عني بنشرها أحمد بك تيمور
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب العلامة رشيد الدين محمد بن محمد بن عبد الجليل العمري المشهور بالوطواط إلى الإمام سديد الدين بن نصر الحاتمي: طلبت مني زينك الله تعالى بأنوار المزايا وحماك من كل حادثة ملمة وكل طارقة مهمة ولا أخلاك من فخر تجتليه وجميل ذكر تكتسيه وجزيل أجر تحتسبه وأثر جهل تجتنبه أن أهدي إليك وأملي عليك ما قاله جار الله سقى الله ثراه في كتاب الكشاف في وجه انتصاب شهر رمضان وما قلته من الاعتراض على كلامه واستبعاد مدعاه عن مرامه مما جرى بيني وبين أعز أصحابه أفضل القضاة يعقوب الجندي من السؤال والجواب وها أنا مطبق فيما أقوله مفصل السداد والصواب وقد ذهب من عندي إلى جار الله وأخبره بما قلت فأنصف وأنصت وأبدى خضوعاً لاستماع الصدق وإتباع الحق وقال له: ذكرني هذا الأمر بعض أيام فراغي حتى أصلح من كتابي هذا الفصل وأغير هذا القول فإنه غلط شنيع وخطأ فظيع إلا أنه مرض في تلك المدة ونزلت به المنية وما حصلت تلك الأمنية وقد علم كل من شاهد أحوالي مع جار الله أني كنت عند معظم القدر مفخم الأمر مقبول الكلمات متبوع الإشارات لم يرمني كلمة في أي علم إلا قيدها ببنانه وضبطها في جنانه وأثبتها في دفاتره وأحكمها في خواطره وعدها غنيمة من غنائم عمره وتميمة من تمائم نحره وقد جرى بيني وبينه في حياته وأوقات راحاته مما يتعلق بفنون الأدب وأقسام علوم العرب مسائل أكثر من أن يحصى عددها أو يستقصى أمدها رجع فيها إلى كلامي ونزل على قضيتي وأحكامي فالسعيد من إذا سمع الحق سكتت شقاشق لجاجه وسكنت صواعق حجاجه فمنها مسألة الظبي التي هي جمع ظبة فإنه كتب بخطه أنها من ذوات الياء وأصلها ظبية فقلت أنا أنها من ذوات الواو وأصلها ظبوة فلما امتدت المناظرة واشتدت المذاكرة بعثت إليه كتاب الصحاح يصدق قولي فهجن الكتاب وقال أنه محشو بالتحريفات مشحون بالتصحيفات فبعثت إليه سر الصناعة لابن جني فقال هو رجل وأنا رجل فبعثت إليه كتاب العين فوضع للحق عنقه وسلك مناهج الإنصاف وطرقه واسترد خطه ومزقه تمزيقاً وخرقه تخريقاً بمرأى ومسمع من صدر الأئمة ضياء الدين أدام الله إجلاله وزاد إقباله.
ومنها مسألة كلا الرجلين إذ كتب في حالة الجر والإضافة للمظهر بالألف فقلت الصواب أن يكتب بالياء وأيدت قولي بنص ابن دستورية في كتابه الموسوم بكتاب الكتاب وجرى هذا بحضرة الإمام الأجل زين المشايخ البقالي أدام الله سعادته وحرس سيادته ومنها مسألة نسر وفرقد في تثبيتهما بغير ألف ولام في شعري فأنكره وقال لا يجوز هذا في الشعر ولا في غيره فأريته ذلك في شعر المعري وأبي تمام فقال أخطآ حتى أراه سلمان بيته وصدى صوته الإمام فخر الإسلام المؤذني ذلك في شعر الأعشى فعند ذلك لانت خشونته وسهلت حزونته ومنها مسألة الضرب بين المحذوف والضرب الصحيح في شعر واحد من الطويل وقع له في ديوانه في قوله:
جوار فريد العصر خير جوار ... ودار فريد الدهر أكرم دار
ثم قال:
فلله من جار حمدنا جواره ... ولله من فرد ولله من دار
فضرب الأول محذوف وضرب الثاني صحيح ولا يجوز اجتماعهما في هذا البحر باتفاق العروضيين فلما نبهته على لسان تلميذه المحسن الطالقاني طلب ديوانه وغيره هكذا ولله من نار وموقد نار فاستقام وزنه ومنها مسألة الحادي عشرة والثانية عشرة ومنها مسألة التحية ومنها مسألة تجريد الإمالة ومنها مسألة إدخال الوليد بن الوليد في جملة الكفرة من أولاد الوليد ابن المغيرة وسيأتي ذكره في رسالته إلى الحاتمي. ولو نقلت ما في كنانتي من المكنونات ونثرت ما ادخرته في خزائن المخزونات طال الكلام وكلت الأقلام وإنما ذكرت