هي علم شامخ من اعلام الادب الانكليزي، رفعت الرواية الى مكانة سامية وحددت لها مسارا جديدا، ومهدت الطريق لكتاب القرن التاسع عشر من امثال تشارلز ديكنز وجورج اليوت وتوماس هاردي، وبرعت في تصوير البيئة المحلية، واقتصرت اعمالها على اساسيات مادة الفنان الروائي.
على الرغم من ان بدايات الرواية في الادب الانكليزي تعود الى القرن السادس عشر فان هذا النوع الادبي لم يكتمل وينضج الا في القرن الثامن عشر. والف عدد من الادباء في عصر الملكة اليزابيث الاولى من امثال فيليب سيدني وتوماس لودج وروبرت غرين قصصا ممتعة عن الملوك ورجال البلاط، ولكن لا يمكن ان نسمي هذه القصص روايات بالمعنى الفني للكلمة.
وجاء في القرن السابع عشر كتاب آخرون من امثال جون بنيان الذي روى في كتابه الشهير (رحلة الحاج) 1678 قصصا مثيرة وصور بيئات واقعية فساهم بذلك في تطور الفن الروائي.
وجاء في اوائل القرن الثامن عشر دانييل ديفو وجوناثان سويفت فقدم كل منهما مساهمته في تمهيد الطريق امام شكل روائي ناضج. وظهرت اخيرا عام 1740 رواية (باميلا) لساميويل ريتشاردسون فنضج بها النوع الادبي الذي نطلق عليه اليوم اسم الرواية. وكتبت رواية (باميلا) في شكل رسائل. وكتب كثير من الروايات اللاحقة بالاسلوب نفسه. وراج هذا النوع من الروايات رواجا كبيرا مما دفع ريتشاردسون الى كتابة روايات اخرى مثل (كلاريسا) 1748، وهي رواية تصور اشخاصا عاديين كالناس الذين نصادفهم في حياتنا اليومية. وجاء بعد ذلك هنري فيلدنغ الذي حاول في روايته (جوزيف اندروز) 1742 السخرية من عمل ريتشاردسون.
واعجبت الاديبات في ذلك الوقت بهذا النوع الادبي اعجابا خاصا فألفت فاني بيرني روايتي (ايفيلينا) و(سيسيليا). وجاءت بعد بيرني كل من ماريا ادجوورث وآن رادكليف وغيرهما. واهتمت هؤلاء الاديبات بتصوير اشخاص حقيقيين في ظروف حياتية واقعية.
في هذا الوسط وجدت جين اوستن نفسها، وكتبت اعمالها. ومن الاسباب التي كانت وراء اقترابها من الكمال اقترابا كبيرا هو انها قرأت اعمال من سبقها من الكتاب قراءة متأنية ذكية وتعلمت منها الكثير.
ولدت جين اوستن (1775-1817) في بلدة ستيفنسون في مقاطعة هامبشير بجنوب انكلترة حيث كان والدها جورج اوستن كاهنا. وفي هذه البلدة عاشت طفولتها وصباها. حظيت بتشجيع كبير من افراد اسرتها على الكتابة، حتى ان اباها راسل احد الناشرين واوصاه بابنته. وارسلت الاسرة جين واختها كاساندرا عام 1782 الى مدرسة داخلية في ردنغ ولكنهما عادتا الى بيت الاسرة بعد عامين. وواصلتا تعليمهما مثل فتيات ذلك الزمان في البيت تستمعان الى ابيهما يقرا افضل القصائد وتطالعان الكتب بالانكليزية والفرنسية. وعشقت جين اعمال شكسبير والدكتور جونسون وغولدسميث وكراب وكوبر. ويبدو انها كتبت الكثير قبل بلوغها سن السادسة عشرة. كانت فتاة مملوءة بالحيوية فاحبت الرقص والموسيقا. يقال انها كانت جذابة: طويلة القامة، نحيلة القد، وذات بشرة نقية رائقة وعينين عسليتين وشعر بني اجعد. وكانت تؤثر الاستماع الى حديث الاخرين على المشاركة فيه. كان من عادتها ان تكتب في غرفة الجلوس التي كان يشاركها فيها افراد الاسرة الاخرون. وكانت تقرأ ما تكتبه بصوت مرتفع لتسلية افراد الاسرة. وقد يكون هذا سببا في طلاقة اسلوبها وسهولته.
