بدافع من قناعته بوصفه ــ محاضرا ــ يرى خورخيه لويس بورخيس أن الجمهور يفضل الاستماع إلى ما هو شخصي وملموس على ما هو عام ومجرد , من هذا المنطلق يسرد بورخيس تجربته في العمى الذي أصاب إحدى عينه بالكامل فيما أصاب الأخرى بصورة جزئية مما جعله لا يتبين إلا اللونين الأزرق والأخضر بشيء من المعاناة .
وللمرة الأولى ينقلنا بورخيس وبصدق إلى الإحساس المرير الذي يعانيه فاقدو البصر ، ليقص لنا مشاهداته مع الألوان التي غادرته نهائيا ، والألوان التي ظلت تلازمه بعد معاناته فيقول : (( أما الأصفر فقد ظل لونا وفيا لي …. ما يزال اللون الأصفر يلازمني حتى هذا اليوم)) .
وبورخيس يستثيره وهو في عماه احد الأبيات التي كتبها شكسبير ويقول فيه : ((انظر إلى الظلمة التي يراها العميان حقا)) فيرددعليه بورخيس قائلا : ((فإذا كانت الظلمة تعني السواد فان شكسبير مخطئ)) فبورخيس يؤكد على إن الناس عامة يتوهمون بان الأعمى منغلق في عالم اسود ، والحقيقة إن الأعمى يرى عدد من الألوان دون غيرها ، فمن الألوان التي يحرم منها الأعمى اللونيين الأسود والأحمر لكنه يؤكد انه مر بتجربة وكأنة ينام في عالم من الضباب ((الضباب المائل إلى الخضرة أو الزرقة ، الليموني إلى حد ما وهو عالم العميان)) .
وبما أن الأعمى يعيش في عالم مزعج إلا انه عالم تبرز منه بعض الألوان مثل الأصفر والأزرق وقد يكون الأزرق أحيانا اخضرا ، أما اللون الابيض فقد يختلط بالرمادي ، في حين يختفي اللون الأحمر تماما , ثم يصف بورخيس كيف تسلسل العمى إلى عينيه .
فيقول ((بدا ذلك الهبوط الليلي البطيء ، ذلك الفقدان البطيء لبصري عندما بدأت أبصر ، وقد استمر هذا الحال منذ سنة 1899 دون حدوث أي لحظات مثيرة ، فهو هبوط ليلي بطيء استمر على امتداد ما لا يزيد على الثلاثة أرباع القرن ، وفي عام 1955 حانت اللحظة المثيرة للشفقة عندما أدركت أنني افقد بصري ، بصري قارئا وبصري مؤلفاً))
وعلى الرغم من قساوة تجربة العمى إلا إن بورخيس بصر على إن الأعمى لم يفقده خياراته كلها فقد استبدل العالم المرئي بالعالم السمعي ((لم اسمح للعمى أن يفت في عضدي … إن العمى لم يكن طاقة كبرى تقع علي ولا ينبغي النظر إليه نظرة إشفاق ، بل على انه أسلوب حياة ، أسلوب من أساليب العيش)) .
فللعمى مزاياه وفوائده ــ كما يرى بورخيس ــ فهو شخصيا مدين للظلمة التي جعلته يتعرف سماعا على لغة الانكلو سكسون وعالم الأدب الاسكندنافي والاستمتاع بالأدب الجرماني القديم المليء بالملاحم , الزاخر بالموضوعات الشيقة وحسب الأدباء العميان وجود هوميروس وتاميريس الشاعرين الاغيريقين الذين كانا أعميين وقد أنجز ميلتون الفردوس المفقود ، والفردوس المستعار عندما كان ضريرا ، فيما وهب بريسكوت الذي فقد بصره حياته لخدمة الأدب الايطالي ، ومثله غروساك الاسباني الذي قهر عماه وترك لنا قدرا من روائع النثر التي لا يضاهيها أي نثر ، أما جميس جويس الذي كان هو الآخر ضريرا فقد أنجز روايتيه يوليس وسهرة فنيغان متحديا عماه ، ولترويض قساوة تجربة العمى يذكر بورخيس تجارب أخرى لأدباء ومفكرين كبار فيذكر ديمقريطس الذي اخرج عينيه من محجريهما في أحدى الحدائق لكي لا يشغل انتباهه مشهد الحديقة ، أما اوريجين فقد عمد إلى اخصاء نفسه .
ويجد بورخيس نفسه خجلا بعد ذكر كل تلك الأسماء ، إذ انه من العبث أن يضع اسمه إزاء تلك الأسماء بحسب ما يقول ، ويخلص إلى أن العمى ليس سيئا برمته ، إذ يسهل عليه العيش معه دون كراهية فلم يشعر بالحقد يوما ما ، فقد يشعر الإنسان بان العمى هبة وليس مصيبة شاملة ، انه وسيلة أخرى من وسائل كثيرة غريبة كلها يوفرها لنا القدر والحظ .
