د. زياد الحكيم - دي إتش لورانس

هو واحد من اكثر كتاب القرن العشرين موهبة وتأثيرا. أسهم مع إي إم فورستر وجيمس جويس ودوروثي ريتشاردسون وفيرجينيا وولف في وضع اسس فن الرواية الانكليزية الحديثة. ورواياته مليئة بمشاهد حسية جميلة وبنظرات تغوص في اعماق النفس البشرية.

ولد ديفيد هربيرت لورانس 1885-1930 D. H. Lawrence بشمال انكلترة في قرية ايستوود المعروفة بكثرة مناجم الفحم فيها. وهي تبعد نحو خمسة عشر كيلومترا من مدينة نوتينغهام التي توسعت اليوم ولكنها كانت في اواخر القرن التاسع عشر منطقة زراعية وصناعية محدودة. كان ابوه آرثر لورانس عامل منجم. وكانت امه معلمة في قرية سيرنس في مقاطعة اسكس قبل ان تحضر الى نوتنغهام وتتزوج من آرثر لورانس. وكان الزوجان يتميزان بسمات شخصية متباينة كما هو حال مستر ومسز موريل في رواية (أبناء وعشاق) 1913. كان آرثر رجلا وسيما ذا لحية سوداء. وكان يتقن الرقص، وكان متحدثا جذابا بالرغم من انه لم يتلق شيئا من التعليم وظل اميا طوال حياته. وكان كغيره من عمال المناجم يكثر من الشراب. وكان ذلك سببا في الشجار المستمر مع زوجته. وكانت الام من طبقة مختلفة كل الاختلاف. كان ابوها رجلا شديد التدين ومعروفا بمواعظه الحماسية. وورثت ابنته جانبا من شخصيته. ومع انها تزوجت من عامل منجم الا انها حرصت على ان لا تختلط بطبقة العمال.

ورزق الزوجان ثلاثة ابناء وبنتين. ولكن الام اصرت على ان لا يعيش ابناؤها حياة طبقة العمال. كان الابن الاكبر ارنست ذكيا ورياضيا. وحقق نجاحا في التجارة. ولكنه مر بتجربة عاطفية غير ناجحة كما يفعل وليام في رواية (ابناء وعشاق). وتوفي وهو في الثالثة والعشرين من عمره. وبعد ذلك ركزت الام اهتمامها على كاتبنا ديفيد هربيرت الذي فاز بمنحة اهلته للالتحاق بافضل مدرسة ثانوية في المدينة. وبعد تخرجه من المدرسة في سن السادسة عشرة حصل على عمل من شركة طبية. وكانت صحته رقيقة دائما. فبعد اشهر قليلة من العمل اصيب بالتهاب الرئة. وقال فيما بعد ان تلك الاصابة دمرت صحته الى آخر حياته. وبعد شفائه عمل معلما في مدرسة بقرية ايستوود. وفي عام 1904 تقدم الى امتحان عام ونجح فيه وكان ترتيبه الاول مما اهله للالتحاق بجامعة نوتنغهام لدراسة التربية واساليب التعليم. وبعد تخرجه عام 1908 عين مديرا لمدرسة ذكور في كرويدون احدى ضواحي جنوب لندن. وبدأ لورانس مزاولة الحياة عندما كان على مقاعد الدراسة في الجامعة فشرع بتأليف روايته الاولى (الطاووس الابيض) التي تظهر معرفته الوافية بالحياة في الارياف. كما بدأ نظم الشعر. واهتمت جيسي تشامبرز الفتاة التي تعرف اليها في اثناء دراسته الثانوية بقصائده فأرسلت عددا منها الى مجلة (مراجعات في الادب الانكليزي) فأعجب محرر المجلة فورد مادوكس فورد بها ووعد بنشرها وابدى رغبته في لقاء لورانس. وكتب لورانس فيما بعد يقول: لقد كانت جيسي هي التي دفعتني الى عالم الادب بيسر وسهولة وكأنها اميرة دشنت سفينة بقطع خيط رقيق.