وتعرفت جين الى شاب احبته، ولكن لم تدم تلك العلاقة طويلا بسبب وفاة الشاب. وقد يكون الحزن عليه وعلى ابيها الذي توفي في ذلك الوقت ايضا سببا في انها لم تكتب شيئا بين عامي 1804 و1811.
ونشرت المؤلفة كتابها الاول (العقل والفهم) عام 1811. ثم نشرت (كبرياء وتحامل) 1813 و(مانسفيلد بارك) 1814 و(إيما) 1815 و(اقناع) 1817 و(نورثانجر آبي) 1818.
كتبت جين تقول ان الاديب لا يحتاج الى اكثر من ثلاث او اربع اسر في احدى القرى موضوعا لكتابته. وهذا بالفعل هو النطاق الذي اقتصرت عليه مادتها الروائية. وضعت هذه الاسر في منظور اجتماع واقتصادي، وابرزت جوانب الحياة التقليدية في الاسرة والمجتمع، وصورت سلوك الفرد نحو الاسرة والاصدقاء والمعارف ومن هم فوقه وتحته على السلم الاجتماعي. والسلوك هو الذي توليه جين الاهتمام الاكبر. إن على الفرد ان يتعلم كيف يتصرف مع غيره من افراد المجتمع وكيف يشغل حيزه المناسب في المجتمع. ففي (كبرياء وتحامل) مثلا يتعين على مستر دارسي ان يتخلص من عجرفته ويتعين على اليزابيث بينيت ان تتغلب على تحاملها قبل ان يتصرف الواحد منهما تصرفا مقبولا نحو الاخر ونحو افراد المجتمع. وفي (إيما) على ا لبطلة ان تمتنع عن التدخل في شؤون الاخرين قبل ان تغدو جزءا حقيقيا من الاحداث حولها. وفي (مانسفيد بارك) على فاني برايس ان تبلغ درجة عالية من النضج ومعرفة الذات وان تأخذ مكانها المناسب في المجتمع قبل ان تقترن بادموند برترام الذي هو الاخر يجب ان يتخلص من اوهامه الرومانسية وان يفتح عينيه على الحقيقة.
ان الادب الرومانسي يصرف قراءه عن الواقع وذلك بتركيزه على الاوهام والمبالغات. وسخرت جين من هذا النوع من الادب في رواية (الحب والصداقة) التي ألفتها عندما كانت في الرابعة عشرة من عمرها. وفي (نورثانجر آبي) ينتصر الحب الحقيقي بطريقة واقعية جدا وتتزوج البطلة كاثرين مورلاند من هنري تلني. ولا شك ان قراء الرواية الاوائل فوجئوا بهذه الواقعية.
وتنتهي جميع روايات جين اوستن نهاية تقليدية بزواج واحد او عدة زيجات. ولكن طريقة المؤلفة في الوصول الى الفصل الاخير من كل رواية حيث يتزوج البطل والبطلة بطريقة بعيدة كل البعد عن الرومانسية. ذلك ان النهاية السعيدة تتحقق بالانتصار على النفاق والاوهام الرومانسية وسوء الفهم والوصول الى الحقيقة والصدق والاتحاد السعيد ليس فقط مع الحبيب او الحبيبة ولكن ايضا مع المجتمع نفسه.
تصنف الروايات عموما في اربع فئات:
- رواية الحدث او المغامرة وفيها تتوالى الاحداث الواحد بعد الاخر تواليا سريعا. ويهتم الكاتب فيها بتصوير هذه الاحداث على حساب تصوير الشخصية. ومن امثلة هذا النوع روايات ولتر سكوت وهنري فيلدنغ وروبرت لويس ستيفنسون.
- رواية الشخصية وفيها يوظف الكاتب الحدث في القاء الضوء على جوانب مختلفة للشخصية. مثال ذلك (اوراق بيكويك) 1837 حيث نجد البطل ينتقل من مغامرة الى مغامرة دون ان يكون هناك رابط بينهما.
