أولاً: مدخل
القصة القصيرة جداً جنسٌ أدبيٌّ مختلف، محيّر، سهلٌ ممتنع.
اختلافه يتأتى من كون الحكاية فيه شرطاً من شروط وجوده من جهة، ومن جهةٍ ثانية الحكاية فيه ليست هدفاً بحدّ ذاتها.
ومحيّرٌ كون القصة القصيرة جداً، وهي الأشدّ تكثيفاً بين الأجناس السرديّة، تأخذ قيمتها بمدى اتساع الآفاق التأويلية، وازدياد مساحات التشظّي التي تغطيها في خيال القارئ.
إنها، إذن، حكايةٌ من جهة، وتكثيفٌ شديدٌ من جهةٍ ثانية، ولا بدّ لهذين الشرطين أن يتحقّقا معاً، ليكون للنص مكانٌ في بانثيون الأدب، والسرد على وجه الخصوص.
كيف لكاتبٍ أن يجمع حكايةً مكتملةً بأقلّ عددٍ من الكلمات؟
وكيف للقصة القصيرة جداً أن يتسع مداها الدلالي- التأويلي عمقاً واتساعاً، لتلامس جوهر القارئ، كلّ قارئ، وهي مقيّدة بحدّي هذه المعادلة الصعبة؟
هنا، تصبح اللغة عنصراً حاسماً، وعلى الكاتب -وهو يتصدّى لكتابتها- أن يمتلك لغة إيحائية، بمفرداتها ذات الطيف الدلالي الأوسع، وهنا أيضاً تصبح الذخيرة الثقافية، والتجربة الروحية عنصراً مهماً، يتسلّح به الكاتب عند اختياره الرموز والإشارات التي، من خلالها، تتحوّل القصة المباشرة التي يحكيها النص، بفعل الكتابة، إلى حكاياتٍ لا تنتهي تتولّد، بفعل القراءة. فأدوات السرد التقليدية لم تعد كافيةً، بل ليست نافعةً في هذا الجنس الأدبي.
لا بدّ للكاتب، إذن، أن يتوسّل بالرمز، والأسطورة، والتناص، والسريالية، بل بأنواع الفنون كلها، حسب حاجة النص الذي يكتبه، بما يشحن كلماته القليلة بأقصى طاقة تأويلية ممكنة.... وهذا ما قلنا عنه: السهل الممتنع.
الكاتب، وهو ينتج قصةً قصيرةً جداً، يمارس على مفرداته ضغطاً هائلاً، تنتشر في ذهن القارئ، آن القراءة، وتتشظّى إلى دلالاتٍ وتأثيراتٍ عديدة، كأنّ الكاتب، وهو يمارس فعل الكتابة، يجمع حزمة ضوء، ويركزها في شعاعٍ دقيق، كما العدسة المكبرة، فيكون دور القارئ أن يضع موشوره الخاص بفعل القراءة، فيعيد نشر هذا الشعاع المركز وتشظيته إلى طيف واسع من الدلالات، كما يفعل الموشور بشعاع الضوء. وهذا ضروري، وربما أساسيٌّ، في كتابة القصة القصيرة جداً، لأنّ القارئ، حين اتّجه لقراءة القصة القصيرة جداً، لم يتخلّ عن متعته بقراءة القصة التقليدية، بمختلف مدارسها، بصورها البيانية، وحرارتها، وحبكتها وذروتها التي تحبس أنفاسه حتى يصل إلى لحظة التنوير والنهاية، إلا لأنه يريد قصةً تلخّص تجربته الروحية، في صراعه الدائم بين حجري رحى عصرٍ يدوران دون توقف، بسرعةٍ لا تنتظر، ولا تمهله حتى يفكر بأسئلته الوجودية التي تتراكم. إنه بحاجة إلى نصٍّ يحمل تجربته الوجودية هو، في زاوية منها، أحلامه الملغاة، أفكاره وهواجسه هو، وتفتح له نوافذ الأجوبة على أسئلته الوجودية الضبابية المغبشة تلك.
لهذا...
كانت الحكاية، وهي شرط القصة القصيرة جداً، هي مجرّد متكأ يقف عليه الكاتب ليطلق النص في رحلة معراجه نحو أفاق التأويل. الحكاية في القصة القصيرة جداً مجرّد حامل، ومضة الضوء التي تفتح في خيال القارئ، كلّ قارئ، فكرةً مرّت عرضاً في خياله، ولم يتسنّ له الإمساك بها، أو جواباً لم يدركه عن أسئلة تراوده، أو مشاركةً في رؤيةٍ خاصةٍ وفلسفةٍ للحياة والإنسان والكون.
كون القصة القصيرة جداً حكايةً مكثّفة، فهي تكثيفٌ لتجربةٍ إنسانيةٍ شاملة، وليس ضرورياً أن يتصدّى الكاتب للموضوعات الكبرى النخبوية كي ينتج نصّاً كبيراً، فكم من موضوعاتٍ كبيرة، أراد الكاتب أن يتصدّى لها، فلم تترك لدى القارئ أيّ أثر، وكم من موضوعاتٍ بسيطةٍ، يومية، مما يمرّ بها الإنسان العادي في لحظات يومه المتعاقبة، استطاع الكاتب أن يحوّلها إلى نصٍ كبير، السرّ في نجاح نصٍّ وفشل آخر يكمن في اللغة المستعملة، وقدرة الكاتب على توظيف أدواته المعرفية والكتابية في نصّه.
اللغة في القصة القصيرة جداً، لها مستويان: مستوى حضور، ومستوى غياب.
مستوى الحضور هو الحكاية المباشرة، القائمة في النصّ، بعنوانه ومتنه وقفلته. أما مستوى الغياب، فهو الحكاية، أو الحكايات الموازية التي يفتحها النص في ذهن القارئ بعد الانتهاء من القراءة، وهذا يكون من خلال عمق تجربة الكاتب الروحية، وحساسيته الفائقة في ردّ فعله تجاه الأشياء والأحداث، وقدرته على استنباط ما هو إنساني، مشترك، شمولي، عميق، من حكاية بسيطة ذاتية أو عامة.
هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، ذكاؤه في استخدام طاقة النص كاملة، دون تفريطٍ بأيّ عنصرٍ من عناصره، من عنوانٍ ومتنٍ وقفلة، وحسن توظيفها التوظيف الأنسب الذي يخدم النص، ويحوّل حكايته الذاتية إلى حكايةٍ إنسانية، وقدرته على شحن عنوان النص بشحنةٍ دلالية، واختيار القفلة المناسبة التي تتماهى مع رؤيته للحكاية، ومغزاها الإنساني.
العنوان هو الخطوة الأولى التي يمرّ خلالها القارئ في تأويله للنص، والعنوان الجيد يزوّد القارئ بذخيرة مبكرة في تفكيكه للنص وإعادة تركيبه، العنوان الذي يكشف النص أو يلخّص محتواه، يهدم البناء الفني كله، ويأتي عليه، كما كتب د. يوسف حطيني. العنوان النكرة، على سبيل المثال لا الحصر، هو لفظً عامٌّ، تندرج تحته عناصر كثيرة، أما المعرّف فهو يحدّد النص ويقيّده، كما ورد عند ابن هشام. وهذه ليست قاعدةً أو شرطاً، فالكاتب الذكي يعرف كيف يختار عنوان نصه، بالشكل الذي يفرضه النص.
وما قلناه عن العنوان، ينطبق، بشكلٍ ما، على القفلة، فالنص وموضوعه، هو الذي يفرض قفلته: واخزة أو صادمة أو فضائية -المقصود الفضاء الزمكاني- أو متشظية منفتحة... الكاتب الناجح يعرف كيف يختار قفلة نصه، بما يساهم، بتفاعلها مع العنوان والمتن، في إعطاء النص الشحنة التي يبتغيها الكاتب من نصه.
من هنا....
فالقصة القصيرة جداً تحتاج إلى لغةٍ خاصة. هي أكثر الأجناس السردية حساسيةً للمفردة. المفردة فيها لها قيمة تعادل النصّ كله أحياناً، مفردةٌ زائدة أو شاذة عن السياق تهدم النص، ومفردةٌ مشحونةٌ ذات أبعادٍ دلاليةٍ، في المكان المناسب وباستخدامٍ مناسب، ترفع النص إلى ذرى عالية، تضعه في مراتب النصوص الخالدة، على الرغم من قصره وتكثيفه الشديد.
أخيراً....
فالقصة القصيرة جداً، تجربةٌ كتابية تمثّل، في غايتها، تجربةً روحّيةً إنسانية، وهذا سرّ نشوئها، وهذا مبرر وجودها.
لذا...
يجب الحذر، حذر الكاتب وهو يخوض هذه التجربة الكتابية، يجب عدم الاستسهال، والتعامل مع هذا الجنس الأدبي الحسّاس، بما يستحقّ من حساسية.
ثانياً: القراءة
لتكن تلك المقدمة الطويلة نسبياً مدخلنا لدراسة النص.
"حياة
للرأس المقطوع المرخيّ على الرصيف، رسمت جسداً، ويدين صغيرتين تضمّان لعبةً جميلة، وكم كنت سعيداً، حينما نهض مسرعاً، وركض وهو يلوّح لي بفرح". "ميلاد فؤاد ديب / سوريا"
أولاً: التجنيس
العنوان "حياة" من كلمةٍ واحدةٍ مفردةٍ نكرة، مناسبٌ للعنونة في القصة القصيرة جداً، ومناسبٌ لهذا النص بالذات، بما يملكه من طيفٍ دلاليٍّ واسع، ستظهر لنا أثناء تفكيك النص.
المتن: دخل الكاتب إلى نصّه بشبه جملةٍ وفعلٍ مؤخّر. قدّم الكاتب شبه الجملة ليصف لنا بطل النص "رأس طفل"، وليقدّم لنا أيضاً فضاء النص – المكان (الرصيف)، لما لهذين العنصرين (بطل النص وفضاؤه) من دلالاتٍ عميقةٍ، ومؤثّراتٍ حادّةٍ على الحكاية، أثناء الكتابة والقراءة معاً.
ثمّ تابع حكايته متّكئاً على الفعل المؤخّر "رسمت"، منتقلاً من الأثر السكونيّ الشعوريّ الذي استدعاه مدخل النص بما فيه من تأثيرٍ إنسانيٍّ، إلى الأثر الحركيّ. بعد هذا التمهيد والتأثيث الضروريين لاكتمال الحكاية، جاءت الأفعال الحركية "نهض مسرعاً، ركض، يلوّح" متعاقبةً تتسارع فيه الحكاية نحو نهايتها في النص.
القفلة: ركض وهو يلوّح لي بفرح"، قد تبدو طويلةً في نصٍّ هو بالأساس قصير جداً، ومكثف أشدّ ما يمكن من التكثيف؛ لكنها قفلةٌ ضروريةٌ لإكمال الحكاية، بشقيها: الحكاية المباشرة الحاضرة في النص، كما كتبها الكاتب، والحكاية، أو الحكايات الموازية التي سيولّدها النص بفعل القراءة. وهي قفلةٌ خبريةٌ إلا أنها تحمل في داخلها انفتاحاتٍ تحتاجها كلّ القراءات، وكلّ القرّاء الذين سيتمثّلون النص، كلّ من جهته وزاويته، مهما اختلفت القراءات والقرّاء، وسنرى ذلك بعد قليل.
التكثيف: نصّ مكثفٌ تكثيفاً شديداً لم يؤثّر على الحكاية، جاءت الحكاية مكتملة، دون أن يلجأ الكاتب إلى نقاط الحذف حتى.
إذن، النص هو قصةٌ قصيرةٌ جداً بامتياز، مكتملة الشروط.
ثانياً: تفكيك النص:
لا يغيب عن القارئ أنّ حكاية النص مبنيّةٌ على إعادة خلق لثنائية الموت – البعث، وأساطيرها القديمة منذ تموز البابلي وآدون الفينيقي السوري وأدونيس الإغريقي، وما توالد عنها من أساطير لدى كلّ شعوب الأرض تنسج على منوالها، باختلافاتٍ تتناسب وحالة تلك الشعوب، حتى وصلت إلى أكمل صورها، وأخذت حالتها القدسية الدينية في صلب يسوع الناصريّ وقيامته.
وليس هذا معيباً للنص، ولا مغلقاً أبواب القراءة المتجدّدة له. فالأسطورة كانت على الدوام مرجعية للفن والأدب على مرّ العصور. والقصة القصيرة جدّاً، إذ تتكئ على الأسطورة، فإنها لا تعيدها مكرّرةً كما هي، بل تستعير منها رمزيتها، لتخلق نموذجها الأسطوريّ الخاصّ بها.
الإنسان، في بدء تشكّل وعيه، وجد نفسه في مواجهة الموت، فابتكر الأسطورة، يواجه بها ذلك الحدث الرهيب، الخارج عن الوعي والإرادة، وابتكر فكرة عودة الميت، وإعادة بعثه من جديد، كي يتغلّب على مشاعر الحزن التي تعذّبه وهو يقف عاجزاً عند فقده من يحب، غير مصدّقٍ أنّ هذا الغياب سيكون أبدياً، فكانت الأسطورة هي التعبير الفني -الأول ربما- عن هذه التجربة القاسية.