هذا القدر اليسير ليعلم فتيان هذه الخطة أن هذا الإمام كان صبوراً على مرارة الحق وحرارة الصدق مع أن رب هذه البضائع وصاحب هذه الوقائع. فصل قوله قرأ أبي شهر رمضان بالنصب على تقدير صوموا أو على الإبدال من أياماً معدودات أو على انه مفعول أن تصوموا وأوله قولاه الأولان صحيحان ولا مطعن فيهما وأما الثالث فموضع بحث إذ لا يجوز مثله البتة لأنه لو كان كما زعم كان شهر رمضان تتمة لأن تصوموا ولكن مجموعها في حكم مبتدأ واحد وصار تقديره صوم رمضان خير لكم وليس بجائز أن تجعل المبتدأ نصفين وتفصل بينهما وتدخل الخبر في وسطهما أما يكون خبر المبتدأ متأخراً عن المبتدأ وهو الأصل أو مقدماً عليه بشرط التعريف وغيره من الشروط وهذا هو الفرع وأما أن يكون واقعاً بين شرط من المبتدأ فليس من كلام العرب كقول القائل لمن ينفعه اللحم أن تأكل اللحم خير لك صحيح وقوله خير لك أن تأكل اللحم صحيح فأما قوله أن تأكل خير لك اللحم فغير صحيح وهذا قولي استحسنه جار الله والله أعلم بكتابه وأعرف بأسرار خطابه. وقد كتبت هذه الرسالة فعليك بحفظها عن هؤلاء الذين لا يفهمون الدقائق ولا يعلمون الحقائق فإني حررتها لأمثالك من ذوي الفهم والهداية وأشكالك من أولي العلم والدراية لا لهؤلاء الذين عميت أبصارهم وبصائرهم وصدئت أفكارهم وخواطرهم فإن رياض العلم لا تفتق للمجانين وحياض الرحمة لا تدفق للشياطين والسلام.
مجلة المقتبس - العدد 31
بتاريخ: 1 - 8 - 1908
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب العلامة رشيد الدين محمد بن محمد بن عبد الجليل العمري المشهور بالوطواط إلى الإمام سديد الدين بن نصر الحاتمي: طلبت مني زينك الله تعالى بأنوار المزايا وحماك من كل حادثة ملمة وكل طارقة مهمة ولا أخلاك من فخر تجتليه وجميل ذكر تكتسيه وجزيل أجر تحتسبه وأثر جهل تجتنبه أن أهدي إليك وأملي عليك ما قاله جار الله سقى الله ثراه في كتاب الكشاف في وجه انتصاب شهر رمضان وما قلته من الاعتراض على كلامه واستبعاد مدعاه عن مرامه مما جرى بيني وبين أعز أصحابه أفضل القضاة يعقوب الجندي من السؤال والجواب وها أنا مطبق فيما أقوله مفصل السداد والصواب وقد ذهب من عندي إلى جار الله وأخبره بما قلت فأنصف وأنصت وأبدى خضوعاً لاستماع الصدق وإتباع الحق وقال له: ذكرني هذا الأمر بعض أيام فراغي حتى أصلح من كتابي هذا الفصل وأغير هذا القول فإنه غلط شنيع وخطأ فظيع إلا أنه مرض في تلك المدة ونزلت به المنية وما حصلت تلك الأمنية وقد علم كل من شاهد أحوالي مع جار الله أني كنت عند معظم القدر مفخم الأمر مقبول الكلمات متبوع الإشارات لم يرمني كلمة في أي علم إلا قيدها ببنانه وضبطها في جنانه وأثبتها في دفاتره وأحكمها في خواطره وعدها غنيمة من غنائم عمره وتميمة من تمائم نحره وقد جرى بيني وبينه في حياته وأوقات راحاته مما يتعلق بفنون الأدب وأقسام علوم العرب مسائل أكثر من أن يحصى عددها أو يستقصى أمدها رجع فيها إلى كلامي ونزل على قضيتي وأحكامي فالسعيد من إذا سمع الحق سكتت شقاشق لجاجه وسكنت صواعق حجاجه فمنها مسألة الظبي التي هي جمع ظبة فإنه كتب بخطه أنها من ذوات الياء وأصلها ظبية فقلت أنا أنها من ذوات الواو وأصلها ظبوة فلما امتدت المناظرة واشتدت المذاكرة بعثت إليه كتاب الصحاح يصدق قولي فهجن الكتاب وقال أنه محشو بالتحريفات مشحون بالتصحيفات فبعثت إليه سر الصناعة لابن جني فقال هو رجل وأنا رجل فبعثت إليه كتاب العين فوضع للحق عنقه وسلك مناهج الإنصاف وطرقه واسترد خطه ومزقه تمزيقاً وخرقه تخريقاً بمرأى ومسمع من صدر الأئمة ضياء الدين أدام الله إجلاله وزاد إقباله.
