محمود شلتوت - رفع عيسى

ورد إلى مشيخة الأزهر الجليلة من حضرة عبد الكريم خان بالقيادة العامة لجيوش الشرق الأوسط سؤال جاء فيه: (هل (عيسى) حي أو ميت في نظر القران الكريم والسنة المطهرة؟ وما حكم المسلم الذي ينكر انه حي؟ وما حكم من لا يؤمن به إذا فرض انه عاد إلى الدنيا مرة أخرى؟). وقد حول هذا السؤال إلى فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء فكتب ما يأتي:

. . . أما بعد، فان القرآن الكريم قد عرض لعيسى عليه السلام فيما يتصل بنهاية شانه مع قومه في ثلاث سور:

1 - في سورة آل عمران قوله تعالى: (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال: من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله آمنَّا بالله، واشهد بأنّا مسلمون: ربَّنا، آمنَّا بما أنزلت واتّبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين. ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين؛ إذ قال الله: يا عيسى، أنى متوفيك ورافعك إليَّ ومطهّرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم إليَّ مرجعكم فاحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون): 52 - 55

2 - وفي سورة النساء فوله تعالى: (وقولهم: إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شبه لهم، وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه، ما لهم به من علم إلا اتباع الظن، وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه، وكان الله عزيزاً حكيما): 157 - 158

3 - وفي سورة المائدة قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ قال: سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، أن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك، انك أنت علام الغيوب. ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد): 116 - 117

هذه هي الآيات التي عرض القرآن فيها لنهاية شأن عيسى مع قومه، والآية الأخيرة (آية المائدة) تذكر لنا شأناً أخرويَّاً يتعلق بعبادة قومه له ولأمه في الدنيا وقد سأله الله عنها وهي تقرر على لسان عيسى عليه السلام أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به: (اعبدوا الله ربي وربكم)؛ وإنه كان شهيداً عليهم مدة إقامته بينهم، وإنه لا يعلم ما حدث منهم بعد أن (توفاه الله)! وكلمة (توفي) قد وردت في القرآن كثيراً بمعنى الموت حتى صار هذا المعنى هو الغالب عليها المتبادر منها، ولم تستعمل في غير هذا المعنى إلا وبجانبها ما يصرفها عن هذا المعنى المتبادر: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم. إن الذين توافهم الملائكة ظالمي أنفسهم. ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة. توفته رسلنا. ومنكم من يتوفى. حتى يتوفاهن الموت. توفني مسلماً وألحقني بالصالحين)

ومن حق كلمة (توفيتني) في الآية أن تحمل على هذا المعنى المتبادر وهو الإماتة العادية التي يعرفها الناس ويدركها من اللفظ ومن السياق الناطقون بالضاد. وإذن فالآية لو لم يتصل بها غيرها في تقرير نهاية عيسى مع قومه لما كان هناك مبرر للقول بان عيسى حي لم يمت.

ولا سبيل إلى القول بان الوفاة هنا مراد بها وفاة عيسى بعد نزوله من السماء بناء على زعم من يرى انه حي في السماء، وإنه سينزل منها آخر الزمان، لان الآية ظاهرة في تحديد علاقته بقومه هو لا بالقوم الذين يكونون آخر الزمان وهم قوم محمد باتفاق لا قوم عيسى.

أما آية النساء فإنها تقول (بل رفعه الله إليه) وقد فسرها بعض المفسرين بل جمهورهم بالرفع إلى السماء، ويقولون: إن الله ألقى على غيره شبهه، ورفعه بجسده إلى السماء، فهو حي فيها وسينزل منها آخر الزمان، فيقتل الخنزير ويكسر الصليب، ويعتمدون في ذلك:

أولا: على روايات تفيد نزول عيسى بعد الدجال، وهي روايات مضطربة مختلفة في ألفاظها ومعانيها اختلافاً لا مجال معه للجمع بينها؛ وقد نص على ذلك علماء الحديث. وهي فوق ذلك من رواية وهي بن منبه وكعب الأحبار وهما من أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام وقد عرفت درجتهما في الحديث عند علماء الجرح والتعديل.

وثانياً: على حديث مروي عن أبى هريرة اقتصر فيه على الإخبار بنزول عيسى؛ وإذا صح هذا الحديث فهو حديث آحاد. وقد أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ولا يصح الاعتماد في شأن المغيبات.

وثالثاً: على ما جاء في حديث المعراج من أن محمداً صلى الله عليه وسلم حينما صعد إلى السماء وأخذ يستفتحها واحدة بعد واحدة فتفتح له ويدخل، رأى عيسى عليه السلام هو وابن خالته يحيى في السماء الثانية. ويكفينا في توهين هذا المستند ما قرره كثير من شراح الحديث في شأن المعراج وفي شأن اجتماع محمد صلى الله عليه وسلم بالأنبياء وأنه كان اجتماعياً روحياً لا جسمانياً (انظر فتح وزاد المعاد وغيرها)

ومن الطريف أنهم يستدلون على أن معنى الرفع في الآية هو رفع عيسى بجسده إلى السماء بحديث المعراج بينما ترى فريقاً منهم يستدل على أن اجتماع محمد بعيسى في المعراج كان اجتماعاً جسدياً بقوله تعالى: (بل رفعه الله إليه) هكذا يتخذون الآية دليلاً على ما يفهمونه من الحديث حين يكونون في تفسير الحديث، ويتخذون الحديث على ما يفهمونه من الآية حين يكونون في تفسير الآية!

