ونعني بالطبيعة العالم المرئي الذي يقع تحت بصرنا، ولسنا نبغي من وراء تعريفنا للطبيعة تحديدها أو تبسيطها، ولكنا نريد أن نعرف هل هناك تباين بين العالم المرئي وبين الفنان، وهل هناك اختلاف جوهري بين جمال العالم المرئي، وذلك الجمال الذي نراه ونحس به عندما ننظر إلى لوحة مصور أو تمثال مثال؟
إذا أجبنا عن هذا السؤال بالإيجاب، وهو الحق والصواب كما اعتقد - رأينا أنفسنا مضطرين إلى أن نشرح وظيفة الفنان الذي يقف بيننا وبين الطبيعة. . فلو وقف الفن عند سرد مناظر الطبيعة، أو اقتصر على التقاط مناظرها وصرها كما هي، لرأينا آلة التصوير تسرع إلى انتزاع مكانة التصوير. ولكن الحقيقة أن الفن ليس تمثيلا للطبيعة، ولكنه تفسير لها. ولسنا نغالي إذا قلنا إن الفن يبتدئ حيث يترك الفنان صحبته القوية للطبيعة، بعد أن يشيع في جوها أنغاما من عمله الخاص تبعا لشعوره الشخصي وذوقه الموسيقي. فالطبيعة معين لن ينضب للفن، - وهي اليوم - كما كانت، وكما ستبقى أبدا - أكبر موح له بروائع الحسن والجمال. ولكن القوانين التي تتحكم في عمل الفن منفصلة تماما عن قوانين الطبيعة. فإذا كانت النغمة التوافقية في موسيقى الرعاة عملا فنيا جليلا، فذاك لأن بيتهوفن لم يحاك نغمات الطبيعة تبعا لشروط الموسيقى وقوانينها، وأفصح عن تلك العواطف الخاصة التي أثارتها فيه صحبته القوية للطبيعة في أنغام سامية، كانت من وحيه وإلهامه، ثم وجهت في هذا الطريق الموسيقى بواسطة المهارة الفنية التي هي أصيلة في كل عمل فني. . .
يقول بعض الناس عن مهمة الفن في ذا العالم هي أن يكمل ما في الطبيعة من نقص. وقد يفهم البعض منهم أن الفن يأتي بأشياء ليست في الطبيعة، أي أنه يزيد في مواد الطبيعة الأساسية. ولكن هذا الفهم خطأ، وهذا الظن إثم وجور على الطبيعة. فليس لدى الفن ما يجود به على الطبيعة من روائع المناظر وعجائب الآثار. . وليس لدى الفنان شيء جديد. ولكن لديه شيئا واحدا، وهو الذي يخدع هؤلاء البسطاء، فيتوهمونه زيادة أو جديدا، هذا الشيء الذي يبدو جديدا هو الحصر أو التحديد لمناظر الطبيعة ومظاهرها. فقد يرى إنس نهرا يجري فلا يحس إحساسا كاملا بروعة مياهه وقوة تياره، وما على شاطئيه من رمال ونباتات أو غابات وصخور. قد لا يفطن الناظر إلى هذا النهر للجمال المختبئ في هذه المناظر الطبيعية الفسيحة الضخمة الهائلة. فينصرف عن النظر إليها إلى صورة رسام أو مصور ماهر قد صور هذا النهر وهو يتدفق ويتغلغل في الأحراج والجبال
وليس معنى هذا أن النهر الجاري أقل جمالا وروعة من صورة الرسام، لا، بل إن الناظر نفسه لم يفطن إلى هذا الجمال الأصيل في تلك المناظر الطبيعية العظيمة، لأنه جمال متشعب فسيح. فلما جاء الفنان وحصره في لوحته الصغيرة، أمكنه أن يشعر به، وأن يقف على أسراره الدفينة؛ ولو أمكن الرائي أن يدرك الجمال الطبيعي في مظهره الطبيعي لوجده جمالا خالصا عبقريا. ولكن عين الإنسان لا تستطيع أن تأخذ النهر الجاري من منبعه إلى مصبه، أو أن تلقي نظرة كاملة على الجبل الشامخ من قمته إلى سفحه. فإن حاولت ذلك لحقها الكلل والملال، وفضلت النظر في الصورة على التطلع إلى المرئي ذاته مهما يكن جماله وروعته
هذا هو الشائع بين الناس. ومن أجل هذا قيل إن الفن يكمل ما عجزت عنه الطبيعة، والحقيقة أن الفنان لا يزيد شيئا على ما في الطبيعة من ثروة وغنى، وإن كان يحصر هذه الثروة ويبرزها في صورة جميلة ومنظر بهي. . .