احب لورانس امه كما لم يحب امرأة اخرى، ولم يتمكن من اقامة علاقة مع امرأة اخرى يمكن ان يقارن شعوره نحوها بشعوره نحو امه. وفي اغسطس 1910 اصيبت الام بالسرطان وعانت الكثير الى ان توفيت في التاسع من ديسمبر. وكتب لورانس في رسالة الى شاعر صديق يشرح النفور بين امه وابيه على نحو يذكرنا بالنفور بين مستر ومسز موريل في (أبناء وعشاق)، وقال: لقد كنا انا وامي كلا واحدا يشعر الواحد منا شعورا قويا بالاخر الى درجة اننا لم نكن بحاجة الى كلمات. وقاسى لورانس من ازمة عاطفية ووجدانية عام 1911 بسبب وفاة امه وساد جو من الكآبة في حياته بسبب تعدد علاقاته النسائية. ووقع فريسة للمرض من جديد واضطر الى التوقف عن التدريس. ولكنه من الناحية الثانية كان يحرز تقدما في الكتابة وغدا الان قادرا على كسب معاشه من الكتابة وحدها. واستأنف العمل في روايته التي كان بدأها بعنوان (بول موريل) وهي الرواية التي صدرت في ما بعد بعنوان (أبناء وعشاق). ولا شك ان اهم حدثين في حياة لورانس هما وفاة امه وعلاقته بفرايدا ويكلي زوجة ارنست ويكلي استاذ اللغات في جامعة نوتنغهام. كانت فرايدا تختلف اختلافا جوهريا عن كل النساء اللواتي تعرف لورانس اليهن في حياته. كانت ابنة بارون الماني ، متقدة الذكاء ومليئة بالحيوية ومتحررة الى ابعد حدود التحرر. دعاها لورانس الى السفر بعيدا والعيش معا، وكان معنى ذلك ان تتخلى عن زوجها واطفالها الثلاثة. وتزوجت فرايدا من كاتبنا بعد ان طلقها زوجها عام 1914 وسافر الزوجان الى ايطاليا.

لقد كان لورانس بحاجة الى امرأة تساعده في الهروب من سجن ماضيه. ولا شك ان فرايدا بنظرتها غير التقليدية الى الحياة كانت المرأة النموذجية للقيام بالدور. لقد استطاع لورانس بفضل دعم فرايدا له ان يطلق العنان لمواهبه وطاقاته الابداعية التي ظلت كامنة في اثناء علاقاته بنساء اخريات. وفي الوقت نفسه كانت فرايدا تتمتع بالشجاعة والاستقلال للوقوف الى جانبه والكفاح معه والقيام بدور الناقد الذكي لاعماله. فقد كانت مطلعة على احدث نظريات علم النفس القادمة من فيينا حيث كان يعمل فرويد ويونغ. ومن المحتمل ان مناقشاتها الساخنة مع لورانس بشأن هذه النظريات كان لها اثر في اعماله. لقد عرفت فرايدا ان حب لورانس لامه كان حبا جارفا وان هذا الحب اضر به. ومن المحتمل ان عقدة اوديب في رواية (ابناء وعشاق) اصبحت فكرة بارزة في المرحلة الاخيرة من مراجعة الرواية. فالبطل بول يقدم لنا على انه ضحية حب مبالغ فيه لامه ولذلك فهو غير قادر على اقامة علاقات سوية مع غيرها من النساء.

وعندما نشرت (ابناء وعشاق) عام 1913 كان لورانس يعمل في تأليف كتب اخرى وقصائد وقصص قصيرة، وكان قد شرع بكتابة روايته الكبيرة التالية (قوس قزح). وقد سميت هذه الرواية اصلا (الاختان) لانها تعالج علاقات غرامية لاختين هما ارسولا وغندرن برانغوين، ولكن نمت مادة الرواية في خيال الكاتب فقرر ان يقسمها لكتابة روايتين: الاولى (قوس قزح) التي نشرت عام 1915 وما لبثت ان حظرت لصراحتها واباحيتها، والثانية (نساء عاشقات) التي أتمت عام 1916 ولم تنشر حتى عام 1921.

