محمد بن سيف الرحبي - ليلة خلف الأخيرة.. قصة قصيرة

قابع في سديمية الموت ، يطلق أنفاسه الوحيدة في محيط المكان ،موحشة وخانقة هذه البقعة ،تطلق عفاريت الخوف من قمقمها المجنون والوحشي ،يطوف أرجاء الغرف ، متحفزا لخطر ما ،صمت قاس ومريب ،والساعات تتحول إلى قلادات إفعوانية تحيط معصمه الذي تكاد شرايينه أن تنفجر .

جلس على الكرسي الوحيد ،يحلم أن يتكلم ،أن يسمع صوتا ، صرخ في أعماقه بذهول: "ماذا ،ماذا لو تكلم أحد هؤلاء ، عشرون جثة بالعدد ، كل يوم يمر عليه رئيسه في العمل يتأكد من عددها ،عشرون جسدا ترقد بلا حراك حوله تنتظر شحنها إلى منفاها الأخير ،أحس بسخرية مريرة مما يعيشه من تناقض ،وحيدا وحوله كل هؤلاء ، سكت عن حلمه بأن يتكلم أحدهم ،فتح فمه بموال حزين ، سكت فجأة ، تخيل أن دمعات يسكبها أحد هؤلاء شجنا أو حزنا .

مر أسبوع كامل منذ أن استلم وظيفته الجديدة في هذه المشرحة المنسية ، ومنذ أن تخرج من قسم الآثار بالجامعة ،كان يحلم بالكرسي الدائري ، وبالسكرتيرة التي تبتسم كل صباح ، ويغازلها بطرف خفي في المرحلة الأولى ،يكلمها عن امرأته التي تزوجها عندما كان طالبا في المدرسة ،وحتى حينه لم يشعر أنه ارتبط بامرأة كتلك التي يسمع عنها في كتب الشعر والروايات ، يكلمها عن سيارته الجديدة التي اشتراها بعدة آلاف وعن البيت الكبير الذي يبنيه في شاطئ القرم ، طوى أحلامه في طرف خفي من رأسه .

يخرج إلى بيته كل صباح ، ينظر في الأجساد التي تمر أمامه ، يتخيل اليوم الذي تنام فيه بصمتها الأبدي ،ويقف هو حارسا على الأموات خوفا من أن تهرب منها أجزاؤها ،يقبل أطفاله ببرود ،وتسأله زوجته إن كان أحضر حاجيات البيت قبل أن ينام إلى الظهر ،في الحلم يرصد صور موتاه ، يعاتبونه على تركه لهم ،وحيدين في مشرحة المستشفى ، لأول مرة يرى وجوههم في الحلم .

في المساء ، وحينما حانت ساعة مناوبته أصر على رؤية وجوه هؤلاء الذين يحرسهم ،و الذين يشتاقون إليه بعتاب حارق .

أغلق الباب جيدا ، وقف أمام الجسد الملفوف في غطائه الأبيض ، وجه مكدود كأنه الباقي من زمن الانقراض الكامل ، عيون منطفأة على حلمها البعيد ،حمل الجثة ، وضعها على الكرسي برفق ،جلس قبالتها :

أيها الرجل الذي كان ، أقف أمامك أنا المواطن خلف ، أحرسك من الأحياء ، لا أدري لماذا ؟ أقبض آخر الشهر راتبين لأنني أفعل ذلك ،بعد كل ليلة خوف أقضيها بينكم أيها الأموات أعود إلى الأحياء أكثر رعبا ، يرعبني المسؤول كي لا يستغني عن خدماتي ، وترعبني زوجتي حين تطلب ملابس للأولاد ، ويرعبني رجل الفواتير الذي يطرق بابي عدة مرات في الشهر ، وأفكر في قسط بنك الإسكان ،وأفكر في فوائد سلفتي التي لا آخر لها ، أيها الرجل : محظوظ أنك خرجت من الزمان ، تتقيأ الآن فلسفتك العظيمة ، العزلة الأبدية ،هل تشعر بالبرد؟ هل تفكر في أرملتك ؟ هل تتذكر أنك خرجت مديونا أم أنك خلفت مديونين تمنوا موتك ؟ أيها الرجل: صدقني أنني أول مرة أتكلم بدون خوف من أن يعلق الآخرون على سقطات لساني ، ويترصدني الواشون يقولونني ما لم أقله .

توهم الرجل أن الجثة التي أمامه انفرج فمها عن أسنان صفراء ، سمع قهقهات قوية تتردد أصداؤها في الفراغ المحيط ،وقف بعصبيته ، انهال بعصاه على الجثة التي أمامه ، أحس بالأرض تميد من تحته ، وضع رأسه بين كفيه واختلط الذي يخرج من عينيه وفمه .

في اليوم التالي ، حمل جسدا آخر ،أقعده نفس الكرسي ، تكلم إليه ، جلده بالسوط ، وتهاوى ساقطا بجانبه ، كل مساء ، كل خوف ، كل بكاء .

في الليلة العشرين ، أعاد خلف الجثة العشرين إلى مكانها الثلجي ، تمدد على مقربة منها ،أحس أن شيئا مختلفا يقترب منه .

حين فتح المسؤول باب المشرحة لم يجد الحارس ، توترت أطرافه خوفا على الجثث العشرين ، بدأ في عدها ،وجدها إحدى وعشرين جثة ،فرح أنها لم تنقص ، لكنه لم يهتم أنها زادت .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى