لا نقصد أولئك الذين يبيعون الكتب ناشرين أو وراقين، بل نعني أولئك الذين يتصدون للآداب والعلوم والفنون والفلسفة فيؤلفون فيها، ويطلعون على الجمهور بثمرة قرائحهم، لا يخدمون بذلك أدبا ولا يفيدون علما، بل يطلبون ربحا ويطمعون في ثروة فجعلوا من الأدب تجارة، وانزلوا العلم منزلة السلع الرخيصة.
ومن سوء الحظ أن هذه الظاهرة صبحت الحرب الأخيرة منذ بدايتها، إذا انقطعت أسباب الحصول على الورق، وتسنى لهؤلاء القوم بأساليب لا تمت إلى الشرف بصلة أن يحصلوا على الورق اللازم للطبع، ووجدوا المطابع متعطشة فدفعوا إليها بهذه الثمار الفجة، وخرجت إلى السوق هذه الكتب العجيبة. ليس فيها اثر من جهد أو بارقة من تفكير، وإنما هي ألفاظ مرصوصة يسود بها أصحابها صحائف الورق، ويملأون دفتي الكتب.
وكيف تريد أن يكون الأمر غير ذلك، وبعض هذه الطائفة يخرج في كل شهر كتاب، لو انفق فيه عالم يمتاز بالضمير ويتصف بالتثبت أعواماً لوجد أنه في حاجة إلى المزيد من الأعوام.
سئل أحد الناشرين: كيف تطبع لفلان؟ فقال: (إن الجمهور يقبل عليها كما يقبل على الفول السوداني) وهو تشبيه يقصد به إلى المدح والذم سواء. ولعله كان يرمي إلى التحقير فما عهدنا أن الكتب توصف بالتشبيهات المادية القليلة الشأن.
ولقد مضى زمن الحرب الذي انقلبت فيه الأوضاع، فعادت سوق الأدب إلى سابق حريتها، ووجد الفضلاء سبيلهم إلى المطابع بالطرق الكريمة التي لا تنافي الذوق أو الشرف، فانكشف أمر أولئك القوم وباءت كتبهم بالخسران، وزحمت رفوف الوراقين وأكبر الظن أن مصيرها سوف يكون إلى باعة (الفول السوداني) يلفون فيها بضاعتهم في (القراطيس).
ولعلك تعجب معي وتسال عن السر في بضاعة القوم كيف يتسنى لهم التأليف في كل شهر، وهل اتسعت مداركهم، وسمت عقولهم، وارتقى تفكيرهم إلى الحد الذي يسمح لهم بتسويد صحائف كتاب جديد كلما طلع الهلال الجديد.
إنهم يفعلون أحد أمرين: الأول السطو على بعض الكتب الأجنبية، ثم نقل فكرتها نق خاطئا، ثم ينسبون الكتاب إلى أنفسهم زورا وبهتانا. وهذه المسألة تعرف بالسرقة الأدبية. وهؤلاء هم لصوص الأدب. يريدون أن يقول الناس عنهم انهم من كبار المؤلفين الذين يرجع إليهم، وهي نزعة تخلو من الأمانة على كلا الحالين، فهم غير أمناء في نسبة موضوع إلى أنفسهم وحقيقته لغيرهم، وغير أمناء في نقل الفكر، ولو كانوا قادرين على النقل وحسن التعريب لأعلنوا ذلك.
والأمر الثاني أن يتجهوا إلى الترجمة الصريحة، وقد زادت هذه الحركة في الأيام الأخيرة ولكننا نرى المتصدين لها، أو اغلبهم، لا يحسنون التصرف ولا يجيدون التعريب، لقلة خبرتهم، ونقص علمهم بالموضوع، وعجزهم في كلتا اللغتين الأجنبية التي ينقلون عنها، والعربية التي ينقلون إليها.
ولكنه بريق الكسب يستهوي هؤلاء وأولئك فيدفعهم إلى التسرع، والسرعة كما قال الزيات في مطلع كتابه (دفاع عن البلاغة) إحدى آفاتها. وهي لعمري إن كانت مزية الحضارة الحديثة فهي آفة الإنتاج الجيد في كل شيء، ماديا كان أم معنويا، وهي في الآثار العلمية والأدبية اخطر.
