ان ما انجزه اوغست ستريندبيرغ August Strindberg في فنون الشعر والرواية والمقالة والرسم والتاريخ والسيرة الذاتية وما اجراه من تجارب في العلوم الطبيعية يستعصي على الايجاز. وقد حقق هذا كله على الرغم من – أو ربما بسبب – حياة عاصفة ذاق خلالها من العذاب والاخفاق والفقر الشيء الكثير.
ولد ستريندبيرغ (1849-1912) في استوكهولم لاسرة كبيرة ، وكان ابوه تاجرا، ولكنه كان يواجه ازمات مالية في الوقت الذي ولد فيه كاتبنا. وكانت امه ابنة خياط فقير توفي ابوها عندما كانت في سن صغيرة مما اضطرها الى ان تكسب قوتها بنفسها في وقت مبكر من حياتها. فعملت خادمة في بيت والد الكاتب فتزوجها في ما بعد.
وصور ستريندبيرغ سنوات حياته الاولى في روايته (ابن الخادمة) 1886 تصويرا كئيبا حزينا. وقال انه عانى في تلك السنوات الكثير من الذل والظلم مما جعله يشعر بانه طفل منبوذ وبان حياته المضطربة مردها الى الفروق الكبيرة في شخصية كل من ابيه وامه. ويقول سيتريندبيرغ في مسرحية (الاب) 1887 على لسان الكابتن: "لم يكن ابي وامي يريداني. ولذلك ولدت دون ان يكون لي ارادة." وقد يكون هذا سببا في الموقف المعادي الذي اتخذه الكاتب فيما بعد من محيطه وبيئته. فنحن نجده يصور في اعماله كلها العذاب الذي عاشه في طفولته. ولا شك انه عانى ايضا في تصوير ذلك العذاب.
ومهما يكن من امر فقد كان ستريندبيرغ في شبابه يعاني من عقدة النقص. ولم يشعر بميل الى المدرسة. واعتبرها اشبه بسجن. وامتازت علاقته بابيه بالكراهية والخوف. وظلت حاجته الى حنان الام غير محققة مما يفسر الاضطرابات العصابية التي اصيب بها في ما بعد. واصيبت امه بالسل. وفي الايام الاخيرة من حياتها امضى ستريندبيرغ جل وقته بصحبتها وشعر نحوها بالحب والاحترام. وعندما توفيت كان في الثالثة عشرة من عمره. تزوج ابوه من امرأة اخرى شعر نحوها ستريندبيرغ بكره شديد واعتبرها دخيلة في البيت.
ومع ان البيت الذي نشأ فيه كان يغلب عليه الطابع الديني الا ان كاتبنا لم يستطع ان يقبل بالمعتقدات الدينية. وازدادت شكوكه في هذه المعتقدات الى ان رفضها في آخر الامر. والتحق في عام 1867 بجامعة ابسالا ولكنه لم يشعر بميل الى الدراسة فترك الجامعة بعد شهور قليلة. وعمل معلما في المدرسة الابتدائية التي درس فيها في طفولته. وازدادت في هذه الفترة خبراته الحياتية فارتاد المسارح والندوات والمقاهي، وراح يكثر من الشراب، وتراكمت عليه الديون، واعتاد التهرب من الدائنين.
في خريف عام 1868 عمل ستريندبيرغ مدرسا خصوصيا في منزل طبيب اثار رغبته في تعلم الطب. ولكنه عندما اخفق في امتحانات الكيمياء عزف عن دراسة الطب والتحق باكاديمية الفنون المسرحية في استوكهولم ليتعلم التمثيل. ولكنه ترك الاكاديمية عندما اعطي دورا من الادوار واخفق في اثبات مهاراته في البروفات. ونصح بدراسة الادب ليغدو كاتبا، فعاد مكرها الى جامعة ابسالا. نشر مسرحيته (المفكر الحر) 1870 تحت اسم مستعار هو (هارفد اولاف) وفي ذلك العام ايضا عرض المسرح الدرامي في استوكهولم مسرحية جديد له بعنوان(في روما). وانتسب في ذلك الوقت الى جمعية رومانسية. ولكن مطالعاته لاعمال جورج براندس وفيكتور هيجو وآخرين ابعدته تدريجيا عن المثالية العاطفية واقنعته تدريجيا بالفلسفة الطبيعية. واعجب ملك السويد تشارلز الخامس عشر بمسرحية ستريندبيرغ (المنبوذ) 1971 فقرر ان يمنح الكاتب مكافأة بالانفاق على تعليمه ولكن الكاتب اخفق في دراسته والغى الملك المنحة. وترك الكاتب الجامعة عام 1872 دون شهادة وعاد الى استوكهولم ليعمل صحفيا. وكتب في سن الثالثة والعشرين رائعته (الاستاذ اولاف) وهي مسرحية نثرية تعالج الصراع بين المثالية والواقعية. وادخل تعديلات كثيرة عليها ونشرها شعرا عام 1878.