ونحن إذا رجعنا إلى قوله تعالى: (إني متوفيك ورافعك إلي) في آيات آل عمران مع قوله: (بل رفعه الله إليه) في آيات النساء وجدنا الثانية إخباراً عن تحقيق الوعد الذي تضمنته الأولى، وقد كان هذا الوعد بالتوفية والرفع والتطهير من الذين كفروا، فإذا كانت الآية الثانية قد جاءت خالية من التوفية والتطهير، واقتصرت على ذكر الرفع إلى الله فإنه يجب أن يلاحظ فيها ما ذكر في الأولى جمعاً بين الآيتين.

والمعنى أن الله توفى عيسى ورفعه إليه وطهره من الذين كفروا. وقد فسر الآلوسي قوله تعالى: (إني متوفيك) بوجوه منها وهو أظهرها (إني مستوفي أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك؛ وهو كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه السلام لأنه يلزم من استيفاء الله أجله وموته حتف أنفه ذلك) وظاهر أن الرفع الذي يكون بعد التوفية هو رفع المكانة لا رفع الجسد خصوصاً وقد جاء بجانبه قوله: (ومطهرك من الذي كفروا) مما يدل على أن الأمر أمر تشريف وتكريم. وقد جاء الرفع في القرآن كثيراً بهذا المعنى: (في بيوت أذن الله أن ترفع. نرفع درجات من نشاء. ورفعنا لك ذكرك. ورفعنا مكاناً علياً. يرفع الله الذين آمنوا) الخ. . . وإذن فالتعبير بقوله (ورافعك إلي) وقوله: (بل رفعه الله إليه) كالتعبير في قولهم: (لحق فلان بالرفيق الأعلى) وفي (إن الله معنا) وفي (عند مليك مقتدر) وكلها لا يفهم منها سوى معنى الرعاية والحفظ والدخول في الكنف المقدس. فمن أين تؤخذ كلمة السماء من كلمة (إليه)؟ اللهم أن هذا لظلم للتعبير القرآني الواضح خضوعاً لقصص وروايات لم يقم على الظن بها فضلاً عن اليقين برهان ولا شبه برهان!

وبعد فما عيسى إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، ناصبه قومه العداء، وظهرت على وجوههم بوادر الشر بالنسبة إليه، فالتجأ إلى الله شان الأنبياء والمرسلين فأنقذه الله بعزته وحكمته وخيب مكر أعدائه. وهذا هو ما تضمنته الآيات (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله) إلى آخرها، بَّين الله فيها دقة مكره بالنسبة إلى مكرهم، وأن مكرهم في اغتيال عيسى قد ضاع أمام مكر الله في حفظه وعصمته (إذ قال الله يا عيسى أني متوفيك ورافعك ومطهرك من الذين كفروا) فهو يبشره بإنجائه من مكرهم ورد كيدهم في نحورهم، وأنه سيستوفى أجله حتى يموت حتف أنه من غير قتل ولا صلب، ثم يرفعه الله إليه. وهذا هو ما يفهمه القارئ للآيات الواردة في شأن نهاية عيسى مع قومه متى وقف على سنة الله مع أنبيائه حين يتألب عليهم خصومهم، ومتى خلا ذهنه من تلك الروايات التي لا ينبغي أن تحكم بالقرآن، ولست أدري كيف يكون إنقاذ عيسى بطريق انتزاعه من بينهم ورفعه بجسده إلى السماء مكراً؟ وكيف يوصف بأنه خير من مكرهم مع أنه شيء ليس في استطاعتهم أن يقاوموه، شيء ليس في قدرة البشر! ألا أنه لا يتحقق مكر في مقابلة مكر إلا إذا كان جارياً على أسلوبه غير خارج عن مقتضى العادة فيه. وقد جاء مثل هذا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم (وأذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلونك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)

والخلاصة من هذا المبحث:

1 - أنه ليس في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة مستند يصلح لتكوين عقيدة يطمئن إليها القلب بأن عيسى رفع بجسمه إلى السماء وأنه حي إلى الآن فيها وأنه سينزل منها آخر الزمان إلى الأرض.

2 - أن كل ما تفيد الآيات الواردة في هذا الشأن هو وعد الله عيسى بأنه متوفيه أجله ورافعه إليه وعاصمة من الذين كفروا، وأن هذا الوعد قد تحقق فلم يقتله أعداؤه ولم يصلبوه، ولكن وفاه الله اجله ورفعه إليه.

3 - أن من أنكر أن عيسى قد رفع بجسمه إلى السماء وانه فيها حي إلى الآن وانه سينزل منها آخر الزمان فنها لا يكون بذلك منكرا لما ثبت بدليل قطعي فلا يخرج عن إسلامه وإيمانه، ولا ينبغي أن يحكم عليه بالردة، بل هو مسلم مؤمن، إذا مات فهو من المؤمنين يصلي عليه كما يصلى على المؤمنين ويدفن في مقابر المؤمنين ولا شية في إيمانه عند الله والله بعباده خبير بصير.

أما السؤال الأخير في الاستفتاء وهو (ما حكم من لا يؤمن به إذا فرض انه عاد مرة أخرى إلى الدنيا) فلا محل له بعد الذي قررناه ولا يتجه السؤال عنه والله أعلم.

محمود شلتوت

مجلة الرسالة - العدد 462
بتاريخ: 11 - 05 - 1942

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...