عاد الزوجان الى انكلترة عام 1914 قبيل الحرب العالمية الاولى. ولم يخف لورانس موقفه المعادي من الحرب. وامل في وقت من الاوقات ان يتعاون مع الفيلسوف برتراند رسل في كتابة والقاء سلسلة من المحاضرات التي تدافع عن قيم حياتية ايجابية بدل القبول بقيم سلبية مدمرة اعتقد انها تتمثل بالحرب. واعتزم الهجرة من انكلترة مع عدد من الاصدقاء لاقامة مجتمع يقوم على القيم الايجابية ولكنه منع من السفر. وحامت حوله شكوك بانه يعمل لصالح المانيا وذلك بسبب افكاره وبسبب جنسية زوجته الالمانية. واستدعي مرتين او ثلاثا لفحص طبي للالتحاق بالجيش وتبين ان صحته لا تؤهله للخدمة العسكرية. وقد ملأته هذه الخبرة بالكراهية والاشمئزاز كما يمكننا ان نرى في فصل "الكابوس" من روايته (الكنغر) 1923.

وفي عام 1919 وبعد الاستشفاء من مرض جديد غادر لورانس وزوجته انكلترة الى اروبة ولم يعد اليها مرة اخرى الا لزيارات قصيرة للاهل والاصدقاء. وقضى معظم وقته حتى عام 1922 في ايطاليا وجزيرة صقلية حيث نظم قصائده الممتازة مثل "الثعبان" و"السمكة" و"الانسان والخفاش" التي نشرت في مجموعة بعنوان (طيور وحيوانات وازهار) 1923. وواصل كتابة روايته (الفتاة الضائعة) التي بدأها عام 1912 وانهاها عام 1920. وفي عام 1922 نشر في نيويورك كتابه (فنتازيا العقل الباطن)، وهو دراسة نفسية، ومجموعة القصص القصيرة (انكلترة). وبدا له في هذه المرحلة ان القسم الاكبر من قرائه هم من الامريكيين. وعندما قرر ان يهاجر من اروبة توجه شرقا فزار استراليا وهناك استأجر بيتا على الساحل الجنوبي والف رواية (الكنغر). ومن هناك سافر وزوجته الى الولايات المتحدة عن طريق نيوزيلاندا والمحيط الهادىء واقام في احدى مزارع نيومكسيكو عام 1922. اهتم لورانس في هذه الفترة بالهنود الحمر في الولايات المتحدة. وفي عام 1923 سافر الى المكسيك حيث نظم والف سلسلة من القصائد والقصص القصيرة وكلها دراسات في شؤون الهنود الحمر ومعتقداتهم. وبعد ذلك قرر العودة الى اروبا وامضى الفترة ما بين 1925 و1928 في ايطاليا حيث الف رواية (عشيق الليدي تشاترلي) 1928 وهي اكثر رواياته اباحية. وفي هذه المرحلة استأنف اهتمامه بالرسم. وفي يوليو 1929 اقام معرضا في متحف ورن غاليري في لندن عرض فيه لوحاته. ولكن رجال الشرطة اغاروا على المعرض وصادروا ثلاث عشرة لوحة من اللوحات بتهمة الاساءة الى الاخلاق العامة. وكتب لورانس بهذه المناسبة احدى قصائده الساخرة بعنوان "انكلترة الساذجة" قال فيها : يؤسفني انك لا تعتقدين ان اوراق التين لا مكان لها في بلاد الاحرار. وواصل لورانس الكتابة حتى الاشهر الاخيرة من حياته بالرغم من انه كان مريضا جدا. وفي القصائد التي نشرت بعد وفاته بعنوان (قصائد أخيرة) عبر عن اجمل افكاره عن الموت كما في قصيدة "سفينة الموت". وتوفي في الثاني من مارس 1930 وله من العمر خمسة واربعون عاما، واحرق جثمانه ونقل رماده عام 1935 الى المزرعة التي اقام فيها في نيومكسيكو بالولايات المتحدة.