- رواية تيار الوعي وقد تكون روايات فيرجينيا وولف خير مثال لهذا النوع. ففي رواية (مسز دولاوي) 1925 تقدم المؤلفة الافكار والخواطر التي تمر بذهن امرأة متوجهة الى السوق لشراء ما يلزمها من اشياء لحفلة عيد ميلادها. وبهذه الطريقة تصور المؤلفة خيرات هذه المرأة في الماضي وآمالها ومخاوفها في المستقبل.
- الرواية الدراماتيكية وفيها يتمتع الحدث والشخصية باهمية متساوية تقريبا. ويمتزج الحدث والشخصية بحيث يصعب التفكير في احدهما بمعزل عن الاخر. وتنتمي اعمال جين كلها الى هذه الفئة الاخيرة.
تصور جين في رواية (اقناع) البيئة التي عاشب فيها حيث ينتمي معظم الناس تقريبا الى الطبقة الارستقراطية الدنيا او الطبقة الوسطى العليا ويتمتعون بدخل طيب ويقضون قسما كبيرا من اوقاتهم في تبادل الزيارات. ونقرأ في الرواية قصة آن إليوت وهي فتاة من اسرة كبيرة يقنعها اهلها بالامتناع عن الزواج من ضابط في البحرية كانت على علاقة به. ولكنها تندم على هذا القرار وتظل دون زواج في بيت ابيها.
وآن اليوت هي اكثر بطلات جين رقة وعذوبة وتهذيبا. نجدها في مستهل الرواية وقد بلغت السابعة والعشرين من عمرها. وهذه السن كانت تعني في القرن التامن عشر ان الفتاة قد جاوزت مرحلة الشباب ومنشغلة الان في الاهتمام باطفال اخوتها والعناية بالمرضى من افراد الاسرة ومصاحبة كبار السن منهم. وقد قامت جين نفسها بهذا الدور في اسرتها. ولذلك فهي تصور آن في كثير من التفهم والتعاطف. ولكن آن اقل حظا من الكاتبة لان اباها واختيها لا يقدرونها التقدير الذي هي جديرة به، ويتوقعون منها ان تنفذ رغباتهم بالسرعة الممكنة. ويشعر القارئ بكثير من الحب والتقدير نحو هذه البطلة الطيبة والذكية. فعلى الرغم من انها تعشق الضابط وينترويرث يتمكن اهلها من اقناعها بالعزوف عن الزواج منه، ولكننها تظل على حبها واخلاصها له وترفض الزواج من غيره. وتبدي استعدادها لقبول قدرها بان تظل دون زواج. وهو وضع لم تكن اي امرأة تحسد عليه في ذلك الزمان. ولكنها تتزوج من وينترويرث في آخر الرواية.
وقد اقتبست هذه الرواية اقتباسا موفقا في سلسلة اذاعية. وروايات جين اوستن تناسب الاقتباس الاذاعي لانها تركز على العلاقات بين الشخصيات وتهتم بتصوير الجو العام. ورواية (اقناع) تناسب مسلسلة اذاعية يومية لانها ترسم حياة الشخصيات يوما بيوم وتصور ما يحدث لهذه الشخصيات من خيرات صغيرة. ولكن جين من البراعة والقدرة بحيث تجعل هذه الخبرات ممتعة وذات معنى.
واقتبست الرواية ايضا في المسرح نظرا الى ما فيها من توتر عاطفي ونظرا الى ان الحوار فيها من الجودة بحيث يمكن تحويل معظمه الى نص مسرحي دون تغيير يذكر.
ولكن السينما قد تكون اقدر على نقل الرواية الى المشاهد من الاذاعة والمسرح. فالقصور الفخمة في القرن الثامن عشر وامتداد المساحات الخضراء والحدائق الغناء وجمال مدينة باث التي كانت في اوج مجدها - كل ذلك يشكل خلفية جميلة ومعبرة للقصة. اضف الى ذلك ان الحبكة في الرواية بسيطة وممتعة وان الشخصيات مصورة تصويرا محددا ودقيقا وان هناك الكثير من الظرف والدعابة. وهذه كلها عوامل تجعل الفيلم السينمائي عملا ناجحا.