وجلب الفشل في الصحافة جوعا وديونا وشعورا قاتلا بالتشاؤم فاضطر ستريندبيرغ الى العمل كمساعد امين مكتبة عام 1874. وفي عام 1877 تزوج من البارونة صوفيا ابنة نبيل سويدي فنلندي. واحب زوجته حبا لا يوصف، ولكن لم يمض وقت طويل حتى تحول هذا الحب الى مقت شديد وغدا الزواج جحيما. هذا التحول من النقيض الى النقيض كان سمة بارزة من سمات شخصية ستريندبيرغ. وفي عام 1887 سافر وزوجته وابنتاه الى كوبنهاغن حيث ألف مسرحية (الآنسة جولي) 1888. وهي من الناحية الفنية اعظم مسرحية تتبنى المذهب الطبيعي ومسرحية (الدائنون) 1888. وانتهى الزواج بالطلاق عام 1891.
وتشير بعض اعمال ستريندبيرغ في هذه الفترة الى انه كان مصابا بجنون الاضطهاد.ويشير بعضها الاخر الى انه كان مصابا بالبارانويا (جنون الشك). وازداد هذا الجنون بمطالعات اعمال الكاتب والفيلسوف الالماني فريدريك نيتشه ومراسلته اياه. وفي عام 1892 سافر الى برلين وعاش حياة بوهيمية. وبعد ذلك بعام تزوج من فتاة نمساوية ارستقراطية. ولكن سرعان ما تحول هذا الزواج الى جحيم كسابقه. اقام الزوجان في انكلترا وفرنسا والنمسا. وحدث الطلاق بينهما عام 1897. وشيئا وشيئا اشتدت الازمة الذهنية والنفسية التي تعرض لها كاتبنا فاهتم بالعلوم واجرى تجارب عبثية في الكيمياء استغرقت جانبا كبيرا من تركيزه ووقته.
ولكن ستريندبيرغ استطاع بفضل التحليل الاستبطاني لمعاناته ان يخرج بنفسه من فترة الجحيم هذه التي وصفها في كتابيه (الجحيم) 1897 و(الاساطير) 1898. واستطاع كذلك ان يستعيد خياله الابداعي فألف عددا من المسرحيات الجديدة مثل (عيد الفصح) 1901 و(رقصةالموت) 1904.
اقام ستريدبيرغ في استوكهولم من عام 1899 حتى وفاته وتزوج عام 1901 من ممثلة شابة من اوسلو قامت بعدة ادوار ناجحة في عروض لمسرحياته. وكتب بوحي من حبه الجديد مسرحيته التعبيرية الرائعة (مسرحية حلم) 1912 عبر فيها عن اشفاقه على الجنس البشري. وانتهى زواجه الثالث بالطلاق ايضا عام 1904. وتوفي مصابا بالسرطان. وكان الكتاب المقدس على قلبه.
لقد جرب ستريندبيرغ اشكالا مسرحية كثيرة منها الكوميدية كما في (رحلات بيتر المحظوظ) ومنها الشعبية كما في (العروس العذراء). وابتداء من عام 1872 نشر سلسلة من المسرحيات التاريخية استهلها (بالاستاذ اولاف) وهي سلسلة من اثنتي عشرة مسرحية يعتبرها النقاد اهم مساهمة في المسرح التاريخي منذ شكسبير. وتميزت مسرحياته التاريخية مثل (غوستاف فازا) و(إريك الرابع عشر) و(الملكة كريستينا) باهتمام كبير بدقائق التاريخ وبفهم عميق للشخصيات التاريخية. ولكن هذه المسرحيات اهملت خارج السويد لاقتصار مادتها على احداث مستقاة من التاريخ السويدي.