أبناء وعشاق

عندما صدرت هذه الرواية عام 1913 قال النقاد انها تفتقر الى حبكة روائية. وقال ناقد مجلة ويستمنستر غازيت: لن احاول ان ألخص الرواية لأنها تفتقر الى الحبكة افتقارا كاملا. فهي تبدأ بزواج والدة بول وتنتهي بوفاتها. وقال الناقد هارولد ماسينغهام الذي اعتبر الرواية افضل ما كتب لورانس ان لورانس لا يهتم بسرد قصة في الكتاب وان الكتاب لا يعير اهتماما للاستمرار والتوازن والترتيب في عرض الازمات النفسية للشخصيات. وهذا التأكيد على اهمية الحبكة في الفن الروائي يعود الى التقليد الادبي في القرن التاسع عشر عندما كان يعتقد ان الحبكة يجب ان تتألف من سلسلة من الاحداث التي يرتبط الواحد منها بالاخر برباط السبب والنتيجة. ولكن لورانس يحاول في روايته ان يصور عالما نفسيا قائما بذاته وان يستكشف عواطف شخصياته ومصائرها. ولم يكن يعتقد ان حياة الفرد مقررة سلفا، ولكنه كان مدركا للحالات النفسية المعقدة والمتشابكة التي يتخذ فيها المرء قراراته. ولذلك لم يكن يستطيع ان يعتمد على تصوير احداث يرتبط بعضها ببعض ارتباط السبب بالنتيجة لان ذلك لم يكن ليخدم الغرض الذي حاول ان يحققه من الكتابة. ولكنه كان يحتاج الى شكل روائي يسمح بتصوير التيارات التحتية لعواطف شخصياته.

تبحث رواية (ابناء وعشاق) في الحياة العاطفية لبول موريل وتطورها، وتصور الحياة الاسرية والعلاقات الجنسية كعوامل ومؤثرات شكلت البطل في صباه وشبابه. وتنقسم الرواية الى قسمين: القسم الاول يصور العالم والاسرة والمجتمع الذي ولد فيه بول وبدأ فيه تاريخ تطوره والقسم الثاني يبحث في المشكلات العاطفية في مرحلة المراهقة. واثارت الرواية عند صدورها ردود فعل متباينة. وجدها بعض النقاد صريحة اكثر مما ينبغي فاعتقدوا بان لورانس يغالي في تصوير الجانب الحسي في العلاقات العاطفية. وقالوا ان الروائي يعري كل شيء، وان عمله يفتقر الى الرقة والتهذيب، وان بول والاشخاص المحيطين به يعيشون حياة الجسد ولا يتمتعون بسمو روحي. ولم ينتبهوا عند صدور الرواية الى فكرة هيمنة الام على حياة الابناء. بل ظنوا ان مسز موريل هي بطلة الرواية. فكتب احدهم يقول ان الرواية تروي قصة امرأة ذكية تزوجت من رجل غير مثقف لم يقدرها حق التقدير. ومضى الناقد الى الكشف عن انه لم يفهم الغرض من الرواية فقال: ولكن لحسن الحظ ملأ احد ابنائها تلك الفجوة في حياتها التي لم يتمكن زوجها من ملئها. اما ألفرد كتنر الناقد الفرويدي فكان اول من فهم ان حب الام الجارف للابناء هو حب مدمر بل ان هذا الناقد لاحظ فقط الجوانب السلبية لتأثير حب الام في الابناء. فبول موريل بطل الرواية ضحية حب امه غير السوي له. فهو عاجز عن تشكيل علاقة حب سليمة مع اي من النساء في مطلع شبابه.

zedhakim@yahoo.co.uk

لندن - بريطانيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...