كتبت جين في احدى رسائلها تقول: لا يمكن للفنان ان يكون مهملا. وهذه اشارة الى الاهداف التي سعت الى تحقيقها في كتابة اعمالها: الدقة والبساطة والاحكام. تلك هي الخصائص التي اولتها جين اهتمامها. وتلك هي الخصائص التي نجدها في اعمالها. وربما كانت دراستها المتأنية المستفيضة لكتاب القرن الثامن عشر وخاصة الدكتور جونسون قد اقنعتها بضرورة التزام الكاتب بالوضوح. ذلك ان قراء القرن الثامن عشر طلبوا الوضوح من كتابهم قبل اي شيء آخر. قال الدكتور جونسون: الكلمة المناسبة في المكان المناسب هي السر في الاسلوب الادبي الرفيع.
والتزمت جين في اول عهدها بالكتابة بالجمل القصيرة والبسيطة وكأنها كانت تشك في قدرة الجمل المعقدة على الوصول الى وجدان القارئ كما في رواية (كبرياء وتحامل) ولكن عندما تطورت قدرتها على الكتابة وتنامت ادركت ان من الممكن الربط بين الكلمات في جمل معقدة مع الحفاظ على الوضوح والدقة.
واتقنت جين التحكم بوتيرة الحدث وعرفت متى تلجأ الى الحوار ومتى تصف الحدث. وبرعت قبل كل شيء في رسم الشخصية بدقة بالغة.
يقال احيانا انه لا شيء يحدث في روايات جين اوستن. ويذكر النقاد انه على الرغم من ان الكاتبة عاشت في زمن الثورة الفرنسية وفي زمن حروب زلزلت اوربة باكمها وفي زمن خشيت فيه انكلترة غزوا فرنسيا الا ان الكاتبة لم تشر الى اي من ذلك قط. وقد حاول بعضهم اقناعها بان تكتب رواية تاريخية ولكنها رفضت. ذلك انها كانت كاتبة ذكية عرفت حدودها ولم تتجاوزها. ولكنها وقفت داخل تلك الحدود وقفة شامخة. لقد حققت ما يشبه الكمال في اعمالها. والكثير من ذلك مرده الى اسلوبها الذي طورته وصقلته بصبر واناة.
zedhakim@yahoo.co.uk
لندن - بريطانيا
على الرغم من ان بدايات الرواية في الادب الانكليزي تعود الى القرن السادس عشر فان هذا النوع الادبي لم يكتمل وينضج الا في القرن الثامن عشر. والف عدد من الادباء في عصر الملكة اليزابيث الاولى من امثال فيليب سيدني وتوماس لودج وروبرت غرين قصصا ممتعة عن الملوك ورجال البلاط، ولكن لا يمكن ان نسمي هذه القصص روايات بالمعنى الفني للكلمة.
وجاء في القرن السابع عشر كتاب آخرون من امثال جون بنيان الذي روى في كتابه الشهير (رحلة الحاج) 1678 قصصا مثيرة وصور بيئات واقعية فساهم بذلك في تطور الفن الروائي.
وجاء في اوائل القرن الثامن عشر دانييل ديفو وجوناثان سويفت فقدم كل منهما مساهمته في تمهيد الطريق امام شكل روائي ناضج. وظهرت اخيرا عام 1740 رواية (باميلا) لساميويل ريتشاردسون فنضج بها النوع الادبي الذي نطلق عليه اليوم اسم الرواية. وكتبت رواية (باميلا) في شكل رسائل. وكتب كثير من الروايات اللاحقة بالاسلوب نفسه. وراج هذا النوع من الروايات رواجا كبيرا مما دفع ريتشاردسون الى كتابة روايات اخرى مثل (كلاريسا) 1748، وهي رواية تصور اشخاصا عاديين كالناس الذين نصادفهم في حياتنا اليومية. وجاء بعد ذلك هنري فيلدنغ الذي حاول في روايته (جوزيف اندروز) 1742 السخرية من عمل ريتشاردسون.
