأسماء واضح المعنى، فنجد بعضهم مثلا يسمي بلدة «بويكَرا» ب(«أبو الضفادع») أو «تالات ن- بيطلجان» ب(«شُعبة الباذنجان»)، بحيث إن الوثيقة لا يجتلي مضمونها في مثل تلك الأحوال إلا متمرس على الحذلقة والتعمية من أصحاب القلم. وإذ أدى ذلك النهج إلى هجران كثير من المفردات الأمازيغية ومن أسماء أعلام الأمكنة، وحلول مفردات عربية مؤمزغة محلها (مثلا: «اصفريّ»، «اخضري» للأصفر والأخضر على التوالي، بدل «اوراغ» و»ازكزاو، فإنه كلما تمت أمزغةُ جيل من المفردات يتم إقحام مرادفات أخرى أكثر غرابة، وهكذا.
أما في أيامنا هذه، وبعد أن تمت أمزغة عدد هائل من المفردات العربية المقترضة فأصبحت صرفيا من صميم المعجم الأمازيغي الأساسي، كما هو شأن مصير المقترضات في سائر اللغات (الفارسية، التركية، الإسباينة)، فإن هذا الجنوح إلى الإغراب والتعجيز بإقامة حجاب من التعميّة المعجمية بين الناطق بالأمازيغية وبين بعض ما يكتب بهذه اللغة، قد اتخذ اليوم شكلا آخر، هو الجنوح الأيديولوجي نحو تطهير للمعجم الأمازيغي من كل «دخيل» مقترض مهما كانت درجة رسوخه واستعماله في لغة الحياة اليومية، كما يتجلى ذلك مثلا (أ) في ترجمة الحسين جهادي للقرآن الكريم إلى الأمازيغية سنة 2002 إذا ما قورنت بترجمته الموفقة والميسرة للسيرة النبوية قبل ذلك بسنوات، و(ب) في كل ما ينشره معهد الإركام من مؤلفات بالأمازيغية، و(ج) في أغلب ما ينشر في الصحافة الأمازيغية المكتوبة.
* نشر في العلم يوم 19 - 08 - 2011
ومن جهة ثالثة، كان هناك حرص، في ما يتعلق بالحد الأدنى من التكوين الواجب الاشتراك فيه بين «المتعلم» و»غير المتعلم» في باب التربية الدينية والمدنية (أسس الدين والأخلاق والمعاملات)، على أن يتم ذلك التكوين باللغة التي يفهمها الجميع، أي اللغة الأمازيغية في الفضاء المعني؛ وهو ما انعكس، على مستوى التأليف، في بروز نوع أدبي مستقل عن الثقافة العربية العالمة كالمتون والمراجع المعروفة من جهة، وكذا عن الثقافة الأمازيغية العامة من جهة ثانية كما يعكسها ديوان الشعر الأمازيغي الحي في تقاليد أحواش والروايس؛ ذلك النوع هو ما عُرف ب»المازغي». ويتمثل «المازغي» في رصيد هائل من المنظومات المؤلفة بالأمازيغية والمدونة بالحرف العربي في ما يتعلق أسس الدين والأخلاق وقيم التعامل العام، والتي يتفاوت الناس في ما يحفظون منها، ويتخصص بعض الرواة في ترديدها في حلقات الأسواق والمواسم على شكل كورالات عمومية؛ وهو ما يمكن حتى من لا يحسن القراءة من حفظ ما تيسر منها بالسماع («بحر الدموع»، «الحوض» للهوزالي مثلا). فهذا النوع الأدبي، أي «المازغي»، ونظرا بالضبط للغاية التربوية منه، هو الذي يعنيه كل من براهيم ازناكَ (القرن 16م) في وحماد التاميلي المذكورين في الحلقة السابقة، لما تساءل الأول، في استفهام إنكاري، عن الأساس الذي يمكن أن يمنع تعليم الناس الدين والأخلاق باللسان الأمازيغي، وأنكر الثاني تلغيم منظومات المازغي بمفردات عربية لا مبرر لها معجميا بقدر ما هي من باب الحذلقة والإغراب التعجيزي التعمَوي الذي يسعى إلى فرض سلطة الوصاية العالمة لطبقة أصحاب القلم على العامة.
