هو الذي كتب يقول: "حين كنت صغيرا فان مصير اي شخص من اشخاص الكتاب المقدس لم يكن يبدو لي اكثر بؤسا من نوح بسبب الطوفان الذي قسره على ان يلزم سفينته اربعين يوما. ولما اصبحت فيما بعد رهن غرفتي اياما طويلة عرفت حينئذ انه لم يكن في ميسور نوح ان يرى العالم جيدا الا من سفينته على كونها مغلقة وكون الارض ملفعة بالليل."
ولد بروست Marcel Proust 1871 – 1922 في باريس لاسرة ثرية. كان ابوه ادريان بروست استاذا في كلية الطب بجامعة باريس. وكانت امه جين ويل امرأة مثقفة وذكية وقفت حياتها على خدمة اسرتها وخاصة ابنها مارسيل الذي كان شديد التعلق بها. واصيب الصبي بمرض الربو الذي لازمه طيلة حياته ووضع قيودا على نشاطاته ونشاطات الاسرة كلها. فازداد اعتماده على امه التي اغدقت عليه الكثير من الحنان والعطف. وقد روى في مطلع روايته (بحثا عن الزمن الضائع) كيف ان امه تعودت ان تقبله قبلة المساء كل ليلة قبل ان يستسلم للنوم. فاذا انشغلت الام ذات مساء ظل الصبي مارسيل يتقلب في فراشه قلقا متألما منتظرا قدوم امه. حتى اذا جاءت وكفكفت دموعه بحنان وقبلته نام مطمئنا سعيدا.
ولم تكن حياة بروست في مطلع شبابه حياة زاخرة بالاحداث. انهى دراسته في معهد كوندورسه بتفوق. وحاول ابوه ان يغريه بالانضمام الى السلك الدبلوماسي فلم يفلح في محاولته. فقد كان بروست شديد التعلق بامه وبباريس وبالمجتمع الفرنسي. وفي المدرسة تتلمذ على يد الفونس دارلو وهو فيلسوف مثالي في التقليد الكانتي واتخذ بروست موقفا مماثلا لموقف استاذه من حيث رفضه مادية القرن التاسع عشر ومن حيث ايمانه بقدرة العقل البشري على السمو والتعالي. وتأثر بكتاب الفيلسوف الامريكي رالف والدو امرسون (رجال نموذجيون) وكتاب الفيلسوف الانكليزي توماس كارليل (في الابطال وتقديسهم) وفتح هذان الكتابان الطريق امامه الى افكار جون رسكين.
وانضم بروست الى جماعة من الشبان المتفوقين والطموحين واسهم في كتابة مقالات نشرت في مجلات ودوريات كانوا يشرفون عليها. وارتاد صالونات باريس الشهيرة التي كان يترددعليها كبار الادباء والفنانين والسياسيين. وكان من بين من تعرف اليهم في هذه الصالونات الكاتب الفرنسي اناتول فرانس والفيلسوف الفرنسي هنري بيرغسون. ولم يبخل المجتمع الارستقراطي على بروست فقدم له كل ما يحتاج اليه من صداقات تعزز مكانته وشهرته الادبية.
وهفا قلب بروست الى فتيات كثيرات في ذلك المجتمع الراقي وذاق حلاوة الحب ومرارته وانزلق في مهاوي الانحراف. وخلف ذلك ندما شديدا في نفسه صوره ادق تصوير في روايته العظيمة (بحثا على الزمن الضائع). وهذه التجارب النفسية والعاطفية المختلفة شكلت ذخيرة مكنته من الغوص في اعماق النفس البشرية وتحليل خباياها واضاءة الجوانب المظلمة منها. في الوقت نفسه اكتسب معرفة واسعة في الفنون. فقد بلغ سن النضج في منتصف التسعينيات، وهي سنوات ما بعد الانطباعية وما بعد الفاغنرية وما بعد الرمزية. وكان الادب الفرنسي في ذلك الحين مترددا بين الانكباب على التقليد القديم ومواصلة التجريب والتجديد. وفي عام 1896 نشر بروست (المسرات والايام) وهي مجموعة من القصص القصيرة والقصائد والاستكشاف. وكان قد نشر معظمها في دوريات صغيرة بين عامي 1892 و1896. ولم تلق هذه المجموعة اقبالا واسعا من جمهور القراء مع ان اناتول فرانس كتب مقدمة لها. ولم ينشر بروست شيئا بعد ذلك حتى عام 1913 باستثناء عدد من المقالات وترجمة لكتابين لجون رسكين.