واعجبت الاديبات في ذلك الوقت بهذا النوع الادبي اعجابا خاصا فألفت فاني بيرني روايتي (ايفيلينا) و(سيسيليا). وجاءت بعد بيرني كل من ماريا ادجوورث وآن رادكليف وغيرهما. واهتمت هؤلاء الاديبات بتصوير اشخاص حقيقيين في ظروف حياتية واقعية.
في هذا الوسط وجدت جين اوستن نفسها، وكتبت اعمالها. ومن الاسباب التي كانت وراء اقترابها من الكمال اقترابا كبيرا هو انها قرأت اعمال من سبقها من الكتاب قراءة متأنية ذكية وتعلمت منها الكثير.
ولدت جين اوستن (1775-1817) في بلدة ستيفنسون في مقاطعة هامبشير بجنوب انكلترة حيث كان والدها جورج اوستن كاهنا. وفي هذه البلدة عاشت طفولتها وصباها. حظيت بتشجيع كبير من افراد اسرتها على الكتابة، حتى ان اباها راسل احد الناشرين واوصاه بابنته. وارسلت الاسرة جين واختها كاساندرا عام 1782 الى مدرسة داخلية في ردنغ ولكنهما عادتا الى بيت الاسرة بعد عامين. وواصلتا تعليمهما مثل فتيات ذلك الزمان في البيت تستمعان الى ابيهما يقرا افضل القصائد وتطالعان الكتب بالانكليزية والفرنسية. وعشقت جين اعمال شكسبير والدكتور جونسون وغولدسميث وكراب وكوبر. ويبدو انها كتبت الكثير قبل بلوغها سن السادسة عشرة. كانت فتاة مملوءة بالحيوية فاحبت الرقص والموسيقا. يقال انها كانت جذابة: طويلة القامة، نحيلة القد، وذات بشرة نقية رائقة وعينين عسليتين وشعر بني اجعد. وكانت تؤثر الاستماع الى حديث الاخرين على المشاركة فيه. كان من عادتها ان تكتب في غرفة الجلوس التي كان يشاركها فيها افراد الاسرة الاخرون. وكانت تقرأ ما تكتبه بصوت مرتفع لتسلية افراد الاسرة. وقد يكون هذا سببا في طلاقة اسلوبها وسهولته.
وتعرفت جين الى شاب احبته، ولكن لم تدم تلك العلاقة طويلا بسبب وفاة الشاب. وقد يكون الحزن عليه وعلى ابيها الذي توفي في ذلك الوقت ايضا سببا في انها لم تكتب شيئا بين عامي 1804 و1811.
ونشرت المؤلفة كتابها الاول (العقل والفهم) عام 1811. ثم نشرت (كبرياء وتحامل) 1813 و(مانسفيلد بارك) 1814 و(إيما) 1815 و(اقناع) 1817 و(نورثانجر آبي) 1818.
كتبت جين تقول ان الاديب لا يحتاج الى اكثر من ثلاث او اربع اسر في احدى القرى موضوعا لكتابته. وهذا بالفعل هو النطاق الذي اقتصرت عليه مادتها الروائية. وضعت هذه الاسر في منظور اجتماع واقتصادي، وابرزت جوانب الحياة التقليدية في الاسرة والمجتمع، وصورت سلوك الفرد نحو الاسرة والاصدقاء والمعارف ومن هم فوقه وتحته على السلم الاجتماعي. والسلوك هو الذي توليه جين الاهتمام الاكبر. إن على الفرد ان يتعلم كيف يتصرف مع غيره من افراد المجتمع وكيف يشغل حيزه المناسب في المجتمع. ففي (كبرياء وتحامل) مثلا يتعين على مستر دارسي ان يتخلص من عجرفته ويتعين على اليزابيث بينيت ان تتغلب على تحاملها قبل ان يتصرف الواحد منهما تصرفا مقبولا نحو الاخر ونحو افراد المجتمع. وفي (إيما) على ا لبطلة ان تمتنع عن التدخل في شؤون الاخرين قبل ان تغدو جزءا حقيقيا من الاحداث حولها. وفي (مانسفيد بارك) على فاني برايس ان تبلغ درجة عالية من النضج ومعرفة الذات وان تأخذ مكانها المناسب في المجتمع قبل ان تقترن بادموند برترام الذي هو الاخر يجب ان يتخلص من اوهامه الرومانسية وان يفتح عينيه على الحقيقة.