ويقسم النقاد مسرحيات ستريندبيرغ غير التاريخية الى مجموعتين: تتألف المجموعة الاولى من المسرحيات التي ألفت بين عام 1887 و1892 وانتهج فيها الكاتب الفلسفة الطبيعية وكأنه استجاب بذلك الى دعوة وجهها الكاتب الفرنسي اميل زولا للكتاب المسرحيين بان يتخلوا عن القوالب الجامدة التي التزم بها المسرحيون القدامى وان "يضعوا على خشبة المسرح اشخاصا من لحم ودم في بيئة واقعية يحللونها تحليلا علميا ويصفونها وصفا صادقا." واعتمد ستريندبيرغ في تأليف هذه المسرحيات على مطالعاته الموسعة في علم النفس. وحقق شكلا مسرحيا مركزا ومكثفا ووضع على الخشبة ما دعاه "بالواقع الساخر القاسي الذي تفرزه الحياة." ونجد في قلب هذا الواقع صراعا مستمرا بين المرأة والرجل يصوره الكاتب على نحو مأساوي في مسرحيتي (الاب) و(الانسة جولي) وعلى نحو ساخر في مسرحية (الدائنون). وهذا الصراع هو من النمط الذي يصفه الكاتب بانه "صراع ادمغة"، وفيه تحاول شخصية فرض ارادتها على شخصية اخرى بالايحاء. وتعد المقدمة التي كتبها ستريندبيرغ لمسرحية (الانسة جولي) وثيقة نظرية بالغة الاهمية للمذهب الطبيعي من وجهة نظر مسرحية. وفيها يصف الكاتب شخصياته لا كمحصلة لقوى الوراثة والبيئة فحسب كما درج اتباع المذهب الطبيعي على اعتبار شخصياتهم، ولكنه يصفها ايضا بانها "كتل منتزعة من ثقافات الماضي والحاضر، وقصاصات من الكتب والصحف، وقطع من الانسانية، ومزق كانت في السابق تشكل نسيجا متماسكا ولكنه تحول الى مزق مع مرور الايام."
اما مسرحيات المجموعة الثانية التي شرع في كتابتها بعد مرور ست سنوات من المجموعة الاولى فقد تخلى فيها الكاتب تخليا كاملا عن التقاليد المسرحية المتعارف عليها. ففي ثلاثية (الى دمشق) يصور الكاتب حياته الذهنية والنفسية من خلال بطله الذي يطلق عليه اسم (المجهول) بكل ما في تلك الحياة من تفاصيل واقعية. وتعد هذه الثلاثية بداية للمسرح الذهني. وفيها يغوص (المجهول) في الماضي ويصادف اشخاصا هم في الحقيقة نماذج من شخصياته او هم من صنع خياله. اما (مسرحية حلم) التي تعتبر افضل مسرحيات ستريندبيرغ فهي تصور عالما لا وجود فيه للمكان والزمان، عالما فيه كل شيء ممكن ومحتمل. وابرز النقاد نقاط الشبه بين افكار ستريندبيرغ وافكار معاصريه من الفلاسفة والمفكرين وخاصة سيغموند فرويد صاحب نظرية التحليل النفسي. صحيح ان كتابا مسرحيين من امثال شكسبير وابسن سبقوا ستريندبيرغ في تقديم الحياة على الخشبة كحلم من الاحلام غير ان ستريندبيرغ في (مسرحية حلم) بدأ تقليدا جديدا من الكتابة المسرحية يتمثل في التحول من التركيز على الحبكة والشخصية الى التركيز على الفكرة. لقد تحول ستريندبيرغ الى المذهب الحديث نتيجة لما يعرف "بفترة الجحيم" التي كان فيها الكاتب ضحية لمعاناة نفسية وذهنية واقترب فيها من حافة الانهيار، وتوقف فيها عن الكتابة والابداع. وخلال هذه الفترة التي امتدت بين عامي 1892 و1898 انفق ستريندبيرغ كثيرا من الوقت على تجارب علمية عقيمة بسبب شعوره بالحاجة الى تجديد نفسه باكتشاف طرق جديدة لفهم العالم المرئي والعالم غير المرئي. وفي الوقت الذي كان فيه فرويد منشغلا في تجاربه في التحليل النفسي التي افضت الى اصدار كتاب (تفسير الاحلام) 1900 كان ستريندبيرغ يحاول جاهدا الوصول الى معرفة العقل الباطن مستخدما اساليب شرحها في مقالة بعنوان (الفنون الجديدة او دور الصدفة في الابداع الفني). وهذه المقالة هي التي تنبأت بولادة المذهب السوريالي الذي كان ستريندبيرغ اول من طبقه في لوحاته الفنية.