ملاحظة :
اعتمد الكاتب على نص بورخيس الوارد في كتاب ( استنطاق النص) الذي اختار نصوصه وترجمها الدكتور محمد درويش , دار المأمون , 2012 , ص623 .
وللمرة الأولى ينقلنا بورخيس وبصدق إلى الإحساس المرير الذي يعانيه فاقدو البصر ، ليقص لنا مشاهداته مع الألوان التي غادرته نهائيا ، والألوان التي ظلت تلازمه بعد معاناته فيقول : (( أما الأصفر فقد ظل لونا وفيا لي …. ما يزال اللون الأصفر يلازمني حتى هذا اليوم)) .
وبورخيس يستثيره وهو في عماه احد الأبيات التي كتبها شكسبير ويقول فيه : ((انظر إلى الظلمة التي يراها العميان حقا)) فيرددعليه بورخيس قائلا : ((فإذا كانت الظلمة تعني السواد فان شكسبير مخطئ)) فبورخيس يؤكد على إن الناس عامة يتوهمون بان الأعمى منغلق في عالم اسود ، والحقيقة إن الأعمى يرى عدد من الألوان دون غيرها ، فمن الألوان التي يحرم منها الأعمى اللونيين الأسود والأحمر لكنه يؤكد انه مر بتجربة وكأنة ينام في عالم من الضباب ((الضباب المائل إلى الخضرة أو الزرقة ، الليموني إلى حد ما وهو عالم العميان)) .
وبما أن الأعمى يعيش في عالم مزعج إلا انه عالم تبرز منه بعض الألوان مثل الأصفر والأزرق وقد يكون الأزرق أحيانا اخضرا ، أما اللون الابيض فقد يختلط بالرمادي ، في حين يختفي اللون الأحمر تماما , ثم يصف بورخيس كيف تسلسل العمى إلى عينيه .
فيقول ((بدا ذلك الهبوط الليلي البطيء ، ذلك الفقدان البطيء لبصري عندما بدأت أبصر ، وقد استمر هذا الحال منذ سنة 1899 دون حدوث أي لحظات مثيرة ، فهو هبوط ليلي بطيء استمر على امتداد ما لا يزيد على الثلاثة أرباع القرن ، وفي عام 1955 حانت اللحظة المثيرة للشفقة عندما أدركت أنني افقد بصري ، بصري قارئا وبصري مؤلفاً))
وعلى الرغم من قساوة تجربة العمى إلا إن بورخيس بصر على إن الأعمى لم يفقده خياراته كلها فقد استبدل العالم المرئي بالعالم السمعي ((لم اسمح للعمى أن يفت في عضدي … إن العمى لم يكن طاقة كبرى تقع علي ولا ينبغي النظر إليه نظرة إشفاق ، بل على انه أسلوب حياة ، أسلوب من أساليب العيش)) .
فللعمى مزاياه وفوائده ــ كما يرى بورخيس ــ فهو شخصيا مدين للظلمة التي جعلته يتعرف سماعا على لغة الانكلو سكسون وعالم الأدب الاسكندنافي والاستمتاع بالأدب الجرماني القديم المليء بالملاحم , الزاخر بالموضوعات الشيقة وحسب الأدباء العميان وجود هوميروس وتاميريس الشاعرين الاغيريقين الذين كانا أعميين وقد أنجز ميلتون الفردوس المفقود ، والفردوس المستعار عندما كان ضريرا ، فيما وهب بريسكوت الذي فقد بصره حياته لخدمة الأدب الايطالي ، ومثله غروساك الاسباني الذي قهر عماه وترك لنا قدرا من روائع النثر التي لا يضاهيها أي نثر ، أما جميس جويس الذي كان هو الآخر ضريرا فقد أنجز روايتيه يوليس وسهرة فنيغان متحديا عماه ، ولترويض قساوة تجربة العمى يذكر بورخيس تجارب أخرى لأدباء ومفكرين كبار فيذكر ديمقريطس الذي اخرج عينيه من محجريهما في أحدى الحدائق لكي لا يشغل انتباهه مشهد الحديقة ، أما اوريجين فقد عمد إلى اخصاء نفسه .
ويجد بورخيس نفسه خجلا بعد ذكر كل تلك الأسماء ، إذ انه من العبث أن يضع اسمه إزاء تلك الأسماء بحسب ما يقول ، ويخلص إلى أن العمى ليس سيئا برمته ، إذ يسهل عليه العيش معه دون كراهية فلم يشعر بالحقد يوما ما ، فقد يشعر الإنسان بان العمى هبة وليس مصيبة شاملة ، انه وسيلة أخرى من وسائل كثيرة غريبة كلها يوفرها لنا القدر والحظ .
ملاحظة :
اعتمد الكاتب على نص بورخيس الوارد في كتاب ( استنطاق النص) الذي اختار نصوصه وترجمها الدكتور محمد درويش , دار المأمون , 2012 , ص623 .