ان الادب الرومانسي يصرف قراءه عن الواقع وذلك بتركيزه على الاوهام والمبالغات. وسخرت جين من هذا النوع من الادب في رواية (الحب والصداقة) التي ألفتها عندما كانت في الرابعة عشرة من عمرها. وفي (نورثانجر آبي) ينتصر الحب الحقيقي بطريقة واقعية جدا وتتزوج البطلة كاثرين مورلاند من هنري تلني. ولا شك ان قراء الرواية الاوائل فوجئوا بهذه الواقعية.
وتنتهي جميع روايات جين اوستن نهاية تقليدية بزواج واحد او عدة زيجات. ولكن طريقة المؤلفة في الوصول الى الفصل الاخير من كل رواية حيث يتزوج البطل والبطلة بطريقة بعيدة كل البعد عن الرومانسية. ذلك ان النهاية السعيدة تتحقق بالانتصار على النفاق والاوهام الرومانسية وسوء الفهم والوصول الى الحقيقة والصدق والاتحاد السعيد ليس فقط مع الحبيب او الحبيبة ولكن ايضا مع المجتمع نفسه.
تصنف الروايات عموما في اربع فئات:
- رواية الحدث او المغامرة وفيها تتوالى الاحداث الواحد بعد الاخر تواليا سريعا. ويهتم الكاتب فيها بتصوير هذه الاحداث على حساب تصوير الشخصية. ومن امثلة هذا النوع روايات ولتر سكوت وهنري فيلدنغ وروبرت لويس ستيفنسون.
- رواية الشخصية وفيها يوظف الكاتب الحدث في القاء الضوء على جوانب مختلفة للشخصية. مثال ذلك (اوراق بيكويك) 1837 حيث نجد البطل ينتقل من مغامرة الى مغامرة دون ان يكون هناك رابط بينهما.
- رواية تيار الوعي وقد تكون روايات فيرجينيا وولف خير مثال لهذا النوع. ففي رواية (مسز دولاوي) 1925 تقدم المؤلفة الافكار والخواطر التي تمر بذهن امرأة متوجهة الى السوق لشراء ما يلزمها من اشياء لحفلة عيد ميلادها. وبهذه الطريقة تصور المؤلفة خيرات هذه المرأة في الماضي وآمالها ومخاوفها في المستقبل.
- الرواية الدراماتيكية وفيها يتمتع الحدث والشخصية باهمية متساوية تقريبا. ويمتزج الحدث والشخصية بحيث يصعب التفكير في احدهما بمعزل عن الاخر. وتنتمي اعمال جين كلها الى هذه الفئة الاخيرة.
تصور جين في رواية (اقناع) البيئة التي عاشب فيها حيث ينتمي معظم الناس تقريبا الى الطبقة الارستقراطية الدنيا او الطبقة الوسطى العليا ويتمتعون بدخل طيب ويقضون قسما كبيرا من اوقاتهم في تبادل الزيارات. ونقرأ في الرواية قصة آن إليوت وهي فتاة من اسرة كبيرة يقنعها اهلها بالامتناع عن الزواج من ضابط في البحرية كانت على علاقة به. ولكنها تندم على هذا القرار وتظل دون زواج في بيت ابيها.
وآن اليوت هي اكثر بطلات جين رقة وعذوبة وتهذيبا. نجدها في مستهل الرواية وقد بلغت السابعة والعشرين من عمرها. وهذه السن كانت تعني في القرن التامن عشر ان الفتاة قد جاوزت مرحلة الشباب ومنشغلة الان في الاهتمام باطفال اخوتها والعناية بالمرضى من افراد الاسرة ومصاحبة كبار السن منهم. وقد قامت جين نفسها بهذا الدور في اسرتها. ولذلك فهي تصور آن في كثير من التفهم والتعاطف. ولكن آن اقل حظا من الكاتبة لان اباها واختيها لا يقدرونها التقدير الذي هي جديرة به، ويتوقعون منها ان تنفذ رغباتهم بالسرعة الممكنة. ويشعر القارئ بكثير من الحب والتقدير نحو هذه البطلة الطيبة والذكية. فعلى الرغم من انها تعشق الضابط وينترويرث يتمكن اهلها من اقناعها بالعزوف عن الزواج منه، ولكننها تظل على حبها واخلاصها له وترفض الزواج من غيره. وتبدي استعدادها لقبول قدرها بان تظل دون زواج. وهو وضع لم تكن اي امرأة تحسد عليه في ذلك الزمان. ولكنها تتزوج من وينترويرث في آخر الرواية.