كنا في صدر الشباب نحضر العلم في الجامعة المصرية على أستاذنا الدكتور منصور فهمي، ومن أقواله المأثورة التي لا يزال طلابه يحفظونها عنه ويروونها في المناسبات (اطلبوا العلم للعلم) وكان بعضنا يتحدث إليه في وجوب السعي لدى أولى الأمر في الحكومة ليفسحوا المجال للخريجين في الجامعة والحاصلين على إجازة كلية الأدب في وظائف الدولة، فكان يرد عليهم بقولته المأثورة (اطلبوا العلم للعلم). وما كنا في ذلك الوقت نحسن تفسير هذا الكلام أو فهم مراميه البعيدة. هل يطلب العلم للعلم وهل يفضل أحدنا العلم على المال؟ وهل يغني العلم وحده في سد مطالب الحياة؟.
لا نقول إن العلم سبيل الحصول على المال، ولو عكسنا القضية لصح المقال، إذ الواقع من التاريخ أن المال كان غذاء العلم، ولقد عاش العلماء في قديم الزمان على بذل الملوك والأمراء والأغنياء وما كنوا ينفقونه عن سعة في سبيل العلم، وأوقاف الأغنياء المحبوسة على مصلحة العلم والعلماء خير شاهد على ذلك. وكان العلماء من جهتهم زاهدين لا يحفلون بملبس أو مشرب أو مأكل لأن همهم كله منصرف إلى طلب العلم ولذتهم في تحصيله. وكانت أيديهم تزخر في بعض الأحيان بالمال فينفقونه في اوجه الخير والبر.
الخلاف إذن في الغاية، هل العلم غاية في ذاته تطلب لذاتها أم وسيلة لغاية أخرى هي المال؟
ولا مراء في أن التضحية بالعلم والأدب في سبيل الأهداف المادية هو الانحطاط والإسفاف، ومن كانت غايته الثروة فليطلبها في تجارة السلع المختلفة فهي أكثر للمال إدرارا. ولقد حكى ارسطو في كتاب السياسة أن أحد فلاسفة اليونان الأقدمين عيره القوم بقلة ذات اليد والانصراف عن الدنيا , فاعتزم في نفسه أمرا، فذهب في الشتاء إلى أصحاب المعاصر واستأجرها منهم باجر زهيد، فقالوا: هذا مجنون ماذا يفعل بالمعاصر في هذا الوقت وليس لها عمل؟ فلما جاء الصيف، وأراد الزراع عصر العنب لاستخراج النبيذ، طلب منهم أجرة مضاعفة، ولم يسعهم إلا الدفع لأنه كان قد احتكر جميع المعاصر. وأثرى من هذا الأمر ثروة كبيرة، فاثبت للقوم أن الفلاسفة لو أرادوا المال لحصلوا عليه، ولكن بغير طريقة الفلسفة!
والسؤال الآن: هل نترك هذه الطائفة أحرارا في أعمالهم يسيئون إلى العلم والأدب، ويفسدون الذوق، ويشيعون الخطأ، ويذيعون الباطل، أم يوكل أمر الكتب إلى هيئة تميز بين الغث والسمين والصحيح والفاسد فلا تجيز إلا الصالح؟
يقول قوم نحن في عصر الديمقراطية وأساسها الحرية وعلى الخصوص حرية الرأي والفكر، فكيف تريد أن تحد من هذه الحرية التي ناضلت البشرية في سبيلها أجيالا طويلة؟ إنكم لو فعلتم ذلك، لرددتم الإنسانية إلى اظلم عصورها واحلك أزمنتها، يوم كان عقاب الأحرار أن تحرق كتبهم ويلقى أصحابها في غياهب السجون.
والقياس هنا مع الفارق، لأن فلاسفة القرون الوسطى كانوا يطلعون على الناس بثمرة أفكار جديدة ينتقدون فيها الآراء الشائعة من قديم الزمان، أما مؤلفو مصر في هذا الزمان، فإنهم لا يفكرون تفكيرا جديدا، ولا ينتقدون قديما، ولا ينتقدون كشوفا حديثة، بل يمسخون كتب غيرهم ويغيرون عليها.
