لعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن القصة القصيرة هي صوت الذات، ذات الكاتب; لأنها، بفضائها المحدّد وأشخاصها المحدودين وحدثها الوحيد، تعالج قضية أو هاجساً بعينه، أراد الكاتب، عبر السرد، أن يوصله للآخرين.
وهذا الكلام يحيلنا مباشرةً إلى المجموعة القصصية التي بين يدينا للكاتب العراقي عباس عجاج، بعنوانها المثير، "شظايا"
للوهلة الأولى، ظننت أنه عنوان إحدى قصصها; لكني، بعد أن فرغت من قراءتها، أدركت أنه عنوان كلّ قصةٍ في المجموعة، رغم عدم وجود أي قصة تحت هذا العنوان.
فالتشظي، إذن، هو ما يؤرق الكاتب، ويقلق شخصيات القصص كلها، ويجعل أفعالهم ومآلاتهم منكسرة، على تنوّع فضاءات القصص وموضاعاتها.
ولعلّ افتتاح المجموعة بقصة تحمل عنوان "الانكسار" يشي بأجواء المجموعة ومصائر شخصياتها. وإذا كانت قصة "انكسار" تعالج الموضوع الأشدّ إلحاحاً على الكاتب، كما على أبناء المجتمع، في هذه المرحلة الصعبة من الزمن العربي... يتساءل بطل القصة وراويها: "لم نعد نعلم لماذا نقتتل، أو لماذا، أو على ماذا نقاتل، أو حتى إلى متى". هو السؤال الأصعب والأقسى، لواقع أشد قسوة، فإنّ قصص المجموعة تترى، بموضوعاتٍ متنوّعة، لكنها جميعاً تنويعات نغمية، للحنٍ واحد على امتداد المجموعة: التشظي والانكسار، تشظي الإنسان في علاقته مع الواقع زمانياً ومكانياً، وفي علاقاته الإنسانية مع الآخرين، وإذا بدأت المجموعة بالسياسي، فهي لا تنتهي عند الحالة الوجدانية والشعورية. أبطال القصص يعانون انكساراتهم، في مجتمعهم، وزمنهم، وتفاصيلهم الأكثر حميمية وذاتية.
في قصة "المقهى" نرى انكساراً اجتماعياً بانهيار القيم، واستبدال الرموز بأخرى وافدة طارئة ، في إشارةٍ ذكية إلى ضياع الهوية الثقافية والوطنية... وقصص الحب، لا تصل إلى منتهاها الطبيعي، رغم رقة المشاعر، وبراءة العاطفة السويّة، فالانكسار يحرف المشاعر، أو يفرّق بين الأحبة.
في القصة الرقيقة "عازف المزمار" اختلفت الحكايات التي يتداولها الناس عن سبب حزن عازف المزمار الذي كان يملأ الحي بصوته الشجي، لتقول لنا القصة، إنّ للحزن أسباباً مختلفة، لكنّ الحزن واحد. تنتهي القصة بهذه الجملة التي تفيض بالأسى: "حين وصلت إليه, كان ممسكا بمزماره, محدقا بأبواب المدرسة المقفلة, متكأ على عمود الكهرباء, قد ابتل قميصه من فيض الدموع, فاضت دموعه بغزارة قبل أن تفيض منه الحياة.
وفي قصة "المتوحّد" يدخل الراوي في جوّانية شابٍّ يعاني من الوحدة، وحين يجد من يهتمّ به، مات... كأنه اكتفى من حياته بهذه الاهتمام القليل، ولا يريد أكثر... يا لسخرية الحياة، يا لتفاهة الحياة!!
إذا كانت هذه هي فضاءات القصص، وهذه حال شخصياتها، فإنّ الفضاء المكاني والزماني الذي تتحرك فيه الشخصيات، وتجري ضمنه الأحداث، فضاءات متنوعة أيضاً، ترتبط بالحدث، وتساهم في رسم النفس الإنسانية للشخصية، أو حتى تحدّد وعياً بالمكان بمفهومه الجغرافي، والزمان بمفهومه التاريخي... تبدأ قصة "عصفور الشمس" بالعبارة التالية: "في قلب الوطن العربي، وتحت ظلال أشجار الزيتون...." المكان هنا ليس مجرد تأثيث حيادي للحدث، إنما هو موقفٌ واضحٌ من المسميات، ومن الجغرافيا، في نصٍّ يدور حول القضية الفلسطينية، الانكسار الأشدّ إيلاماً في تاريخنا المعاصر.