[email protected]
لندن - بريطانيا
ولد ستريندبيرغ (1849-1912) في استوكهولم لاسرة كبيرة ، وكان ابوه تاجرا، ولكنه كان يواجه ازمات مالية في الوقت الذي ولد فيه كاتبنا. وكانت امه ابنة خياط فقير توفي ابوها عندما كانت في سن صغيرة مما اضطرها الى ان تكسب قوتها بنفسها في وقت مبكر من حياتها. فعملت خادمة في بيت والد الكاتب فتزوجها في ما بعد.
وصور ستريندبيرغ سنوات حياته الاولى في روايته (ابن الخادمة) 1886 تصويرا كئيبا حزينا. وقال انه عانى في تلك السنوات الكثير من الذل والظلم مما جعله يشعر بانه طفل منبوذ وبان حياته المضطربة مردها الى الفروق الكبيرة في شخصية كل من ابيه وامه. ويقول سيتريندبيرغ في مسرحية (الاب) 1887 على لسان الكابتن: "لم يكن ابي وامي يريداني. ولذلك ولدت دون ان يكون لي ارادة." وقد يكون هذا سببا في الموقف المعادي الذي اتخذه الكاتب فيما بعد من محيطه وبيئته. فنحن نجده يصور في اعماله كلها العذاب الذي عاشه في طفولته. ولا شك انه عانى ايضا في تصوير ذلك العذاب.
ومهما يكن من امر فقد كان ستريندبيرغ في شبابه يعاني من عقدة النقص. ولم يشعر بميل الى المدرسة. واعتبرها اشبه بسجن. وامتازت علاقته بابيه بالكراهية والخوف. وظلت حاجته الى حنان الام غير محققة مما يفسر الاضطرابات العصابية التي اصيب بها في ما بعد. واصيبت امه بالسل. وفي الايام الاخيرة من حياتها امضى ستريندبيرغ جل وقته بصحبتها وشعر نحوها بالحب والاحترام. وعندما توفيت كان في الثالثة عشرة من عمره. تزوج ابوه من امرأة اخرى شعر نحوها ستريندبيرغ بكره شديد واعتبرها دخيلة في البيت.
ومع ان البيت الذي نشأ فيه كان يغلب عليه الطابع الديني الا ان كاتبنا لم يستطع ان يقبل بالمعتقدات الدينية. وازدادت شكوكه في هذه المعتقدات الى ان رفضها في آخر الامر. والتحق في عام 1867 بجامعة ابسالا ولكنه لم يشعر بميل الى الدراسة فترك الجامعة بعد شهور قليلة. وعمل معلما في المدرسة الابتدائية التي درس فيها في طفولته. وازدادت في هذه الفترة خبراته الحياتية فارتاد المسارح والندوات والمقاهي، وراح يكثر من الشراب، وتراكمت عليه الديون، واعتاد التهرب من الدائنين.
في خريف عام 1868 عمل ستريندبيرغ مدرسا خصوصيا في منزل طبيب اثار رغبته في تعلم الطب. ولكنه عندما اخفق في امتحانات الكيمياء عزف عن دراسة الطب والتحق باكاديمية الفنون المسرحية في استوكهولم ليتعلم التمثيل. ولكنه ترك الاكاديمية عندما اعطي دورا من الادوار واخفق في اثبات مهاراته في البروفات. ونصح بدراسة الادب ليغدو كاتبا، فعاد مكرها الى جامعة ابسالا. نشر مسرحيته (المفكر الحر) 1870 تحت اسم مستعار هو (هارفد اولاف) وفي ذلك العام ايضا عرض المسرح الدرامي في استوكهولم مسرحية جديد له بعنوان(في روما). وانتسب في ذلك الوقت الى جمعية رومانسية. ولكن مطالعاته لاعمال جورج براندس وفيكتور هيجو وآخرين ابعدته تدريجيا عن المثالية العاطفية واقنعته تدريجيا بالفلسفة الطبيعية. واعجب ملك السويد تشارلز الخامس عشر بمسرحية ستريندبيرغ (المنبوذ) 1971 فقرر ان يمنح الكاتب مكافأة بالانفاق على تعليمه ولكن الكاتب اخفق في دراسته والغى الملك المنحة. وترك الكاتب الجامعة عام 1872 دون شهادة وعاد الى استوكهولم ليعمل صحفيا. وكتب في سن الثالثة والعشرين رائعته (الاستاذ اولاف) وهي مسرحية نثرية تعالج الصراع بين المثالية والواقعية. وادخل تعديلات كثيرة عليها ونشرها شعرا عام 1878.