وكانت وفاة ابيه عام 1903 ووفاة امه عام 1905 صدمة كبيرة فكتب الى صديق له يقول: لقد اضاعت حياتي من الان هدفها وعذوبتها وحبها الاوحد. لقد فقدت تلك التي كانت رعايتها المتصلة تمنحني في امن وحنان شهد الحياة. وما لبث ان اكتسب سمعة بانه غريب الاطوار.
ولكن بروست في الحقيقة كان رجلا يعرف امكاناته. ويعرف ما يريد تحقيقه. فكان يعمل بصمت واناة في الاعداد لعمل عظيم. واكتشفت مخطوطة روايته (جان سانتوي) وهي رواية ناقصة من الف صفحة في الخمسينيات ونشرت عام 1952. واكتشف كذلك مخطوطات لمقالات عن رسامين وكتاب. وتكمن اهمية بروست من حيث هو روائي في انه صور مجتمعا في طور التحول، واضاف بعدا جديدا للعمل الروائي. فالروائيون الذين سبقوه لم يصوروا عالم شخصياتهم الداخلي بالعمق والشمولية اللذين نجدهما في اعماله. ومع انه لم يقرأ اعمال فرويد الا انه استطاع ان يغوص في اعماق نفسيات شخصياته، وهي اعماق لم يصل اليها احد قبله. ودراسته للغيرة ليس لها مثيل في الادب العالمي. اضف الى ذلك انه خرج على قوالب الرواية في القرن التاسع عشر عندما كان الهدف من الكتابة الروائية تصوير الحياة تصويرا منظما وعقلانيا. فجعل الذاكرة مبدعة الى درجة انها حلت محل الخيال كقوة محركة في العمل الفني. وتستطيع الذاكرة في اعماله ان تمسك بالزمن المنقضي وان تسترجع احاسيس الفرح في سنوات الطفولة عندما كان يشعر بالامن والاطمئنان بفضل رعاية امه واخلاصها له.
ومن اشهر هذه الذكريات الحسية في كتابه (بحثا عن الزمن الضائع) انه في يوم من ايام الشتاء الباردة قدمت له امه قدحا من الشاي مع قطعة من الحلوى تدعى "المادلين" فغمس قطعة الحلوى في الشاي. ويمضي بروست الى القول: وفجأة عادت الذكرى. فقد كان مذاق قطعة الحلوى كمذاق قطعة الحلوى التي كانت عمتي ليوني تعطيني اياها في صباح ايام الاحد بعد ان تغمسها اولا في قدح الشاي العادي او الشاي الذي له مذاق زهر الليمون الذي كانت تحتسيه. وسرعان ما تذكرت البيت الرمادي القديم الواقع على جانب الشارع حيث كانت حجرتها منتصبة كأنها خشبة مسرح ومطلة على الحديقة. . . ومع البيت تذكرت البلدة من الصباح وحتى الليل وفي جميع احوال الطقس. وهكذا وفي تلك اللحظة بدت جميع الازهار في حديقتنا وفي حديقة مسيو سوان واوراق اللبلاب وجميع القرويين الطيبين واكواخهم الصغيرة والكنيسة وكل ما في بلدة كومبري وما حولها - كلها بدت في قدح الشاي الذي كنت احتسيه.
وهكذا استطاع بروست ان يحقق انتصارا على الزمن وبالتالي على الموت من خلال الفن. ان بروست يفتت مشاعر الحب والغيرة والطموح والحزن الى عناصرها الاولية ويعيد تجميعها في ترتيب جديد. وكان بروست يعتقد ان الواقع في عملية تحول دائمة ومستمرة، وان مرور الزمن لا يغير فقط النقطة التي ينظر منها المرء الى الواقع ولكن يغير ايضا طبيعة الواقع نفسه. واكتشف اخيرا ان الواقع ليس خارجيا ولكنه مختزن في اعمال الذاكرة اللاشعوية للانسان. وهناك يحتفظ بالواقع بمعزل عن الزمن. والفنانون فقط هم القادرون على كشف هذا الواقع للجنس البشري بفضل حساسيتهم المرهفة وقدرتهم النادرة على الغوص بعيدا في ذاكرتهم اللاشعورية.