إذا كان الإنسان خلال مسيرة وعيه الطويلة قد استوعب فكرة الموت الحتمية أو تأقلم معها على الأقلّ، فإنّه يقف عاجزاً من جديد أمام فظاعة القتل الذي يحصد الجميع دون تمييز، بهذه البشاعة والكثرة التي لم يعد العقل يستوعبها، ولم يعد إيمانه يكفيه لبثّ الطمأنينة النسبية في وجدانه، لذلك ابتدأ النص بهذه الصورة الرهيبة: "للرأس المقطوع المرميّ على الرصيف". ما أبشع هذه الصورة، وما أشدّ إيلامها!... الرصيف الذي تلقى عليه أعقاب السجائر والاوراق التالفة، وأشاؤنا المهملة التي لا قيمة لها، ليأتي في الصباح عامل النظافة فيكنسها ويضعها في حاوية المهملات!!! .... هذه هي صدمة الإنسان في زمن الحروب العشوائية والموت المجانيّ ، كيف لضميرٍ إنسانيٍّ أن يحتمل؟ وكيف لوجدانه الجمعيّ أن يقبل كلّ هذه البشاعة؟
من هنا كانت أهمية المدخل في النص، ومن هنا كانت أهمية المكان، إنهما الأكثر إلحاحاً والأشدّ تأثيراً، لا يحتملان الانتظار أو التأجيل.
إنها جريمة العصر- كل العصور، جريمة الإنسان- كل الناس، جريمتنا، جريمة الراوي الذي يشعر بالذنب لمجرّد عجزه.
الشعور بالذنب الذي أقلق الضمير الجمعي، وأفقده سكينته وطمأنينته، ولا بدّ له أن يستعيد توازنه المفقود، بحاجةٍ إلى غفرانٍ من نوعٍ ما، أن يقول له هذا الطفل القتيل، إنه يفهم عجزه أمام جنون القتل المستشري، ويغفر له، لذلك كانت القفلة "لوّح لي بيده فرحاً"، هي المعادل الرمزي للغفران الذي يفتش عنه الراوي – الإنسان. هي المعادل الفني لقيامة يسوع الناصري الذي صلب بعد أن سلّمه يوحنّا الإسخريوطي، وعجز المؤمنون به عن ردّ هذا الصلب.
ورد في الكتاب المقدس عن صلب المسيح وقيامته: "الذي أُسلِم من أجل خطايانا وأُقيم من أجل تبريرنا". (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية الإصحاح الرابع الآية 25(
يسوع الطفل استوحي في موضوعات الفن المسيحي منذ القرن الثالث أوالرابع.
والمسيح هو أيضاً من قال: "دعوا الأطفال يأتون إليّ ولا تمنعوهم، لأنّ لأمثال هؤلاء ملكوت السماوات". (إنجيل متى الإصحاح 19 الآية 13(
هذا هو معنى الطفولة في الوجدان الجمعي، الديني والشعبي، في مقابل فظاعة المشهد الذي دخل به الراوي النص، وبنى عليه حكايته.
إذا عدنا إلى العنوان، "حياة"، به تكتمل الحكاية – الأسطورة.
"حياة"... هي الإصرار اللاشعوري الرافض لهذا الموت، غير المصدّق به.
"حياة"... هي الحلم الملغى الملحّ، العاجزون عن تحقيقه.
حياة!... هي الكلمة الساخرة المتسائلة المستنكرة، في وصف حال الأحياء.
"حياة"... هذه الكلمة تلخّص السؤال الوجودي الأهم: ما جدوى هكذا حياة؟، ما قيمة حياتنا أمام قتل البراءة بهذه البشاعة؟ هل نحن حقاً أحياء بعد كل ما فعلناه ونفعله؟... "هذه حياة؟!!"
الظامئ في الصحراء يفقد القدرة على كل شيء؛ لكنه لا يني يكرّر: "ماء... ماااااء"، يستجدي قطرةً صغيرةً، إمّا أن يجدها فتتحقق المعجزة، أو يموت وهو يكرّرها.
هذه حالنا في صحراء الجهل والحقد واللؤم والفظاعة، نكرر مع الراوي بلا توقّف: حياة... حياااااة، علّ المعجزة تتحقق.
أخيراً....
هل فكّر الكاتب، وهو يكتب قصته، بكلّ هذه الأبعاد لقصته؟ هل جاء ترتيب النص من مدخله حتى قفلته وفق خطّةٍ لتكون كما قرأناها؟... قد يكون كذلك، والأجدر ألا يكون.
الكاتب، حين تداهمه قضيةٌ وجوديةٌ كبيرة وتلحّ على وجدانه، يصبح في حالةٍ أقرب إلى المتصوّف في لحظة إشراق نورانية، يفقد اتصاله بالعالم، ويدخل في غيبوبة سكره الصوفية، ويكتب ما تستدعيه رؤاه بحسب درجة إلحاحها وصورها الأكثر إيلاما وإشراقاً.
الحالم لا يختار حلمه؛ غير أنّ الحلم يستدعي رموزه حسب درجة تأثيرها على اللاشعور، في لحظة غياب الرقيب الشعوري.
بون 25/ 2/ 2018
القصة القصيرة جداً جنسٌ أدبيٌّ مختلف، محيّر، سهلٌ ممتنع.
اختلافه يتأتى من كون الحكاية فيه شرطاً من شروط وجوده من جهة، ومن جهةٍ ثانية الحكاية فيه ليست هدفاً بحدّ ذاتها.
ومحيّرٌ كون القصة القصيرة جداً، وهي الأشدّ تكثيفاً بين الأجناس السرديّة، تأخذ قيمتها بمدى اتساع الآفاق التأويلية، وازدياد مساحات التشظّي التي تغطيها في خيال القارئ.
إنها، إذن، حكايةٌ من جهة، وتكثيفٌ شديدٌ من جهةٍ ثانية، ولا بدّ لهذين الشرطين أن يتحقّقا معاً، ليكون للنص مكانٌ في بانثيون الأدب، والسرد على وجه الخصوص.
كيف لكاتبٍ أن يجمع حكايةً مكتملةً بأقلّ عددٍ من الكلمات؟
وكيف للقصة القصيرة جداً أن يتسع مداها الدلالي- التأويلي عمقاً واتساعاً، لتلامس جوهر القارئ، كلّ قارئ، وهي مقيّدة بحدّي هذه المعادلة الصعبة؟
هنا، تصبح اللغة عنصراً حاسماً، وعلى الكاتب -وهو يتصدّى لكتابتها- أن يمتلك لغة إيحائية، بمفرداتها ذات الطيف الدلالي الأوسع، وهنا أيضاً تصبح الذخيرة الثقافية، والتجربة الروحية عنصراً مهماً، يتسلّح به الكاتب عند اختياره الرموز والإشارات التي، من خلالها، تتحوّل القصة المباشرة التي يحكيها النص، بفعل الكتابة، إلى حكاياتٍ لا تنتهي تتولّد، بفعل القراءة. فأدوات السرد التقليدية لم تعد كافيةً، بل ليست نافعةً في هذا الجنس الأدبي.
لا بدّ للكاتب، إذن، أن يتوسّل بالرمز، والأسطورة، والتناص، والسريالية، بل بأنواع الفنون كلها، حسب حاجة النص الذي يكتبه، بما يشحن كلماته القليلة بأقصى طاقة تأويلية ممكنة.... وهذا ما قلنا عنه: السهل الممتنع.
الكاتب، وهو ينتج قصةً قصيرةً جداً، يمارس على مفرداته ضغطاً هائلاً، تنتشر في ذهن القارئ، آن القراءة، وتتشظّى إلى دلالاتٍ وتأثيراتٍ عديدة، كأنّ الكاتب، وهو يمارس فعل الكتابة، يجمع حزمة ضوء، ويركزها في شعاعٍ دقيق، كما العدسة المكبرة، فيكون دور القارئ أن يضع موشوره الخاص بفعل القراءة، فيعيد نشر هذا الشعاع المركز وتشظيته إلى طيف واسع من الدلالات، كما يفعل الموشور بشعاع الضوء. وهذا ضروري، وربما أساسيٌّ، في كتابة القصة القصيرة جداً، لأنّ القارئ، حين اتّجه لقراءة القصة القصيرة جداً، لم يتخلّ عن متعته بقراءة القصة التقليدية، بمختلف مدارسها، بصورها البيانية، وحرارتها، وحبكتها وذروتها التي تحبس أنفاسه حتى يصل إلى لحظة التنوير والنهاية، إلا لأنه يريد قصةً تلخّص تجربته الروحية، في صراعه الدائم بين حجري رحى عصرٍ يدوران دون توقف، بسرعةٍ لا تنتظر، ولا تمهله حتى يفكر بأسئلته الوجودية التي تتراكم. إنه بحاجة إلى نصٍّ يحمل تجربته الوجودية هو، في زاوية منها، أحلامه الملغاة، أفكاره وهواجسه هو، وتفتح له نوافذ الأجوبة على أسئلته الوجودية الضبابية المغبشة تلك.
لهذا...
كانت الحكاية، وهي شرط القصة القصيرة جداً، هي مجرّد متكأ يقف عليه الكاتب ليطلق النص في رحلة معراجه نحو أفاق التأويل. الحكاية في القصة القصيرة جداً مجرّد حامل، ومضة الضوء التي تفتح في خيال القارئ، كلّ قارئ، فكرةً مرّت عرضاً في خياله، ولم يتسنّ له الإمساك بها، أو جواباً لم يدركه عن أسئلة تراوده، أو مشاركةً في رؤيةٍ خاصةٍ وفلسفةٍ للحياة والإنسان والكون.
كون القصة القصيرة جداً حكايةً مكثّفة، فهي تكثيفٌ لتجربةٍ إنسانيةٍ شاملة، وليس ضرورياً أن يتصدّى الكاتب للموضوعات الكبرى النخبوية كي ينتج نصّاً كبيراً، فكم من موضوعاتٍ كبيرة، أراد الكاتب أن يتصدّى لها، فلم تترك لدى القارئ أيّ أثر، وكم من موضوعاتٍ بسيطةٍ، يومية، مما يمرّ بها الإنسان العادي في لحظات يومه المتعاقبة، استطاع الكاتب أن يحوّلها إلى نصٍ كبير، السرّ في نجاح نصٍّ وفشل آخر يكمن في اللغة المستعملة، وقدرة الكاتب على توظيف أدواته المعرفية والكتابية في نصّه.
اللغة في القصة القصيرة جداً، لها مستويان: مستوى حضور، ومستوى غياب.
مستوى الحضور هو الحكاية المباشرة، القائمة في النصّ، بعنوانه ومتنه وقفلته. أما مستوى الغياب، فهو الحكاية، أو الحكايات الموازية التي يفتحها النص في ذهن القارئ بعد الانتهاء من القراءة، وهذا يكون من خلال عمق تجربة الكاتب الروحية، وحساسيته الفائقة في ردّ فعله تجاه الأشياء والأحداث، وقدرته على استنباط ما هو إنساني، مشترك، شمولي، عميق، من حكاية بسيطة ذاتية أو عامة.
هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، ذكاؤه في استخدام طاقة النص كاملة، دون تفريطٍ بأيّ عنصرٍ من عناصره، من عنوانٍ ومتنٍ وقفلة، وحسن توظيفها التوظيف الأنسب الذي يخدم النص، ويحوّل حكايته الذاتية إلى حكايةٍ إنسانية، وقدرته على شحن عنوان النص بشحنةٍ دلالية، واختيار القفلة المناسبة التي تتماهى مع رؤيته للحكاية، ومغزاها الإنساني.
العنوان هو الخطوة الأولى التي يمرّ خلالها القارئ في تأويله للنص، والعنوان الجيد يزوّد القارئ بذخيرة مبكرة في تفكيكه للنص وإعادة تركيبه، العنوان الذي يكشف النص أو يلخّص محتواه، يهدم البناء الفني كله، ويأتي عليه، كما كتب د. يوسف حطيني. العنوان النكرة، على سبيل المثال لا الحصر، هو لفظً عامٌّ، تندرج تحته عناصر كثيرة، أما المعرّف فهو يحدّد النص ويقيّده، كما ورد عند ابن هشام. وهذه ليست قاعدةً أو شرطاً، فالكاتب الذكي يعرف كيف يختار عنوان نصه، بالشكل الذي يفرضه النص.
وما قلناه عن العنوان، ينطبق، بشكلٍ ما، على القفلة، فالنص وموضوعه، هو الذي يفرض قفلته: واخزة أو صادمة أو فضائية -المقصود الفضاء الزمكاني- أو متشظية منفتحة... الكاتب الناجح يعرف كيف يختار قفلة نصه، بما يساهم، بتفاعلها مع العنوان والمتن، في إعطاء النص الشحنة التي يبتغيها الكاتب من نصه.
من هنا....
فالقصة القصيرة جداً تحتاج إلى لغةٍ خاصة. هي أكثر الأجناس السردية حساسيةً للمفردة. المفردة فيها لها قيمة تعادل النصّ كله أحياناً، مفردةٌ زائدة أو شاذة عن السياق تهدم النص، ومفردةٌ مشحونةٌ ذات أبعادٍ دلاليةٍ، في المكان المناسب وباستخدامٍ مناسب، ترفع النص إلى ذرى عالية، تضعه في مراتب النصوص الخالدة، على الرغم من قصره وتكثيفه الشديد.
أخيراً....
فالقصة القصيرة جداً، تجربةٌ كتابية تمثّل، في غايتها، تجربةً روحّيةً إنسانية، وهذا سرّ نشوئها، وهذا مبرر وجودها.
لذا...
يجب الحذر، حذر الكاتب وهو يخوض هذه التجربة الكتابية، يجب عدم الاستسهال، والتعامل مع هذا الجنس الأدبي الحسّاس، بما يستحقّ من حساسية.
ثانياً: القراءة
لتكن تلك المقدمة الطويلة نسبياً مدخلنا لدراسة النص.
"حياة
للرأس المقطوع المرخيّ على الرصيف، رسمت جسداً، ويدين صغيرتين تضمّان لعبةً جميلة، وكم كنت سعيداً، حينما نهض مسرعاً، وركض وهو يلوّح لي بفرح". "ميلاد فؤاد ديب / سوريا"
أولاً: التجنيس
العنوان "حياة" من كلمةٍ واحدةٍ مفردةٍ نكرة، مناسبٌ للعنونة في القصة القصيرة جداً، ومناسبٌ لهذا النص بالذات، بما يملكه من طيفٍ دلاليٍّ واسع، ستظهر لنا أثناء تفكيك النص.
المتن: دخل الكاتب إلى نصّه بشبه جملةٍ وفعلٍ مؤخّر. قدّم الكاتب شبه الجملة ليصف لنا بطل النص "رأس طفل"، وليقدّم لنا أيضاً فضاء النص – المكان (الرصيف)، لما لهذين العنصرين (بطل النص وفضاؤه) من دلالاتٍ عميقةٍ، ومؤثّراتٍ حادّةٍ على الحكاية، أثناء الكتابة والقراءة معاً.
ثمّ تابع حكايته متّكئاً على الفعل المؤخّر "رسمت"، منتقلاً من الأثر السكونيّ الشعوريّ الذي استدعاه مدخل النص بما فيه من تأثيرٍ إنسانيٍّ، إلى الأثر الحركيّ. بعد هذا التمهيد والتأثيث الضروريين لاكتمال الحكاية، جاءت الأفعال الحركية "نهض مسرعاً، ركض، يلوّح" متعاقبةً تتسارع فيه الحكاية نحو نهايتها في النص.
القفلة: ركض وهو يلوّح لي بفرح"، قد تبدو طويلةً في نصٍّ هو بالأساس قصير جداً، ومكثف أشدّ ما يمكن من التكثيف؛ لكنها قفلةٌ ضروريةٌ لإكمال الحكاية، بشقيها: الحكاية المباشرة الحاضرة في النص، كما كتبها الكاتب، والحكاية، أو الحكايات الموازية التي سيولّدها النص بفعل القراءة. وهي قفلةٌ خبريةٌ إلا أنها تحمل في داخلها انفتاحاتٍ تحتاجها كلّ القراءات، وكلّ القرّاء الذين سيتمثّلون النص، كلّ من جهته وزاويته، مهما اختلفت القراءات والقرّاء، وسنرى ذلك بعد قليل.
التكثيف: نصّ مكثفٌ تكثيفاً شديداً لم يؤثّر على الحكاية، جاءت الحكاية مكتملة، دون أن يلجأ الكاتب إلى نقاط الحذف حتى.
إذن، النص هو قصةٌ قصيرةٌ جداً بامتياز، مكتملة الشروط.
ثانياً: تفكيك النص:
لا يغيب عن القارئ أنّ حكاية النص مبنيّةٌ على إعادة خلق لثنائية الموت – البعث، وأساطيرها القديمة منذ تموز البابلي وآدون الفينيقي السوري وأدونيس الإغريقي، وما توالد عنها من أساطير لدى كلّ شعوب الأرض تنسج على منوالها، باختلافاتٍ تتناسب وحالة تلك الشعوب، حتى وصلت إلى أكمل صورها، وأخذت حالتها القدسية الدينية في صلب يسوع الناصريّ وقيامته.
وليس هذا معيباً للنص، ولا مغلقاً أبواب القراءة المتجدّدة له. فالأسطورة كانت على الدوام مرجعية للفن والأدب على مرّ العصور. والقصة القصيرة جدّاً، إذ تتكئ على الأسطورة، فإنها لا تعيدها مكرّرةً كما هي، بل تستعير منها رمزيتها، لتخلق نموذجها الأسطوريّ الخاصّ بها.
الإنسان، في بدء تشكّل وعيه، وجد نفسه في مواجهة الموت، فابتكر الأسطورة، يواجه بها ذلك الحدث الرهيب، الخارج عن الوعي والإرادة، وابتكر فكرة عودة الميت، وإعادة بعثه من جديد، كي يتغلّب على مشاعر الحزن التي تعذّبه وهو يقف عاجزاً عند فقده من يحب، غير مصدّقٍ أنّ هذا الغياب سيكون أبدياً، فكانت الأسطورة هي التعبير الفني -الأول ربما- عن هذه التجربة القاسية.
إذا كان الإنسان خلال مسيرة وعيه الطويلة قد استوعب فكرة الموت الحتمية أو تأقلم معها على الأقلّ، فإنّه يقف عاجزاً من جديد أمام فظاعة القتل الذي يحصد الجميع دون تمييز، بهذه البشاعة والكثرة التي لم يعد العقل يستوعبها، ولم يعد إيمانه يكفيه لبثّ الطمأنينة النسبية في وجدانه، لذلك ابتدأ النص بهذه الصورة الرهيبة: "للرأس المقطوع المرميّ على الرصيف". ما أبشع هذه الصورة، وما أشدّ إيلامها!... الرصيف الذي تلقى عليه أعقاب السجائر والاوراق التالفة، وأشاؤنا المهملة التي لا قيمة لها، ليأتي في الصباح عامل النظافة فيكنسها ويضعها في حاوية المهملات!!! .... هذه هي صدمة الإنسان في زمن الحروب العشوائية والموت المجانيّ ، كيف لضميرٍ إنسانيٍّ أن يحتمل؟ وكيف لوجدانه الجمعيّ أن يقبل كلّ هذه البشاعة؟
من هنا كانت أهمية المدخل في النص، ومن هنا كانت أهمية المكان، إنهما الأكثر إلحاحاً والأشدّ تأثيراً، لا يحتملان الانتظار أو التأجيل.
إنها جريمة العصر- كل العصور، جريمة الإنسان- كل الناس، جريمتنا، جريمة الراوي الذي يشعر بالذنب لمجرّد عجزه.
الشعور بالذنب الذي أقلق الضمير الجمعي، وأفقده سكينته وطمأنينته، ولا بدّ له أن يستعيد توازنه المفقود، بحاجةٍ إلى غفرانٍ من نوعٍ ما، أن يقول له هذا الطفل القتيل، إنه يفهم عجزه أمام جنون القتل المستشري، ويغفر له، لذلك كانت القفلة "لوّح لي بيده فرحاً"، هي المعادل الرمزي للغفران الذي يفتش عنه الراوي – الإنسان. هي المعادل الفني لقيامة يسوع الناصري الذي صلب بعد أن سلّمه يوحنّا الإسخريوطي، وعجز المؤمنون به عن ردّ هذا الصلب.
ورد في الكتاب المقدس عن صلب المسيح وقيامته: "الذي أُسلِم من أجل خطايانا وأُقيم من أجل تبريرنا". (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية الإصحاح الرابع الآية 25(
يسوع الطفل استوحي في موضوعات الفن المسيحي منذ القرن الثالث أوالرابع.
والمسيح هو أيضاً من قال: "دعوا الأطفال يأتون إليّ ولا تمنعوهم، لأنّ لأمثال هؤلاء ملكوت السماوات". (إنجيل متى الإصحاح 19 الآية 13(
هذا هو معنى الطفولة في الوجدان الجمعي، الديني والشعبي، في مقابل فظاعة المشهد الذي دخل به الراوي النص، وبنى عليه حكايته.
إذا عدنا إلى العنوان، "حياة"، به تكتمل الحكاية – الأسطورة.
"حياة"... هي الإصرار اللاشعوري الرافض لهذا الموت، غير المصدّق به.
"حياة"... هي الحلم الملغى الملحّ، العاجزون عن تحقيقه.
حياة!... هي الكلمة الساخرة المتسائلة المستنكرة، في وصف حال الأحياء.
"حياة"... هذه الكلمة تلخّص السؤال الوجودي الأهم: ما جدوى هكذا حياة؟، ما قيمة حياتنا أمام قتل البراءة بهذه البشاعة؟ هل نحن حقاً أحياء بعد كل ما فعلناه ونفعله؟... "هذه حياة؟!!"
الظامئ في الصحراء يفقد القدرة على كل شيء؛ لكنه لا يني يكرّر: "ماء... ماااااء"، يستجدي قطرةً صغيرةً، إمّا أن يجدها فتتحقق المعجزة، أو يموت وهو يكرّرها.
هذه حالنا في صحراء الجهل والحقد واللؤم والفظاعة، نكرر مع الراوي بلا توقّف: حياة... حياااااة، علّ المعجزة تتحقق.
أخيراً....
هل فكّر الكاتب، وهو يكتب قصته، بكلّ هذه الأبعاد لقصته؟ هل جاء ترتيب النص من مدخله حتى قفلته وفق خطّةٍ لتكون كما قرأناها؟... قد يكون كذلك، والأجدر ألا يكون.
الكاتب، حين تداهمه قضيةٌ وجوديةٌ كبيرة وتلحّ على وجدانه، يصبح في حالةٍ أقرب إلى المتصوّف في لحظة إشراق نورانية، يفقد اتصاله بالعالم، ويدخل في غيبوبة سكره الصوفية، ويكتب ما تستدعيه رؤاه بحسب درجة إلحاحها وصورها الأكثر إيلاما وإشراقاً.
الحالم لا يختار حلمه؛ غير أنّ الحلم يستدعي رموزه حسب درجة تأثيرها على اللاشعور، في لحظة غياب الرقيب الشعوري.
بون 25/ 2/ 2018