وجلب الفشل في الصحافة جوعا وديونا وشعورا قاتلا بالتشاؤم فاضطر ستريندبيرغ الى العمل كمساعد امين مكتبة عام 1874. وفي عام 1877 تزوج من البارونة صوفيا ابنة نبيل سويدي فنلندي. واحب زوجته حبا لا يوصف، ولكن لم يمض وقت طويل حتى تحول هذا الحب الى مقت شديد وغدا الزواج جحيما. هذا التحول من النقيض الى النقيض كان سمة بارزة من سمات شخصية ستريندبيرغ. وفي عام 1887 سافر وزوجته وابنتاه الى كوبنهاغن حيث ألف مسرحية (الآنسة جولي) 1888. وهي من الناحية الفنية اعظم مسرحية تتبنى المذهب الطبيعي ومسرحية (الدائنون) 1888. وانتهى الزواج بالطلاق عام 1891.
وتشير بعض اعمال ستريندبيرغ في هذه الفترة الى انه كان مصابا بجنون الاضطهاد.ويشير بعضها الاخر الى انه كان مصابا بالبارانويا (جنون الشك). وازداد هذا الجنون بمطالعات اعمال الكاتب والفيلسوف الالماني فريدريك نيتشه ومراسلته اياه. وفي عام 1892 سافر الى برلين وعاش حياة بوهيمية. وبعد ذلك بعام تزوج من فتاة نمساوية ارستقراطية. ولكن سرعان ما تحول هذا الزواج الى جحيم كسابقه. اقام الزوجان في انكلترا وفرنسا والنمسا. وحدث الطلاق بينهما عام 1897. وشيئا وشيئا اشتدت الازمة الذهنية والنفسية التي تعرض لها كاتبنا فاهتم بالعلوم واجرى تجارب عبثية في الكيمياء استغرقت جانبا كبيرا من تركيزه ووقته.
ولكن ستريندبيرغ استطاع بفضل التحليل الاستبطاني لمعاناته ان يخرج بنفسه من فترة الجحيم هذه التي وصفها في كتابيه (الجحيم) 1897 و(الاساطير) 1898. واستطاع كذلك ان يستعيد خياله الابداعي فألف عددا من المسرحيات الجديدة مثل (عيد الفصح) 1901 و(رقصةالموت) 1904.
اقام ستريدبيرغ في استوكهولم من عام 1899 حتى وفاته وتزوج عام 1901 من ممثلة شابة من اوسلو قامت بعدة ادوار ناجحة في عروض لمسرحياته. وكتب بوحي من حبه الجديد مسرحيته التعبيرية الرائعة (مسرحية حلم) 1912 عبر فيها عن اشفاقه على الجنس البشري. وانتهى زواجه الثالث بالطلاق ايضا عام 1904. وتوفي مصابا بالسرطان. وكان الكتاب المقدس على قلبه.
لقد جرب ستريندبيرغ اشكالا مسرحية كثيرة منها الكوميدية كما في (رحلات بيتر المحظوظ) ومنها الشعبية كما في (العروس العذراء). وابتداء من عام 1872 نشر سلسلة من المسرحيات التاريخية استهلها (بالاستاذ اولاف) وهي سلسلة من اثنتي عشرة مسرحية يعتبرها النقاد اهم مساهمة في المسرح التاريخي منذ شكسبير. وتميزت مسرحياته التاريخية مثل (غوستاف فازا) و(إريك الرابع عشر) و(الملكة كريستينا) باهتمام كبير بدقائق التاريخ وبفهم عميق للشخصيات التاريخية. ولكن هذه المسرحيات اهملت خارج السويد لاقتصار مادتها على احداث مستقاة من التاريخ السويدي.