ومنها مسألة كلا الرجلين إذ كتب في حالة الجر والإضافة للمظهر بالألف فقلت الصواب أن يكتب بالياء وأيدت قولي بنص ابن دستورية في كتابه الموسوم بكتاب الكتاب وجرى هذا بحضرة الإمام الأجل زين المشايخ البقالي أدام الله سعادته وحرس سيادته ومنها مسألة نسر وفرقد في تثبيتهما بغير ألف ولام في شعري فأنكره وقال لا يجوز هذا في الشعر ولا في غيره فأريته ذلك في شعر المعري وأبي تمام فقال أخطآ حتى أراه سلمان بيته وصدى صوته الإمام فخر الإسلام المؤذني ذلك في شعر الأعشى فعند ذلك لانت خشونته وسهلت حزونته ومنها مسألة الضرب بين المحذوف والضرب الصحيح في شعر واحد من الطويل وقع له في ديوانه في قوله:
جوار فريد العصر خير جوار ... ودار فريد الدهر أكرم دار
ثم قال:
فلله من جار حمدنا جواره ... ولله من فرد ولله من دار
فضرب الأول محذوف وضرب الثاني صحيح ولا يجوز اجتماعهما في هذا البحر باتفاق العروضيين فلما نبهته على لسان تلميذه المحسن الطالقاني طلب ديوانه وغيره هكذا ولله من نار وموقد نار فاستقام وزنه ومنها مسألة الحادي عشرة والثانية عشرة ومنها مسألة التحية ومنها مسألة تجريد الإمالة ومنها مسألة إدخال الوليد بن الوليد في جملة الكفرة من أولاد الوليد ابن المغيرة وسيأتي ذكره في رسالته إلى الحاتمي. ولو نقلت ما في كنانتي من المكنونات ونثرت ما ادخرته في خزائن المخزونات طال الكلام وكلت الأقلام وإنما ذكرت هذا القدر اليسير ليعلم فتيان هذه الخطة أن هذا الإمام كان صبوراً على مرارة الحق وحرارة الصدق مع أن رب هذه البضائع وصاحب هذه الوقائع. فصل قوله قرأ أبي شهر رمضان بالنصب على تقدير صوموا أو على الإبدال من أياماً معدودات أو على انه مفعول أن تصوموا وأوله قولاه الأولان صحيحان ولا مطعن فيهما وأما الثالث فموضع بحث إذ لا يجوز مثله البتة لأنه لو كان كما زعم كان شهر رمضان تتمة لأن تصوموا ولكن مجموعها في حكم مبتدأ واحد وصار تقديره صوم رمضان خير لكم وليس بجائز أن تجعل المبتدأ نصفين وتفصل بينهما وتدخل الخبر في وسطهما أما يكون خبر المبتدأ متأخراً عن المبتدأ وهو الأصل أو مقدماً عليه بشرط التعريف وغيره من الشروط وهذا هو الفرع وأما أن يكون واقعاً بين شرط من المبتدأ فليس من كلام العرب كقول القائل لمن ينفعه اللحم أن تأكل اللحم خير لك صحيح وقوله خير لك أن تأكل اللحم صحيح فأما قوله أن تأكل خير لك اللحم فغير صحيح وهذا قولي استحسنه جار الله والله أعلم بكتابه وأعرف بأسرار خطابه. وقد كتبت هذه الرسالة فعليك بحفظها عن هؤلاء الذين لا يفهمون الدقائق ولا يعلمون الحقائق فإني حررتها لأمثالك من ذوي الفهم والهداية وأشكالك من أولي العلم والدراية لا لهؤلاء الذين عميت أبصارهم وبصائرهم وصدئت أفكارهم وخواطرهم فإن رياض العلم لا تفتق للمجانين وحياض الرحمة لا تدفق للشياطين والسلام.
مجلة المقتبس - العدد 31
بتاريخ: 1 - 8 - 1908