ومن جهة رابعة، تم تطوير نوع تأليفي آخر خاص بتدبير أصيل لمعطيات التعدد اللغوي في إطار توزيع عرفي للوظائف في ذلك الوقت، ألا هو النوع المعجمي الذي عرف ب»كشف الرموز». ويتمثل في رصيد من المعاجم القطاعية مزدوجة اللغة (عربي-أمازيغي) والمدونة بالحرف العربي، الذي كان الحرف الوحيد المتداول بين المسلمين على أوسع نطاق حينئذ. وهي معاجم تنتظم فيها المادة حسب الحقول الدلالية (جسم الإنسان، اللباس، المحيط المنزلي، الفلاحة، الأشجار والنباتات، الرعي، الحيوان، الخ.). فإذ كانت الغاية البيداغوجية من النوع المعروف ب»المازغي» هي ضمان وصول معلومة التأطير الديني والأخلاقي للفرد في المدينة بالنسبة إلى كافة أمازيغيّي اللسان، رجالا ونساء بدون وصاية وسيط من الخاصة، وهم طبقة الأئمة والفقهاء حينئذ، فإن الواقع اللغوي متعدد المستويات والاستعمالات (أمازيغية، عربية دارجة بدوية وحضرية، حسانية، عربية فصحى، عبرية) لمجمل فرقاء معاملات الوقت، من أحوال شخصية، وبيوعات وأكرية، وتعاقدات والتزامات، قد جعل العُرف يستقر على تغليب استعمال عربية «فصحى» في تراكيبها على الأقل، لتحرير عقود تلك المعاملات (مع بقاء بعض «الألواح» القانونية التي لا تعني داخليا إلا القبائل الأمازيغية مدونة بالأمازيغية). ولهذه الغاية، من بين غايات أخرى، في الطب والصيدلة التقليدين على الخصوص، ظهر فنّ التأليف في ما عرف ب»كشف الرموز». فهذا الفن كان يساعد أصحاب «تاوتّاقت» (أي «تحرير العقود») على معرفة التقابلات المعجمية ما بين الأمازيغية والعربية الفصحى في باب كل ما يتعلق بشؤون الحياة في الحقول المذكورة، كما يساعد الأطباء والصيادلة التقليديين من المنقبين في كتب «الطب والحكمة» من معرفة المقابلات الأمازيغية لوصفات الأعشاب والعناصر الطبيعية والمركبات والمستحضرات لتيسير وصفاتهم لمرضاهم ولنقل صناعتهم إلى متعلّميهم من ذريتهم في الغالب بما أن المهن غالبا ما كانت تُتوارث كما تُتوارث الثروة والزعامة السياسية.
مميزات هذا التدبير السويو- لغوي
على غرار أغلبية أوجه التدبير الاجتماعي المعروفة في الوقت، لا تتولى رسمَ خطة ذلك التدبير السوسيو- لغوي جهةٌ رسمية مركزية مسماة مؤسسيا، بقدر ما كانت مجرد أعراف تمليها المعطيات السوسيو- لغوية في علاقتها بالحاجيات الاجتماعية. وهو تدبير سوسيو- لغوي يتسم بإدراك ضمني لتعدد الوظائف اللغوية كما هي عليه في الوقت ولدرجة تأهّل وتأهيل كل لغة في ميدان من الميادين. ويعمل في نفس الوقت على توظيف هذه اللغة من أجل امتلاك اللغة الأخرى (توظيف الأمازيغية كلغة بيداغوجية لتلقين العربية، واستعمال مؤلفات «كشف الرموز» لتيسير امتلاك مهارة التوثيقات المشتركة ولنقل وتعميم بعض المعارف). كما يتسم بتحديد ضمني للمجالات التي يتعين فيها تعميم المعرفة بشكل لا يمكن أن يتم إلا باللغة الأم (مؤلفات «المازغي» في باب التنشئة الدينية والأخلاقية المدنية).
كل هذا لا ينفي وجود تدافع في أوساط أصحاب القلم بين من يرجحون الوظيفة التعميمية التيسيرية (vulgarisation) للاستعمال اللغوي ومن يرجحون وظيفة استعمال أيديولوجي تعجيزي للغة باعتبارها مصدرا للسلطة الرمزية، وإلا لما كان هناك أمثال تساؤل براهيم أزناك في قوله («أين يوجد ذاك الكتاب الذي يحرّم تعليم الأقوام دينهم باللسان الأمازيغي؟»)، ولا ملاحظة حماد التاميلي بخصوص النهج اللغوي لبعض المؤلفين في «المازغي» حين قال: («ما أكثر ما ألّفوا [بالأمازيغة في الدين والنصيحة]، لكن قلما كان ذلك جيد الوضوح بحيث يفهمه الأمّي؛ ذلك أنهم يخلطون فيه الكلام الأمازيغي بمفردات عربية لا يفقهها الأمازيغيون؛ فيستغلق المعنى على غير المتعلم منهم، ويقل من يفهم منهم»).