مهما يكن من شيء، فأنا من أنصار الديمقراطية والحرية، ولا احب أن احجز على فكر الناس، ولا على الطريقة التي يذيعون بها أفكارهم، ولكن من واجب الناقدين أن يبصروا الجمهور بحقيقة ما يظهر من تأليف، وقد كثر عندنا المتعلمون الذين يحسنون تقدير المؤلفين. . . فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
أحمد فؤاد الأهواني
مجلة الرسالة - العدد 701
بتاريخ: 09 - 12 - 1946
ومن سوء الحظ أن هذه الظاهرة صبحت الحرب الأخيرة منذ بدايتها، إذا انقطعت أسباب الحصول على الورق، وتسنى لهؤلاء القوم بأساليب لا تمت إلى الشرف بصلة أن يحصلوا على الورق اللازم للطبع، ووجدوا المطابع متعطشة فدفعوا إليها بهذه الثمار الفجة، وخرجت إلى السوق هذه الكتب العجيبة. ليس فيها اثر من جهد أو بارقة من تفكير، وإنما هي ألفاظ مرصوصة يسود بها أصحابها صحائف الورق، ويملأون دفتي الكتب.
وكيف تريد أن يكون الأمر غير ذلك، وبعض هذه الطائفة يخرج في كل شهر كتاب، لو انفق فيه عالم يمتاز بالضمير ويتصف بالتثبت أعواماً لوجد أنه في حاجة إلى المزيد من الأعوام.
سئل أحد الناشرين: كيف تطبع لفلان؟ فقال: (إن الجمهور يقبل عليها كما يقبل على الفول السوداني) وهو تشبيه يقصد به إلى المدح والذم سواء. ولعله كان يرمي إلى التحقير فما عهدنا أن الكتب توصف بالتشبيهات المادية القليلة الشأن.
ولقد مضى زمن الحرب الذي انقلبت فيه الأوضاع، فعادت سوق الأدب إلى سابق حريتها، ووجد الفضلاء سبيلهم إلى المطابع بالطرق الكريمة التي لا تنافي الذوق أو الشرف، فانكشف أمر أولئك القوم وباءت كتبهم بالخسران، وزحمت رفوف الوراقين وأكبر الظن أن مصيرها سوف يكون إلى باعة (الفول السوداني) يلفون فيها بضاعتهم في (القراطيس).
ولعلك تعجب معي وتسال عن السر في بضاعة القوم كيف يتسنى لهم التأليف في كل شهر، وهل اتسعت مداركهم، وسمت عقولهم، وارتقى تفكيرهم إلى الحد الذي يسمح لهم بتسويد صحائف كتاب جديد كلما طلع الهلال الجديد.
إنهم يفعلون أحد أمرين: الأول السطو على بعض الكتب الأجنبية، ثم نقل فكرتها نق خاطئا، ثم ينسبون الكتاب إلى أنفسهم زورا وبهتانا. وهذه المسألة تعرف بالسرقة الأدبية. وهؤلاء هم لصوص الأدب. يريدون أن يقول الناس عنهم انهم من كبار المؤلفين الذين يرجع إليهم، وهي نزعة تخلو من الأمانة على كلا الحالين، فهم غير أمناء في نسبة موضوع إلى أنفسهم وحقيقته لغيرهم، وغير أمناء في نقل الفكر، ولو كانوا قادرين على النقل وحسن التعريب لأعلنوا ذلك.
والأمر الثاني أن يتجهوا إلى الترجمة الصريحة، وقد زادت هذه الحركة في الأيام الأخيرة ولكننا نرى المتصدين لها، أو اغلبهم، لا يحسنون التصرف ولا يجيدون التعريب، لقلة خبرتهم، ونقص علمهم بالموضوع، وعجزهم في كلتا اللغتين الأجنبية التي ينقلون عنها، والعربية التي ينقلون إليها.
ولكنه بريق الكسب يستهوي هؤلاء وأولئك فيدفعهم إلى التسرع، والسرعة كما قال الزيات في مطلع كتابه (دفاع عن البلاغة) إحدى آفاتها. وهي لعمري إن كانت مزية الحضارة الحديثة فهي آفة الإنتاج الجيد في كل شيء، ماديا كان أم معنويا، وهي في الآثار العلمية والأدبية اخطر.