ويقسم النقاد مسرحيات ستريندبيرغ غير التاريخية الى مجموعتين: تتألف المجموعة الاولى من المسرحيات التي ألفت بين عام 1887 و1892 وانتهج فيها الكاتب الفلسفة الطبيعية وكأنه استجاب بذلك الى دعوة وجهها الكاتب الفرنسي اميل زولا للكتاب المسرحيين بان يتخلوا عن القوالب الجامدة التي التزم بها المسرحيون القدامى وان "يضعوا على خشبة المسرح اشخاصا من لحم ودم في بيئة واقعية يحللونها تحليلا علميا ويصفونها وصفا صادقا." واعتمد ستريندبيرغ في تأليف هذه المسرحيات على مطالعاته الموسعة في علم النفس. وحقق شكلا مسرحيا مركزا ومكثفا ووضع على الخشبة ما دعاه "بالواقع الساخر القاسي الذي تفرزه الحياة." ونجد في قلب هذا الواقع صراعا مستمرا بين المرأة والرجل يصوره الكاتب على نحو مأساوي في مسرحيتي (الاب) و(الانسة جولي) وعلى نحو ساخر في مسرحية (الدائنون). وهذا الصراع هو من النمط الذي يصفه الكاتب بانه "صراع ادمغة"، وفيه تحاول شخصية فرض ارادتها على شخصية اخرى بالايحاء. وتعد المقدمة التي كتبها ستريندبيرغ لمسرحية (الانسة جولي) وثيقة نظرية بالغة الاهمية للمذهب الطبيعي من وجهة نظر مسرحية. وفيها يصف الكاتب شخصياته لا كمحصلة لقوى الوراثة والبيئة فحسب كما درج اتباع المذهب الطبيعي على اعتبار شخصياتهم، ولكنه يصفها ايضا بانها "كتل منتزعة من ثقافات الماضي والحاضر، وقصاصات من الكتب والصحف، وقطع من الانسانية، ومزق كانت في السابق تشكل نسيجا متماسكا ولكنه تحول الى مزق مع مرور الايام."
اما مسرحيات المجموعة الثانية التي شرع في كتابتها بعد مرور ست سنوات من المجموعة الاولى فقد تخلى فيها الكاتب تخليا كاملا عن التقاليد المسرحية المتعارف عليها. ففي ثلاثية (الى دمشق) يصور الكاتب حياته الذهنية والنفسية من خلال بطله الذي يطلق عليه اسم (المجهول) بكل ما في تلك الحياة من تفاصيل واقعية. وتعد هذه الثلاثية بداية للمسرح الذهني. وفيها يغوص (المجهول) في الماضي ويصادف اشخاصا هم في الحقيقة نماذج من شخصياته او هم من صنع خياله. اما (مسرحية حلم) التي تعتبر افضل مسرحيات ستريندبيرغ فهي تصور عالما لا وجود فيه للمكان والزمان، عالما فيه كل شيء ممكن ومحتمل. وابرز النقاد نقاط الشبه بين افكار ستريندبيرغ وافكار معاصريه من الفلاسفة والمفكرين وخاصة سيغموند فرويد صاحب نظرية التحليل النفسي. صحيح ان كتابا مسرحيين من امثال شكسبير وابسن سبقوا ستريندبيرغ في تقديم الحياة على الخشبة كحلم من الاحلام غير ان ستريندبيرغ في (مسرحية حلم) بدأ تقليدا جديدا من الكتابة المسرحية يتمثل في التحول من التركيز على الحبكة والشخصية الى التركيز على الفكرة. لقد تحول ستريندبيرغ الى المذهب الحديث نتيجة لما يعرف "بفترة الجحيم" التي كان فيها الكاتب ضحية لمعاناة نفسية وذهنية واقترب فيها من حافة الانهيار، وتوقف فيها عن الكتابة والابداع. وخلال هذه الفترة التي امتدت بين عامي 1892 و1898 انفق ستريندبيرغ كثيرا من الوقت على تجارب علمية عقيمة بسبب شعوره بالحاجة الى تجديد نفسه باكتشاف طرق جديدة لفهم العالم المرئي والعالم غير المرئي. وفي الوقت الذي كان فيه فرويد منشغلا في تجاربه في التحليل النفسي التي افضت الى اصدار كتاب (تفسير الاحلام) 1900 كان ستريندبيرغ يحاول جاهدا الوصول الى معرفة العقل الباطن مستخدما اساليب شرحها في مقالة بعنوان (الفنون الجديدة او دور الصدفة في الابداع الفني). وهذه المقالة هي التي تنبأت بولادة المذهب السوريالي الذي كان ستريندبيرغ اول من طبقه في لوحاته الفنية.
[email protected]
لندن - بريطانيا