وإذا كان للمكان دلالاته الإيحائية والرمزية، فللزمان أيضاً دوره في بيان موقف واعٍ من قبل الراوي، زمن القصص لا يكتفي بالحاضر، أو بزمنٍ ماضٍ ساكن، بل يلجأ للذكريات، وللذكريات عند الكاتب دور هام في إكمال مشهد التشظي والغوص في جذور الانكسار، وانكساراتنا الراهنة، هي امتداد لانكساراتٍ ماضية، لم نستطع، أو لم نحاول، أن نتجاوزها.
ويلاحظ أنّ كثيراً من قصص المجموعة ذات نهايات مفتوحة، لم تغلق الحدث أو تنهيه، وإن انتهى السرد، ليدخل المستقبل في الحكاية، وتكتمل بذلك دائرة الانكسار الزمانية، بين ماضٍ وحاضر ومستقبل.
يواصل الكاتب في بحثه عن أسباب الانكسار ليصل إلى آفاقٍ فلسفية، ففي قصته الجميلة "فلسفة" يطرح الراوي سؤالاً وجوديّاً: هل خلق الإنسان وهو يحمل بذور انكساراته في مورّثاته؟ أم أنّ وجودنا، الذي جاء من بين احتمالات لا حصر لها، هو وجودٌ سويّ لا يختلف عن أيّ وجودٍ آخر، لكننا نحن من كسرناه بما فعلناه، ومافعله الآخرون بنا؟
قصة "فلسفة" من نمطٍ مختلف، فيها مجازفة إبداعية، مجازفة في فضاء القصة، ومجازفة في أسلوب السرد، فجاءت على شكل متوالية من أربع قصص، لكلّ واحدةٍ فضاؤها القصصي والزمكاني المختلف، وعنوانها الخاص، لكنها تتكامل لرسم مسيرة إنسان منذ بذور تشكله الأولى، حتى نهايته.
يلاحظ في معظم قصص المجموعة غياب أسماء الشخصيات، وهذا يوسّع فضاء القصة، فلا تبقى الحكاية حكاية شخصٍ بذاته، هي حكايات قد يعيشها أو يعايشها أي إنسان، فلكلّ إنسانٍ انكساره الخاص، وإن اختلف شكله، أو سببه.
ولغة القصص لغة غنية، مرنة، طوّعها الكاتب تطويعاً وظيفياً وجمالياً، جمالها يكمن في ملامستها للشخصية، واقترابها من الواقع، مكانياً وزمانياً، واختلاف مستوياتها، ونبراتها ومفرداتها، يشعر القارئ بحيادية تلك اللغة، بمعنى أنّه لا يلمح الكاتب بيت حروفها أو كلماتها، وتعبّر عن أفكار ومشاعر الشخصيات، وإن كانت وعاء أفكار الكاتب ورؤاه. جاءت لصيقة بالراوي، أو الشخصية المتكلمة، متنوعة المعاني، مختلفة السويّات، متدرّجة من الشدّة والحزم، إلى الرقة والعذوبة، متداخلة مع فضاء القصة، وحالة شخصيتها، في نسيج متكامل. تأتي أحياناً مغلفة بضبابٍ شفيف، تحتاج من القارئ نفساً هادئةً، وعيناً ثالثةً تخترق مخاتلتها وتصل إلى ما تحت خمارها. في القصة التي تحمل عنوان "شيء يشبه السراب" يتلمّس الراوي انكساراً داخليّاً دون أن يستطيع تحسّس مصدره، في خضمّ حياةٍ مزدحمة، حيث يحكي بطل القصة حكايته وهو على سري في مستشفى "... على سقف الغرفة البيضاء تتمرجح فقاعات بلورية, تختفي رويدا رويدا, لتمضي في غياهب ظلام دامس..." لتمض القصة كلها بهذه اللغة التي تسري بين الوعي والحلم.
تكتمل جمالية اللغة بلغةٍ سردية، تحمل من التشبيهات والصور، ما يدني بعض قصصها، ذات المضمون الوجداني على وجه الخصوص، من شعريّةٍ عذبة... تقترب قصة "على أجنحة النسيان" من نهايتها بصورة مكتنزة إيحاءً ومعبّرةٍ أشدّ ما يكون التعبير عن الخواء الداخلي للبطل، وإفلاسه، بالمعنى الواقعي والمجازي: "وثبت أرتمي بين أحضان ملابسي البالية، تفقّدت محفظتي المثقوبة كالعادة... لا شيء"
شظايا.. سبعة عشر قصة قصيرة مكتوبة بقلمٍ رصين، من كاتبٍ حصيف، ذكي، له موقف في كتابته.
بون، 14. 4. 2018
وهذا الكلام يحيلنا مباشرةً إلى المجموعة القصصية التي بين يدينا للكاتب العراقي عباس عجاج، بعنوانها المثير، "شظايا"
للوهلة الأولى، ظننت أنه عنوان إحدى قصصها; لكني، بعد أن فرغت من قراءتها، أدركت أنه عنوان كلّ قصةٍ في المجموعة، رغم عدم وجود أي قصة تحت هذا العنوان.
فالتشظي، إذن، هو ما يؤرق الكاتب، ويقلق شخصيات القصص كلها، ويجعل أفعالهم ومآلاتهم منكسرة، على تنوّع فضاءات القصص وموضاعاتها.
ولعلّ افتتاح المجموعة بقصة تحمل عنوان "الانكسار" يشي بأجواء المجموعة ومصائر شخصياتها. وإذا كانت قصة "انكسار" تعالج الموضوع الأشدّ إلحاحاً على الكاتب، كما على أبناء المجتمع، في هذه المرحلة الصعبة من الزمن العربي... يتساءل بطل القصة وراويها: "لم نعد نعلم لماذا نقتتل، أو لماذا، أو على ماذا نقاتل، أو حتى إلى متى". هو السؤال الأصعب والأقسى، لواقع أشد قسوة، فإنّ قصص المجموعة تترى، بموضوعاتٍ متنوّعة، لكنها جميعاً تنويعات نغمية، للحنٍ واحد على امتداد المجموعة: التشظي والانكسار، تشظي الإنسان في علاقته مع الواقع زمانياً ومكانياً، وفي علاقاته الإنسانية مع الآخرين، وإذا بدأت المجموعة بالسياسي، فهي لا تنتهي عند الحالة الوجدانية والشعورية. أبطال القصص يعانون انكساراتهم، في مجتمعهم، وزمنهم، وتفاصيلهم الأكثر حميمية وذاتية.
في قصة "المقهى" نرى انكساراً اجتماعياً بانهيار القيم، واستبدال الرموز بأخرى وافدة طارئة ، في إشارةٍ ذكية إلى ضياع الهوية الثقافية والوطنية... وقصص الحب، لا تصل إلى منتهاها الطبيعي، رغم رقة المشاعر، وبراءة العاطفة السويّة، فالانكسار يحرف المشاعر، أو يفرّق بين الأحبة.
في القصة الرقيقة "عازف المزمار" اختلفت الحكايات التي يتداولها الناس عن سبب حزن عازف المزمار الذي كان يملأ الحي بصوته الشجي، لتقول لنا القصة، إنّ للحزن أسباباً مختلفة، لكنّ الحزن واحد. تنتهي القصة بهذه الجملة التي تفيض بالأسى: "حين وصلت إليه, كان ممسكا بمزماره, محدقا بأبواب المدرسة المقفلة, متكأ على عمود الكهرباء, قد ابتل قميصه من فيض الدموع, فاضت دموعه بغزارة قبل أن تفيض منه الحياة.
وفي قصة "المتوحّد" يدخل الراوي في جوّانية شابٍّ يعاني من الوحدة، وحين يجد من يهتمّ به، مات... كأنه اكتفى من حياته بهذه الاهتمام القليل، ولا يريد أكثر... يا لسخرية الحياة، يا لتفاهة الحياة!!
إذا كانت هذه هي فضاءات القصص، وهذه حال شخصياتها، فإنّ الفضاء المكاني والزماني الذي تتحرك فيه الشخصيات، وتجري ضمنه الأحداث، فضاءات متنوعة أيضاً، ترتبط بالحدث، وتساهم في رسم النفس الإنسانية للشخصية، أو حتى تحدّد وعياً بالمكان بمفهومه الجغرافي، والزمان بمفهومه التاريخي... تبدأ قصة "عصفور الشمس" بالعبارة التالية: "في قلب الوطن العربي، وتحت ظلال أشجار الزيتون...." المكان هنا ليس مجرد تأثيث حيادي للحدث، إنما هو موقفٌ واضحٌ من المسميات، ومن الجغرافيا، في نصٍّ يدور حول القضية الفلسطينية، الانكسار الأشدّ إيلاماً في تاريخنا المعاصر.
وإذا كان للمكان دلالاته الإيحائية والرمزية، فللزمان أيضاً دوره في بيان موقف واعٍ من قبل الراوي، زمن القصص لا يكتفي بالحاضر، أو بزمنٍ ماضٍ ساكن، بل يلجأ للذكريات، وللذكريات عند الكاتب دور هام في إكمال مشهد التشظي والغوص في جذور الانكسار، وانكساراتنا الراهنة، هي امتداد لانكساراتٍ ماضية، لم نستطع، أو لم نحاول، أن نتجاوزها.
ويلاحظ أنّ كثيراً من قصص المجموعة ذات نهايات مفتوحة، لم تغلق الحدث أو تنهيه، وإن انتهى السرد، ليدخل المستقبل في الحكاية، وتكتمل بذلك دائرة الانكسار الزمانية، بين ماضٍ وحاضر ومستقبل.
يواصل الكاتب في بحثه عن أسباب الانكسار ليصل إلى آفاقٍ فلسفية، ففي قصته الجميلة "فلسفة" يطرح الراوي سؤالاً وجوديّاً: هل خلق الإنسان وهو يحمل بذور انكساراته في مورّثاته؟ أم أنّ وجودنا، الذي جاء من بين احتمالات لا حصر لها، هو وجودٌ سويّ لا يختلف عن أيّ وجودٍ آخر، لكننا نحن من كسرناه بما فعلناه، ومافعله الآخرون بنا؟
قصة "فلسفة" من نمطٍ مختلف، فيها مجازفة إبداعية، مجازفة في فضاء القصة، ومجازفة في أسلوب السرد، فجاءت على شكل متوالية من أربع قصص، لكلّ واحدةٍ فضاؤها القصصي والزمكاني المختلف، وعنوانها الخاص، لكنها تتكامل لرسم مسيرة إنسان منذ بذور تشكله الأولى، حتى نهايته.
يلاحظ في معظم قصص المجموعة غياب أسماء الشخصيات، وهذا يوسّع فضاء القصة، فلا تبقى الحكاية حكاية شخصٍ بذاته، هي حكايات قد يعيشها أو يعايشها أي إنسان، فلكلّ إنسانٍ انكساره الخاص، وإن اختلف شكله، أو سببه.
ولغة القصص لغة غنية، مرنة، طوّعها الكاتب تطويعاً وظيفياً وجمالياً، جمالها يكمن في ملامستها للشخصية، واقترابها من الواقع، مكانياً وزمانياً، واختلاف مستوياتها، ونبراتها ومفرداتها، يشعر القارئ بحيادية تلك اللغة، بمعنى أنّه لا يلمح الكاتب بيت حروفها أو كلماتها، وتعبّر عن أفكار ومشاعر الشخصيات، وإن كانت وعاء أفكار الكاتب ورؤاه. جاءت لصيقة بالراوي، أو الشخصية المتكلمة، متنوعة المعاني، مختلفة السويّات، متدرّجة من الشدّة والحزم، إلى الرقة والعذوبة، متداخلة مع فضاء القصة، وحالة شخصيتها، في نسيج متكامل. تأتي أحياناً مغلفة بضبابٍ شفيف، تحتاج من القارئ نفساً هادئةً، وعيناً ثالثةً تخترق مخاتلتها وتصل إلى ما تحت خمارها. في القصة التي تحمل عنوان "شيء يشبه السراب" يتلمّس الراوي انكساراً داخليّاً دون أن يستطيع تحسّس مصدره، في خضمّ حياةٍ مزدحمة، حيث يحكي بطل القصة حكايته وهو على سري في مستشفى "... على سقف الغرفة البيضاء تتمرجح فقاعات بلورية, تختفي رويدا رويدا, لتمضي في غياهب ظلام دامس..." لتمض القصة كلها بهذه اللغة التي تسري بين الوعي والحلم.
تكتمل جمالية اللغة بلغةٍ سردية، تحمل من التشبيهات والصور، ما يدني بعض قصصها، ذات المضمون الوجداني على وجه الخصوص، من شعريّةٍ عذبة... تقترب قصة "على أجنحة النسيان" من نهايتها بصورة مكتنزة إيحاءً ومعبّرةٍ أشدّ ما يكون التعبير عن الخواء الداخلي للبطل، وإفلاسه، بالمعنى الواقعي والمجازي: "وثبت أرتمي بين أحضان ملابسي البالية، تفقّدت محفظتي المثقوبة كالعادة... لا شيء"
شظايا.. سبعة عشر قصة قصيرة مكتوبة بقلمٍ رصين، من كاتبٍ حصيف، ذكي، له موقف في كتابته.
بون، 14. 4. 2018