لا أعتقد بوجود يسارى أو مثقف عموما عاش زمن الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم دون أن يلتقيهما أو على الأقل لم يحضر حفلا لهما، كان ذلك الثنائى شديد الإنتشار وكأنما يحاولا توصيل رسالتهما فى زمن مكثف جدا قبل أن تدهمها الأحداث أو يرحلا، كان الشيخ يغنى فى كل مكان وبصحبته نجم، فى التجمعات ومقار الأحزاب “وبوجه خاص حزب التجمع”، وفى الجامعات والنقابات، وبيوت الأصدقاء، وفى سكناهم بحوش أدم، وحتى فى ميدان التحرير ليلة إعتصام الكعكة الحجرية.
يمكن أن نعتبر “بقليل من التحفظ” أن أحمد فؤاد نجم هو من دشّن حركة “الشعر السياسى”، تلك الذائقة الشعرية والحس الثورى المتقد الذى ألهم نجم أن يغيّر مسار حياته بعد زلزال 1967 الذى أضرم ناره فى الجميع، وجعل شاعرا مثل نزار يعتذر عمّا كتب سابقا ليقول ” ياوطنى الحزين..حولتنى بلحظة من شاعر يكتب شعر الحب والحنين..لشاعر يكتب بالسكين”، وغيرت الهزيمة مسار نجم من صعلوك يرتكب جرائم صغيرة تودى به الى السجن غالبا، لينتقل الى الكتابة الشعرية الغاضبة شديدة المرارة، كان من بواكيرها قصيدته التى إعتذر عنها فيما بعد وطلب من الشيخ إمام عدم ترديدها فى الحفلات العامة “الحمد لله خبطنا تحت بطاطتنا..يا محلا رجعت ضباطتنا من خط النار”، تلك القصيدة حين وصلت لمكتب عبد الناصر أغضبته كثيرا وصمم على سجن نجم وإمام وأقسم بعدم الإفراج عنهما ما دام حيا، وفعلا لم يفرج عنهما الاّ بعد رحيل عبد الناصر، “لم تمنع هذه الخصومة أن ينعى نجم فى قصيدة شجنية عبد الناصر وهى التى بدت وكأنها إعتذار ” وان كان جرح قلبنا كل الجراح طابت ولا يطولوه العدا مهما الأمور جابت”، وفى ذلك العام أيضا ترك مصرع جيفارا جرحا غائرا فى القلوب فكتب نجم “جيقارا مات”.
ولد نجم عام 1929 فى قرية عزبة نجم بمحافظة الشرقية، مات أبوه وهو ما يزال طفلا فى السادسة فعمل فى أحد معسكرات الإنجليز مكوجى وبنّا وغيرها وأخيرا دخل أحد ملاجئ الأيتام (وهو بالصدفة نفس الملجأ الذى تربى فيه عبد الحليم حافظ)، وبعد خروجه من الملجأعمل بين أعوام 51 -1954 عاملا بالسكك الحديدية ثم ساعى بريد، ونشرت له أول قصيدة بجريدة الأخبار فى 1954 وكانت عن الكرة والملاعب، وفى سنة 1959 نقل الى مؤسسة النقل الميكانيكى بالعباسية حيث قبض عليه بتهمة تزوير شيك ليقضى 33 شهرا بسجن قراميدان، وصدر له وهو سجين ديوانه الأول “صور من السجن والحياة” الذى أخرجه من السجن وظهر فيه بداية ملامح حس طبقى وسياسى ، المهم أن ذلك الديوان حين تقدم به أحد أفراد عائلته الى مسابقة المجلس الأعلى للفنون والآداب فاز بالجائزة الأولى وأوصى المجلس بطباعته على نفقة الدولة، كما أوصت اللجنة برعايته إجتماعيا لذا تم تعيينه بعد خروجه من السجن بلجنة التضامن الآسيوى الإفريقى، فى ذلك الديوان ظهرت تعبيرات دالة عن بدايات إنتماء طبقى، كما تعبر عن ذلك أحد قصائده على لسان فلاح فقير يقول فيها (الحريراللي أنت نايم فيه بتاعي .. واللي غازل كل فتلة فيه صباعى.. والنعيم اللي أنت عايش تحت ظله ..كل ده من صنع أيـــــدي ودراعي).
الشيخ إمام ابن بائع المصابيح المولود فى قرية أبو النمرس عام 1918 والذى فقد بصره بعد 4 شهور من ولادته، دخل الكتّاب وحفظ القرآن وعمره 12 عاما، وإشتغل بتلاوة القرآن فى البيوت والمقابر والحوانيت حتى إلتقى بأستاذه ومعلمه الشيخ درويش الحريرى الذى علمّه أصول الموسيقى والأداء اللحنى، حيث عمل مرددا فى الكورس وراء الشيخ، وكان الشيخ درويش قد خصص بيتا للمكفوفين لرعايتهم، وبعدها تعلم العزف على العود، ساعده ذلك فى الغناء منفردا فى حفلات الطهور والسبوع وغيرها، وغنى ألحان كبار المشاهير المعروفة فى ذلك الوقت كالشيخ زكريا أحمد ومحمود صبح وأبو العلا محمد وغيرهم، وتعرف الشيخ إمام بموظف بوزارة السياحة هو الأستاذ سعد الموجى الذى عرّفه على نجم بعدها عام 1962، حيث توثقت علاقتهما وإنتقل نجم للإقامة مع الشيخ إمام بحارة حوش أدم فى الغورية، ووكان يصحبه الى الحفلات التى يغنى فيها الشيخ إمام، وكانت الغرفة التى يقيم فيها الشيخ إمام ملكا لفنى صياغة ذهب هومحمد على الذى سرعان ما إستهوته حياة نجم وإمام فانضم اليهما عازفا على الطبلة، وكانت أول أغنية ألفها نجم ولحنها له الشيخ إمام هى ” أنا أتوب عن حبك أنا”.
كما غيّرت هزيمة 1967 حياة الكثير من المصريين فقد كانت بداية التغيير الذى حدث للرجلين، حيث بدأ نجم فى كتابة الأغنية السياسية وتحمس الشيخ إمام لتلحينها، فكانت باكورة تلك الأغانى “الحمد لله خبطا تحت بطاطنا”، وبدأت تلك الأغانى تخرج عن حيّز حوش أدم وتصل الى بعض مثقفى اليسار، وكان أول من تحمّس لهما الكاتب رجاء النقاش حيث رتّب لهم إقامة حفلة بنقابة الصحفيين كانت بداية الإنتشار الكبير، بعدها بدأ صعود كبير لهما فى المجال الفنى والثقافى وحظت أغانى الشيخ إمام بإستحسان عدد لا بأس به من متذوقى الفن والموسيقى على رأسهم عبد الرحمن الخميسى وكامل زهيرى وحسن حنفى والأستاذ فؤاد زكريا والكاتب الكبير أحمد بهاء الدين ومحمد عودة وآخرين.
لحن الشيخ إمام وغنى لمعظم معاصريه من الشعراء الثوريين ، وليس لنجم وحده الذى لحن وغنى له حوالى 200 أغنية، ولكنه غنى للعشرات، أولهم رائد الأغنية الثورية فؤاد حداد الذى غنى له “الخط دا خطى”، كما ترنم بأشعار أحمد فؤاد قاعود ونجيب شهاب الدين وزين العابدين فؤاد ونجيب سرور ومحمود الطويل ومحمود الشاذلى ومحمد الصعيدى ومصطفى زكى وغيرهم ومن الشعراء العرب غنى لمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق حداد وفدوى طوقان الفلسطينيين، وكذلك اليمنى عبد الله البردونى، والتونسى آدم فتحى وآخرين.
لاشك أن إمام ونجم كانا أبناء تلك المرحلة، أعقاب الهزيمة والغضب الشعبى العارم، تلك الفترة الساخنة التي عرفت ظهور النقد السياسي اللاذع وانتشار النكات الشعبية، وصعود الحركة الطلابية ولو لم يوجدا لأوجدهما الشعب المصرى، إنها لحظة إذدهر فيها اليسار الماركسى والقومى وغليان الشارع، كان لابد من فنان يعبر عن هذه المرحلة، وفعلا ظهر عدد من الفنانين مواكبين لنجم وإمام ليس فى مصر وحدها، كمارسيل خليفة فى لبنان.
يطغى على ألحان الشيخ إمام عادة طابع التوشيحة والمديح وهى المدرسة التى تربى عليها طويلا، كما أنه يتميز بخفة ظل واضحة وبديهة سريعة تظهر فى الكثير من ألحانه، وبصوت مطواع يؤدى القرار والجواب بأريحية، وكان صاحب ذاكرة نادرة تحفظ عن ظهر قلب ألحان كبار الموسيقيين العباقرة، وكان موسوعة للموشحات القديمة متذوقا لها ومبدعا في أدائها.
مرّت ظاهرة إمام ونجم كشهاب خارق فى سماء الوطن، لتعود أكثر بريقا وتألقا فى ميدان التحرير إبّان ثورة يناير المجيدة حيث إنتشر فى الميدان عشرات الفرق الموسيقية لشباب يغنون أغانى إمام ويرددون أشعار نجم، لقد وجد الشعب صوته فى ألحان الشيخ إمام وكلمات أبو النجوم الفاجومى “أحمد فؤاد نجم”، الذى كان أنور السادات يسميه بالشاعر البذيء، بينما قال عنه الشاعر الفرنسي لويس أراجون إن به قوة تسقط الأسوار
يا مسأسأ الصبر
فوق الجرح من برّه
الجرح يا عم
جايب دم من جوه.
د. رياض حسن محرم
يمكن أن نعتبر “بقليل من التحفظ” أن أحمد فؤاد نجم هو من دشّن حركة “الشعر السياسى”، تلك الذائقة الشعرية والحس الثورى المتقد الذى ألهم نجم أن يغيّر مسار حياته بعد زلزال 1967 الذى أضرم ناره فى الجميع، وجعل شاعرا مثل نزار يعتذر عمّا كتب سابقا ليقول ” ياوطنى الحزين..حولتنى بلحظة من شاعر يكتب شعر الحب والحنين..لشاعر يكتب بالسكين”، وغيرت الهزيمة مسار نجم من صعلوك يرتكب جرائم صغيرة تودى به الى السجن غالبا، لينتقل الى الكتابة الشعرية الغاضبة شديدة المرارة، كان من بواكيرها قصيدته التى إعتذر عنها فيما بعد وطلب من الشيخ إمام عدم ترديدها فى الحفلات العامة “الحمد لله خبطنا تحت بطاطتنا..يا محلا رجعت ضباطتنا من خط النار”، تلك القصيدة حين وصلت لمكتب عبد الناصر أغضبته كثيرا وصمم على سجن نجم وإمام وأقسم بعدم الإفراج عنهما ما دام حيا، وفعلا لم يفرج عنهما الاّ بعد رحيل عبد الناصر، “لم تمنع هذه الخصومة أن ينعى نجم فى قصيدة شجنية عبد الناصر وهى التى بدت وكأنها إعتذار ” وان كان جرح قلبنا كل الجراح طابت ولا يطولوه العدا مهما الأمور جابت”، وفى ذلك العام أيضا ترك مصرع جيفارا جرحا غائرا فى القلوب فكتب نجم “جيقارا مات”.
ولد نجم عام 1929 فى قرية عزبة نجم بمحافظة الشرقية، مات أبوه وهو ما يزال طفلا فى السادسة فعمل فى أحد معسكرات الإنجليز مكوجى وبنّا وغيرها وأخيرا دخل أحد ملاجئ الأيتام (وهو بالصدفة نفس الملجأ الذى تربى فيه عبد الحليم حافظ)، وبعد خروجه من الملجأعمل بين أعوام 51 -1954 عاملا بالسكك الحديدية ثم ساعى بريد، ونشرت له أول قصيدة بجريدة الأخبار فى 1954 وكانت عن الكرة والملاعب، وفى سنة 1959 نقل الى مؤسسة النقل الميكانيكى بالعباسية حيث قبض عليه بتهمة تزوير شيك ليقضى 33 شهرا بسجن قراميدان، وصدر له وهو سجين ديوانه الأول “صور من السجن والحياة” الذى أخرجه من السجن وظهر فيه بداية ملامح حس طبقى وسياسى ، المهم أن ذلك الديوان حين تقدم به أحد أفراد عائلته الى مسابقة المجلس الأعلى للفنون والآداب فاز بالجائزة الأولى وأوصى المجلس بطباعته على نفقة الدولة، كما أوصت اللجنة برعايته إجتماعيا لذا تم تعيينه بعد خروجه من السجن بلجنة التضامن الآسيوى الإفريقى، فى ذلك الديوان ظهرت تعبيرات دالة عن بدايات إنتماء طبقى، كما تعبر عن ذلك أحد قصائده على لسان فلاح فقير يقول فيها (الحريراللي أنت نايم فيه بتاعي .. واللي غازل كل فتلة فيه صباعى.. والنعيم اللي أنت عايش تحت ظله ..كل ده من صنع أيـــــدي ودراعي).
الشيخ إمام ابن بائع المصابيح المولود فى قرية أبو النمرس عام 1918 والذى فقد بصره بعد 4 شهور من ولادته، دخل الكتّاب وحفظ القرآن وعمره 12 عاما، وإشتغل بتلاوة القرآن فى البيوت والمقابر والحوانيت حتى إلتقى بأستاذه ومعلمه الشيخ درويش الحريرى الذى علمّه أصول الموسيقى والأداء اللحنى، حيث عمل مرددا فى الكورس وراء الشيخ، وكان الشيخ درويش قد خصص بيتا للمكفوفين لرعايتهم، وبعدها تعلم العزف على العود، ساعده ذلك فى الغناء منفردا فى حفلات الطهور والسبوع وغيرها، وغنى ألحان كبار المشاهير المعروفة فى ذلك الوقت كالشيخ زكريا أحمد ومحمود صبح وأبو العلا محمد وغيرهم، وتعرف الشيخ إمام بموظف بوزارة السياحة هو الأستاذ سعد الموجى الذى عرّفه على نجم بعدها عام 1962، حيث توثقت علاقتهما وإنتقل نجم للإقامة مع الشيخ إمام بحارة حوش أدم فى الغورية، ووكان يصحبه الى الحفلات التى يغنى فيها الشيخ إمام، وكانت الغرفة التى يقيم فيها الشيخ إمام ملكا لفنى صياغة ذهب هومحمد على الذى سرعان ما إستهوته حياة نجم وإمام فانضم اليهما عازفا على الطبلة، وكانت أول أغنية ألفها نجم ولحنها له الشيخ إمام هى ” أنا أتوب عن حبك أنا”.
كما غيّرت هزيمة 1967 حياة الكثير من المصريين فقد كانت بداية التغيير الذى حدث للرجلين، حيث بدأ نجم فى كتابة الأغنية السياسية وتحمس الشيخ إمام لتلحينها، فكانت باكورة تلك الأغانى “الحمد لله خبطا تحت بطاطنا”، وبدأت تلك الأغانى تخرج عن حيّز حوش أدم وتصل الى بعض مثقفى اليسار، وكان أول من تحمّس لهما الكاتب رجاء النقاش حيث رتّب لهم إقامة حفلة بنقابة الصحفيين كانت بداية الإنتشار الكبير، بعدها بدأ صعود كبير لهما فى المجال الفنى والثقافى وحظت أغانى الشيخ إمام بإستحسان عدد لا بأس به من متذوقى الفن والموسيقى على رأسهم عبد الرحمن الخميسى وكامل زهيرى وحسن حنفى والأستاذ فؤاد زكريا والكاتب الكبير أحمد بهاء الدين ومحمد عودة وآخرين.
لحن الشيخ إمام وغنى لمعظم معاصريه من الشعراء الثوريين ، وليس لنجم وحده الذى لحن وغنى له حوالى 200 أغنية، ولكنه غنى للعشرات، أولهم رائد الأغنية الثورية فؤاد حداد الذى غنى له “الخط دا خطى”، كما ترنم بأشعار أحمد فؤاد قاعود ونجيب شهاب الدين وزين العابدين فؤاد ونجيب سرور ومحمود الطويل ومحمود الشاذلى ومحمد الصعيدى ومصطفى زكى وغيرهم ومن الشعراء العرب غنى لمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق حداد وفدوى طوقان الفلسطينيين، وكذلك اليمنى عبد الله البردونى، والتونسى آدم فتحى وآخرين.
لاشك أن إمام ونجم كانا أبناء تلك المرحلة، أعقاب الهزيمة والغضب الشعبى العارم، تلك الفترة الساخنة التي عرفت ظهور النقد السياسي اللاذع وانتشار النكات الشعبية، وصعود الحركة الطلابية ولو لم يوجدا لأوجدهما الشعب المصرى، إنها لحظة إذدهر فيها اليسار الماركسى والقومى وغليان الشارع، كان لابد من فنان يعبر عن هذه المرحلة، وفعلا ظهر عدد من الفنانين مواكبين لنجم وإمام ليس فى مصر وحدها، كمارسيل خليفة فى لبنان.
يطغى على ألحان الشيخ إمام عادة طابع التوشيحة والمديح وهى المدرسة التى تربى عليها طويلا، كما أنه يتميز بخفة ظل واضحة وبديهة سريعة تظهر فى الكثير من ألحانه، وبصوت مطواع يؤدى القرار والجواب بأريحية، وكان صاحب ذاكرة نادرة تحفظ عن ظهر قلب ألحان كبار الموسيقيين العباقرة، وكان موسوعة للموشحات القديمة متذوقا لها ومبدعا في أدائها.
مرّت ظاهرة إمام ونجم كشهاب خارق فى سماء الوطن، لتعود أكثر بريقا وتألقا فى ميدان التحرير إبّان ثورة يناير المجيدة حيث إنتشر فى الميدان عشرات الفرق الموسيقية لشباب يغنون أغانى إمام ويرددون أشعار نجم، لقد وجد الشعب صوته فى ألحان الشيخ إمام وكلمات أبو النجوم الفاجومى “أحمد فؤاد نجم”، الذى كان أنور السادات يسميه بالشاعر البذيء، بينما قال عنه الشاعر الفرنسي لويس أراجون إن به قوة تسقط الأسوار
يا مسأسأ الصبر
فوق الجرح من برّه
الجرح يا عم
جايب دم من جوه.
د. رياض حسن محرم