وقد اقتبست هذه الرواية اقتباسا موفقا في سلسلة اذاعية. وروايات جين اوستن تناسب الاقتباس الاذاعي لانها تركز على العلاقات بين الشخصيات وتهتم بتصوير الجو العام. ورواية (اقناع) تناسب مسلسلة اذاعية يومية لانها ترسم حياة الشخصيات يوما بيوم وتصور ما يحدث لهذه الشخصيات من خيرات صغيرة. ولكن جين من البراعة والقدرة بحيث تجعل هذه الخبرات ممتعة وذات معنى.
واقتبست الرواية ايضا في المسرح نظرا الى ما فيها من توتر عاطفي ونظرا الى ان الحوار فيها من الجودة بحيث يمكن تحويل معظمه الى نص مسرحي دون تغيير يذكر.
ولكن السينما قد تكون اقدر على نقل الرواية الى المشاهد من الاذاعة والمسرح. فالقصور الفخمة في القرن الثامن عشر وامتداد المساحات الخضراء والحدائق الغناء وجمال مدينة باث التي كانت في اوج مجدها - كل ذلك يشكل خلفية جميلة ومعبرة للقصة. اضف الى ذلك ان الحبكة في الرواية بسيطة وممتعة وان الشخصيات مصورة تصويرا محددا ودقيقا وان هناك الكثير من الظرف والدعابة. وهذه كلها عوامل تجعل الفيلم السينمائي عملا ناجحا.
كتبت جين في احدى رسائلها تقول: لا يمكن للفنان ان يكون مهملا. وهذه اشارة الى الاهداف التي سعت الى تحقيقها في كتابة اعمالها: الدقة والبساطة والاحكام. تلك هي الخصائص التي اولتها جين اهتمامها. وتلك هي الخصائص التي نجدها في اعمالها. وربما كانت دراستها المتأنية المستفيضة لكتاب القرن الثامن عشر وخاصة الدكتور جونسون قد اقنعتها بضرورة التزام الكاتب بالوضوح. ذلك ان قراء القرن الثامن عشر طلبوا الوضوح من كتابهم قبل اي شيء آخر. قال الدكتور جونسون: الكلمة المناسبة في المكان المناسب هي السر في الاسلوب الادبي الرفيع.
والتزمت جين في اول عهدها بالكتابة بالجمل القصيرة والبسيطة وكأنها كانت تشك في قدرة الجمل المعقدة على الوصول الى وجدان القارئ كما في رواية (كبرياء وتحامل) ولكن عندما تطورت قدرتها على الكتابة وتنامت ادركت ان من الممكن الربط بين الكلمات في جمل معقدة مع الحفاظ على الوضوح والدقة.
واتقنت جين التحكم بوتيرة الحدث وعرفت متى تلجأ الى الحوار ومتى تصف الحدث. وبرعت قبل كل شيء في رسم الشخصية بدقة بالغة.
يقال احيانا انه لا شيء يحدث في روايات جين اوستن. ويذكر النقاد انه على الرغم من ان الكاتبة عاشت في زمن الثورة الفرنسية وفي زمن حروب زلزلت اوربة باكمها وفي زمن خشيت فيه انكلترة غزوا فرنسيا الا ان الكاتبة لم تشر الى اي من ذلك قط. وقد حاول بعضهم اقناعها بان تكتب رواية تاريخية ولكنها رفضت. ذلك انها كانت كاتبة ذكية عرفت حدودها ولم تتجاوزها. ولكنها وقفت داخل تلك الحدود وقفة شامخة. لقد حققت ما يشبه الكمال في اعمالها. والكثير من ذلك مرده الى اسلوبها الذي طورته وصقلته بصبر واناة.
zedhakim@yahoo.co.uk
لندن - بريطانيا