رسائل الأدباء رسالتان من الروائية عالية ممدوح إلى الروائي سلام إبراهيم

02-01-2001
باريس

عزيزي سلام
لو تدري كم يربكني حنانك الشفيف، أنت واحد من أجمل الأصدقاء الذين قابلتهم على الورق، وهي من الصداقات النفيسة بين الكتاب والكاتبات.
أتعامل مع الشيخوخة كما قلت لك بلا مبالاة، بمكر وتشفٍ أحياناً. لن احتفي بها كما تقول، أريد أن أتعايش معها بتفهم ساخر لكل ما يجري في الجسد البشري، أما الروح فما زالت ترتدي شورتاً قصيراً جداً، ونعال خفيف، دائرةً ظهرها إلى العالم. كم تمنيت لو كانت هناك أجناساً غيرنا، حتى الخنثى لا تكفي، أنني لا أتحدث عن الغرائز، أو الصبوات الحسية، لكن عن الجواهر الوجودية، وإذا ما تفحصنا وجودنا نكتشف أننا نملك جواهر عدة، من القدسين والأشرار والقتلة.
– (دعك من التفصيل الأخلاقي، فهو لا يعنيني قط).
لم أشك لحظة بالهول الذي أصابك، ولا يزال، وقد حولته إلى فنٍ راقٍ، نوراني مسْكرْ. من هذا المدخل، قلت لك عن تلك الروح التي تسكنني، والأله الذي يسكنك بجانب شيطانك، أنت تفاهمتَ مع ألمكَ. وهذا عهدي بك، كما هي حالتي بكل المصائب التي مررتُ بها، وها أنت تكتب عن الزلزال (سِفركَ) وجميل تحويله إلى فوحان صوفي آمل أن يعيد ترميمكَ قليلا، أن لا داعي بأي شكلٍ من الأشكال إلى تداول ذلك الأمر الحميمي للأخرين، ما دمت قد قلت هذا لأحدٍ ما، لبعض الأصدقاء الخلصْ، فكفْ عن هذا من الآن فصاعداً، ليس كحالة ثأرية من روحك الجميلة، وأنما لآن –الحالة- لا يعيها البعض إلا بكذا وكيت.
أن النازلة قد حصلتْ. أنت الذي وشمْتَ بها، فدعها لك لأنها تحمي فنك بالدرجة الأولى، ملايين الصغار تعرضوا لما تعرضتَ بالأكراه والخسة، وأنتهوا أما إلى الإبداع كرامبو، لورانس، جان كوكتو، جان جنيه، انني أتحدث عن – الأذية – السفيهة – الناجزة، وليس عن ذلك الأختيار الطوعي، الغريزي، أن يكون شخصاً أخر، مثل فوكو، أو أندرية جيد، على سبيل المثال. حتى النساء – مارغريت يونسار – الكاتبة الفرنسية الشهيرة أختارت – المعزل – الطبيعي جزيرة في المحيط الأطلنطي مع صديقة لها، بعدما تركت للعالم فناً باهراً.
* * *
أشكرك جدا على فحص – الغلامة – وطرق التأويل التي توصلت إليها تخصك وحدكَ، فالكتاب الآن لم يعد لي، بقدر ما هو لكَ. اما عن حادثة موت صبيحة ورأيك، ما دمتَ تراه قصدياً فلا أملك الرد عليه، هل تتصور ان الكاتب يقدر على نفسير عمله بالمسطرة والفرجال. لقد أنجرت الأحداث هكذا أنني لا أعرف يا سلام ثق من ذلك.. أن الأمر معقد جدا جدا. هنا بعض الأصحاب لم يقدر على مواصلة القراءة بعد فصل – المخلفات – تم التشويش والارباك من القسوة الفاجرة، فترك الكتاب جانباً، في إذاعة الشرق العربية هنا في باريس، قدم الشاعر – عيسى مخلوف – 7 دقائق عن الرواية، قال ما معناه، أن الغلامة رحلة إلى الجحيم، فهل قدر عالية الخروج من هناك؟. بعضنا غير قادر على الذهاب ولا على الخروج، ولا على الدخول إلى ذلك البرزخ، وإذا ما صادف أحد الكتاب أن في مقدوره الوصول إلى حافة الجحيم فما عليه إلا التسلح بالقدرة الاجرامية لأي فنان صحيح لكي يصل قيعان الجحيم بإعلى التكاليف إيلاماً وخراباً. أن الكاتب مخلوق أكثر هشاشة مما يتصوره الأخرون، وما يحاول القيام به هو أن يترك وشأنه فقط. هل تعتقد أن هناك في هذا الوقت من يقرأ ويكتب، من يهتم بالكتاب الجديد، من يهتم بالعراق والعراقيين، بالكتابة والإبداع، أننا نكتب لكي لا نجنْ بصورة قطعية، أنني أصلاً أكتب لحمايتي شخصياً، حماية منظومة القيم الثقافية والحضارية والإنسانية. وكل ما قمتُ به هو من هذا الجانب، حماية لعراقيتي الخاصة، لخصوصية العراق، هكذا أجبت في المقابلة مع اذاعة الشرق بعد صدور الرواية، تصور جريدة “الزمان” حتى لم تنزَّل خبرا عن الرواية لأن صاحبها على علاقة ليست طيبة كما يبدو معي. بالمناسبة قرأت لك حلقة عن “جنان حلاوي”. أنت تملك ملَكة نقدية ممتازة، لأنك تقرأ تحت الجلد، بالاضافة إلى أنك مبدع ممتاز وقلما كان المثقف العربي متمكناً من الناحيتين بكل هذا القدر الخلاق.
أما “جنان” فبلغه اعجابي، ولي معه حكاية، فقد قرأت له قصة قبل سنوات طويلة في مجلة “الأغتراب الأدبي، فاتصلت فوراً بالصديق “صلاح نيازي” بالهاتف، أقول له شكراً على أكتشافك لكاتبة عراقية بهذا المستوى الممتاز من السرد والبناء واللغة، فضحك طويلا وأجابني، – انه كاتب – لا ادري لم حزنت قليلا، كنتُ أريده فتاة، فالكاتبات الجيدات نادرات مع الأسف. بالمناسبة، أرسلتُ الغلامة إلى “زهير” بعد أن وصلتني بعض النسخ من بيروت.
أعمل ما تشاء بالغلامة أو حَولَها، فالأمر يعود لك بالدرجة الأولى، ولا يسعني إلا أن أشكرك على النوايا والأفعال.
أكتب، وأكتب، وأنجز نصك الصوفي أرجوك، وأسكر بقدر ما تبدو متوهجاً لا ميتاً.
لك مني محبتي التي تعرف

عالية ممدوح




* أن أي كتاب في الأرض (وهذا رأيي) أذا تم الاجماع – العربي – أو غيره عليه، يبدو لي مريباً، وأدخله في دائرة الشك.
أرسل إليك بعض المقالات عن الغلامة كما طلبتْ.
* عالية ممدوح روائية عراقية تقيم في باريس أصدرت العديد من الروايات والمجاميع القصصية وحازت على جائزة “نجيب محفوظ” عن روايتها “المحبوبات”
* الغلامة رواية عالية ممدوح دار الساقي لندن 2000
* جنان جاسم حلاوي قاص وروائي عراقي مقيم في السويد
* زهير = د. زهير شليبة مختص بالأدب يقيم في الدنمارك
* صلاح نيازي شاعر عراقي مقيم في لندن كان رئيس تحرير مجلة “الأغتراب الأدبي”.


******



باريس
سلام
صدقاً لا أعرف ماذا أكتب إليكَ، متعسرة، طائشة، حزينة
حزن اليتامى، وأبناء وبنات آوى..
لماذا أكتب بعد هذا الصمت، أيضاً لا أدري، صدقا لا أعرف،
لكنني وسط صرر ثيابي، وصناديق كتبي وأسطواناتي، ورائحة شقتي دهان جديد، وأنا أقفز بين الموجودات والأشياء سقطت كومة مكاتيب، كل المكاتيب، منك ومن الأصدقاء، فوقع خطابك الأخير المؤرخ 10-10-1999، شتمتُ حالي، وفزعتُ من قسوتي على نفسي أولاً، أنا قاطعتُ الجميع، وبدون استثناء. لا تعليل، ولا تفسير، لا، ولا، فكل شيء متداخل مثل الأنهار العظيمة، أجبتُ الآن، والآن فقط، على خطاب صديقة في مكان ما من الكرة الأرضية، وأنتَ، رغم أنني كتبتُ لك إذا لم تخنِي ذاكرة منتصف العمر، وقلتُ في حينها كيت وكذا، وكذا، يا ريت تفهم، ما وصلته من اللاجدوى، والخواء، والعبث، ياريت لا تجلد روحكَ يا عزيزي من أجل أي مخلوق في هذه الأرض، أبقَ كما أنت شقياً، مجنوناً، ومترعاً بجذر الوجود، فأنت أطيب من كلماتي العاقة، الجاحدة، من الجائز أردتُ أن أقول لك –هنا- والآن، أنني لستُ ضدك، أنني ضد نفسي، جميع كوارثي أنني لم أكن يوماً ضد الآخر، الغير، وإنما ضد الروح. كل مشاكلي هي حربي الضاربة مع الروح اولاً، فأخسر أكثر، وأربح أقلْ.
يا سلام، يا حبذا لو لا ترد عليّ، دع الهاوية كما هي، فربما لولا رائحة الدهان الجديد، لما وقعت المكاتيب، ولما شعرت بغصة في الحلق،
أتمنى لك أطيب الأوقات
يا صديق الألم والشجن، و...
عالية ممدوح





عالية-1.jpg عالية-2.jpg عالية-3.jpg عالية-4.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
رسائل الأدباء (ملف)
المشاهدات
1,039
آخر تحديث
أعلى