zedhakim@yahoo.co.uk
لمدن - بريطانيا
ولد بروست Marcel Proust 1871 – 1922 في باريس لاسرة ثرية. كان ابوه ادريان بروست استاذا في كلية الطب بجامعة باريس. وكانت امه جين ويل امرأة مثقفة وذكية وقفت حياتها على خدمة اسرتها وخاصة ابنها مارسيل الذي كان شديد التعلق بها. واصيب الصبي بمرض الربو الذي لازمه طيلة حياته ووضع قيودا على نشاطاته ونشاطات الاسرة كلها. فازداد اعتماده على امه التي اغدقت عليه الكثير من الحنان والعطف. وقد روى في مطلع روايته (بحثا عن الزمن الضائع) كيف ان امه تعودت ان تقبله قبلة المساء كل ليلة قبل ان يستسلم للنوم. فاذا انشغلت الام ذات مساء ظل الصبي مارسيل يتقلب في فراشه قلقا متألما منتظرا قدوم امه. حتى اذا جاءت وكفكفت دموعه بحنان وقبلته نام مطمئنا سعيدا.
ولم تكن حياة بروست في مطلع شبابه حياة زاخرة بالاحداث. انهى دراسته في معهد كوندورسه بتفوق. وحاول ابوه ان يغريه بالانضمام الى السلك الدبلوماسي فلم يفلح في محاولته. فقد كان بروست شديد التعلق بامه وبباريس وبالمجتمع الفرنسي. وفي المدرسة تتلمذ على يد الفونس دارلو وهو فيلسوف مثالي في التقليد الكانتي واتخذ بروست موقفا مماثلا لموقف استاذه من حيث رفضه مادية القرن التاسع عشر ومن حيث ايمانه بقدرة العقل البشري على السمو والتعالي. وتأثر بكتاب الفيلسوف الامريكي رالف والدو امرسون (رجال نموذجيون) وكتاب الفيلسوف الانكليزي توماس كارليل (في الابطال وتقديسهم) وفتح هذان الكتابان الطريق امامه الى افكار جون رسكين.
وانضم بروست الى جماعة من الشبان المتفوقين والطموحين واسهم في كتابة مقالات نشرت في مجلات ودوريات كانوا يشرفون عليها. وارتاد صالونات باريس الشهيرة التي كان يترددعليها كبار الادباء والفنانين والسياسيين. وكان من بين من تعرف اليهم في هذه الصالونات الكاتب الفرنسي اناتول فرانس والفيلسوف الفرنسي هنري بيرغسون. ولم يبخل المجتمع الارستقراطي على بروست فقدم له كل ما يحتاج اليه من صداقات تعزز مكانته وشهرته الادبية.
وهفا قلب بروست الى فتيات كثيرات في ذلك المجتمع الراقي وذاق حلاوة الحب ومرارته وانزلق في مهاوي الانحراف. وخلف ذلك ندما شديدا في نفسه صوره ادق تصوير في روايته العظيمة (بحثا على الزمن الضائع). وهذه التجارب النفسية والعاطفية المختلفة شكلت ذخيرة مكنته من الغوص في اعماق النفس البشرية وتحليل خباياها واضاءة الجوانب المظلمة منها. في الوقت نفسه اكتسب معرفة واسعة في الفنون. فقد بلغ سن النضج في منتصف التسعينيات، وهي سنوات ما بعد الانطباعية وما بعد الفاغنرية وما بعد الرمزية. وكان الادب الفرنسي في ذلك الحين مترددا بين الانكباب على التقليد القديم ومواصلة التجريب والتجديد. وفي عام 1896 نشر بروست (المسرات والايام) وهي مجموعة من القصص القصيرة والقصائد والاستكشاف. وكان قد نشر معظمها في دوريات صغيرة بين عامي 1892 و1896. ولم تلق هذه المجموعة اقبالا واسعا من جمهور القراء مع ان اناتول فرانس كتب مقدمة لها. ولم ينشر بروست شيئا بعد ذلك حتى عام 1913 باستثناء عدد من المقالات وترجمة لكتابين لجون رسكين.