كنا في صدر الشباب نحضر العلم في الجامعة المصرية على أستاذنا الدكتور منصور فهمي، ومن أقواله المأثورة التي لا يزال طلابه يحفظونها عنه ويروونها في المناسبات (اطلبوا العلم للعلم) وكان بعضنا يتحدث إليه في وجوب السعي لدى أولى الأمر في الحكومة ليفسحوا المجال للخريجين في الجامعة والحاصلين على إجازة كلية الأدب في وظائف الدولة، فكان يرد عليهم بقولته المأثورة (اطلبوا العلم للعلم). وما كنا في ذلك الوقت نحسن تفسير هذا الكلام أو فهم مراميه البعيدة. هل يطلب العلم للعلم وهل يفضل أحدنا العلم على المال؟ وهل يغني العلم وحده في سد مطالب الحياة؟.
لا نقول إن العلم سبيل الحصول على المال، ولو عكسنا القضية لصح المقال، إذ الواقع من التاريخ أن المال كان غذاء العلم، ولقد عاش العلماء في قديم الزمان على بذل الملوك والأمراء والأغنياء وما كنوا ينفقونه عن سعة في سبيل العلم، وأوقاف الأغنياء المحبوسة على مصلحة العلم والعلماء خير شاهد على ذلك. وكان العلماء من جهتهم زاهدين لا يحفلون بملبس أو مشرب أو مأكل لأن همهم كله منصرف إلى طلب العلم ولذتهم في تحصيله. وكانت أيديهم تزخر في بعض الأحيان بالمال فينفقونه في اوجه الخير والبر.
الخلاف إذن في الغاية، هل العلم غاية في ذاته تطلب لذاتها أم وسيلة لغاية أخرى هي المال؟
ولا مراء في أن التضحية بالعلم والأدب في سبيل الأهداف المادية هو الانحطاط والإسفاف، ومن كانت غايته الثروة فليطلبها في تجارة السلع المختلفة فهي أكثر للمال إدرارا. ولقد حكى ارسطو في كتاب السياسة أن أحد فلاسفة اليونان الأقدمين عيره القوم بقلة ذات اليد والانصراف عن الدنيا , فاعتزم في نفسه أمرا، فذهب في الشتاء إلى أصحاب المعاصر واستأجرها منهم باجر زهيد، فقالوا: هذا مجنون ماذا يفعل بالمعاصر في هذا الوقت وليس لها عمل؟ فلما جاء الصيف، وأراد الزراع عصر العنب لاستخراج النبيذ، طلب منهم أجرة مضاعفة، ولم يسعهم إلا الدفع لأنه كان قد احتكر جميع المعاصر. وأثرى من هذا الأمر ثروة كبيرة، فاثبت للقوم أن الفلاسفة لو أرادوا المال لحصلوا عليه، ولكن بغير طريقة الفلسفة!
والسؤال الآن: هل نترك هذه الطائفة أحرارا في أعمالهم يسيئون إلى العلم والأدب، ويفسدون الذوق، ويشيعون الخطأ، ويذيعون الباطل، أم يوكل أمر الكتب إلى هيئة تميز بين الغث والسمين والصحيح والفاسد فلا تجيز إلا الصالح؟
يقول قوم نحن في عصر الديمقراطية وأساسها الحرية وعلى الخصوص حرية الرأي والفكر، فكيف تريد أن تحد من هذه الحرية التي ناضلت البشرية في سبيلها أجيالا طويلة؟ إنكم لو فعلتم ذلك، لرددتم الإنسانية إلى اظلم عصورها واحلك أزمنتها، يوم كان عقاب الأحرار أن تحرق كتبهم ويلقى أصحابها في غياهب السجون.
والقياس هنا مع الفارق، لأن فلاسفة القرون الوسطى كانوا يطلعون على الناس بثمرة أفكار جديدة ينتقدون فيها الآراء الشائعة من قديم الزمان، أما مؤلفو مصر في هذا الزمان، فإنهم لا يفكرون تفكيرا جديدا، ولا ينتقدون قديما، ولا ينتقدون كشوفا حديثة، بل يمسخون كتب غيرهم ويغيرون عليها.
مهما يكن من شيء، فأنا من أنصار الديمقراطية والحرية، ولا احب أن احجز على فكر الناس، ولا على الطريقة التي يذيعون بها أفكارهم، ولكن من واجب الناقدين أن يبصروا الجمهور بحقيقة ما يظهر من تأليف، وقد كثر عندنا المتعلمون الذين يحسنون تقدير المؤلفين. . . فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
أحمد فؤاد الأهواني
مجلة الرسالة - العدد 701
بتاريخ: 09 - 12 - 1946