من التلغيم المعجمي إلى التطهير المعجمي
والواقع أن ما يؤاخذه التاملي على هؤلاء موجود في كثير من تلك المؤلفات، مثل مؤلفات الهوزالي على سبيل المثال. ففي كتاب «بحر الدموع» الذي نظمه المؤلف في بداية القرن الثامن عشر، في فترة كان المعجم الأمازيغي من الغنى بحيث إنه كان لا يزال يحتفظ بكثير من المفردات التي هجرت اليوم مثل كلمتي «تيميضي» (مائة) و»يفض» (ألف) اللتين استعملهما المؤلف نفسه حوالي عشر مرات، نجد هذا المؤلف، ذا ميولات المشيخة الطرقية، يحشو مؤلفه بكلمات عربية عادية غير اصطلاحية بدل مفردات أمازيغية لا تزال حية إلى اليوم. إذ غايته في تأليف «المازغي» هي أن يثبت مكانته في الحياة ويخلد ذكره بعد الممات في صفوف من يسميهم ب»المُحبّين»، وليس ما كان يهدف إليه أمثال المدني التوغماوي مثلا الذي يقول: ((«ريغ ادّ-ناوي اوال- لّي ينضم يبنوعاشير داغ، س- واوال ن- تشلحيت، اد- نيت كَيس يفهم يان يكَان لومّي، اد-اكُّ داغ ور يجهل دّين» «لقد عزمت على نقل ما نظمه ابن عاشر إلى لسان تاشلحيت، حتى يتمكن مِن فهْمِه من هو أمّي، فلا يبقى جاهلا بالدين»)). بل إن البعض يبلغ به الغلوّ إلى درجة ترجمة حتى أسماء الأماكن والأعلام في وثائق العقود وفي المناقب والإثنوغرافيا مما لا يزال من تلك الأسماء واضح المعنى، فنجد بعضهم مثلا يسمي بلدة «بويكَرا» ب(«أبو الضفادع») أو «تالات ن- بيطلجان» ب(«شُعبة الباذنجان»)، بحيث إن الوثيقة لا يجتلي مضمونها في مثل تلك الأحوال إلا متمرس على الحذلقة والتعمية من أصحاب القلم. وإذ أدى ذلك النهج إلى هجران كثير من المفردات الأمازيغية ومن أسماء أعلام الأمكنة، وحلول مفردات عربية مؤمزغة محلها (مثلا: «اصفريّ»، «اخضري» للأصفر والأخضر على التوالي، بدل «اوراغ» و»ازكزاو، فإنه كلما تمت أمزغةُ جيل من المفردات يتم إقحام مرادفات أخرى أكثر غرابة، وهكذا.
أما في أيامنا هذه، وبعد أن تمت أمزغة عدد هائل من المفردات العربية المقترضة فأصبحت صرفيا من صميم المعجم الأمازيغي الأساسي، كما هو شأن مصير المقترضات في سائر اللغات (الفارسية، التركية، الإسباينة)، فإن هذا الجنوح إلى الإغراب والتعجيز بإقامة حجاب من التعميّة المعجمية بين الناطق بالأمازيغية وبين بعض ما يكتب بهذه اللغة، قد اتخذ اليوم شكلا آخر، هو الجنوح الأيديولوجي نحو تطهير للمعجم الأمازيغي من كل «دخيل» مقترض مهما كانت درجة رسوخه واستعماله في لغة الحياة اليومية، كما يتجلى ذلك مثلا (أ) في ترجمة الحسين جهادي للقرآن الكريم إلى الأمازيغية سنة 2002 إذا ما قورنت بترجمته الموفقة والميسرة للسيرة النبوية قبل ذلك بسنوات، و(ب) في كل ما ينشره معهد الإركام من مؤلفات بالأمازيغية، و(ج) في أغلب ما ينشر في الصحافة الأمازيغية المكتوبة.
* نشر في العلم يوم 19 - 08 - 2011