وكانت وفاة ابيه عام 1903 ووفاة امه عام 1905 صدمة كبيرة فكتب الى صديق له يقول: لقد اضاعت حياتي من الان هدفها وعذوبتها وحبها الاوحد. لقد فقدت تلك التي كانت رعايتها المتصلة تمنحني في امن وحنان شهد الحياة. وما لبث ان اكتسب سمعة بانه غريب الاطوار.
ولكن بروست في الحقيقة كان رجلا يعرف امكاناته. ويعرف ما يريد تحقيقه. فكان يعمل بصمت واناة في الاعداد لعمل عظيم. واكتشفت مخطوطة روايته (جان سانتوي) وهي رواية ناقصة من الف صفحة في الخمسينيات ونشرت عام 1952. واكتشف كذلك مخطوطات لمقالات عن رسامين وكتاب. وتكمن اهمية بروست من حيث هو روائي في انه صور مجتمعا في طور التحول، واضاف بعدا جديدا للعمل الروائي. فالروائيون الذين سبقوه لم يصوروا عالم شخصياتهم الداخلي بالعمق والشمولية اللذين نجدهما في اعماله. ومع انه لم يقرأ اعمال فرويد الا انه استطاع ان يغوص في اعماق نفسيات شخصياته، وهي اعماق لم يصل اليها احد قبله. ودراسته للغيرة ليس لها مثيل في الادب العالمي. اضف الى ذلك انه خرج على قوالب الرواية في القرن التاسع عشر عندما كان الهدف من الكتابة الروائية تصوير الحياة تصويرا منظما وعقلانيا. فجعل الذاكرة مبدعة الى درجة انها حلت محل الخيال كقوة محركة في العمل الفني. وتستطيع الذاكرة في اعماله ان تمسك بالزمن المنقضي وان تسترجع احاسيس الفرح في سنوات الطفولة عندما كان يشعر بالامن والاطمئنان بفضل رعاية امه واخلاصها له.
ومن اشهر هذه الذكريات الحسية في كتابه (بحثا عن الزمن الضائع) انه في يوم من ايام الشتاء الباردة قدمت له امه قدحا من الشاي مع قطعة من الحلوى تدعى "المادلين" فغمس قطعة الحلوى في الشاي. ويمضي بروست الى القول: وفجأة عادت الذكرى. فقد كان مذاق قطعة الحلوى كمذاق قطعة الحلوى التي كانت عمتي ليوني تعطيني اياها في صباح ايام الاحد بعد ان تغمسها اولا في قدح الشاي العادي او الشاي الذي له مذاق زهر الليمون الذي كانت تحتسيه. وسرعان ما تذكرت البيت الرمادي القديم الواقع على جانب الشارع حيث كانت حجرتها منتصبة كأنها خشبة مسرح ومطلة على الحديقة. . . ومع البيت تذكرت البلدة من الصباح وحتى الليل وفي جميع احوال الطقس. وهكذا وفي تلك اللحظة بدت جميع الازهار في حديقتنا وفي حديقة مسيو سوان واوراق اللبلاب وجميع القرويين الطيبين واكواخهم الصغيرة والكنيسة وكل ما في بلدة كومبري وما حولها - كلها بدت في قدح الشاي الذي كنت احتسيه.
وهكذا استطاع بروست ان يحقق انتصارا على الزمن وبالتالي على الموت من خلال الفن. ان بروست يفتت مشاعر الحب والغيرة والطموح والحزن الى عناصرها الاولية ويعيد تجميعها في ترتيب جديد. وكان بروست يعتقد ان الواقع في عملية تحول دائمة ومستمرة، وان مرور الزمن لا يغير فقط النقطة التي ينظر منها المرء الى الواقع ولكن يغير ايضا طبيعة الواقع نفسه. واكتشف اخيرا ان الواقع ليس خارجيا ولكنه مختزن في اعمال الذاكرة اللاشعوية للانسان. وهناك يحتفظ بالواقع بمعزل عن الزمن. والفنانون فقط هم القادرون على كشف هذا الواقع للجنس البشري بفضل حساسيتهم المرهفة وقدرتهم النادرة على الغوص بعيدا في ذاكرتهم اللاشعورية.
zedhakim@yahoo.co.uk
لمدن - بريطانيا