هذا شيء، والشيء الآخر هو أن الفن ليس محاكاة للطبيعة أو للحياة، ولكنه خلاصة ما في الطبيعة والحياة
فالفن قد يحاكي الطبيعة، وقد يحاكي الحياة، ولكنه لن ينسخ من الطبيعة أو الحياة صورا متشابهة متطابقة، فهو محاكاة وليس نسخا. والفرق بين المحاكاة والنسخ هو أن الفنان الذي يحاكي الطبيعة يأخذ منها ما يجده ملائما لفنه، أي ينتقي أروع ما فيها من الآثار، ثم يسلط عليها قوانينه الفنية فيلم أجزاءها ويعطي لها الوضع المناسب الجميل، فتبرز للرائي جديدة ضافية في حلل الجدة والإبداع
أما النسخ، فهو صورة طبق الأصل للطبيعة. ولو كان الفن نسخا للحياة لما أحسسنا بعظمة الفن الأصلية وسحر قوته الدفينة، ولجاء ثقيلا مضطربا مشوها كالحياة ذاتها. ولما وجدنا فيه هذا الشعور الخفي الذي يسكن آلامنا، ويريحنا من آلام الحياة وعنت الأيام. بل لما اعتبرنا الفن مأوى لنا نلجأ إليه كلما أثقلتنا متاعب الحياة وضقنا بمطالبها ذرعا، ولما كانت لنا حاجة ماسة إليه. فلو كان الفنان يقدم لنا جبلا كالجبل الذي نتسلقه، أو نهرا كالنهر الذي نعبره، أو مرعى مخضوضرا قد انتثرت فوقه الأغنام والمواشي، كتلك المراعي التي نراها كل يوم في قرانا، لما اهتززنا لصوره، ولما أدركنا لها سر أو معنى
ولو كان الفن يصور لنا حادثة يومية، أو عملا من أعمالنا العادية التي نلامسها كل يوم دون أن يخلع عليها شيئا من شعوره وشخصيته، لما شعرنا بحاجة الحياة إليه، ولما عملنا على نموه وازدهاره واكتفينا بالتاريخ
ولكن الفن لا يقدم لنا كل ما في الطبيعة ولا كل ما في الحياة، ولكنه يختار أروع ما في الطبيعة، وأجمل ما في الحياة، ثم يقدم لنا هذه في شكل رائع جذاب، وفي صورة فنية جميلة
هذا هو السبب الذي من أجله نلجأ إلى الفن ونهرع إليه كلما أثقلتنا الحياة أو ثقلت علينا الطبيعة. فنحن لا نعمل في هذه الحالة أكثر من أن نتخلص من بعض هذه المنغصات أو الأشياء الثقيلة الجافة التي يتجاهلها الفن، ولا يقف عندها أو يأبه لها
والفن لا يختار في الغالب موضوعه من الحياة الظاهرة، أو من تلك المرئيات التي تلوح للعين في كل يوم، ثم تختفي وكأنها لم تكن، وإنما يختار موضوعه من قلب الطبيعة، ويتخذ مادته من لب الحياة
فالفنان العظيم حقا هو الذي ينفذ إلى الحياة الداخلية، وهو الذي يتغلغل في أعماق الطبيعة، ويقف على كامن أسرارها ويبرزها للعين والحس في صورة فاتنة أخاذة
فهو لا يصور كل ما يحس به أو يقع عليه بصره، وإنما يفكر كثيرا فيما يبدعه للناس. فلا يختار إلا ما كان عميقا في النفس، أصيلا في الطبيعة. وهو في عمله هذا يخالف المدنية كل المخالفة، لأن المدنية تطور الحياة الظاهرية، الحياة الحسية؛ أما الفن فهو تطور لحياتنا الداخلية. فهو يتصل بالقلب الإنساني والفكر الإنساني، أما المدنية فتتصل بأعمال الإنسان وأحداثه في هذه الحياة المائجة الصاخبة. لذلك كان الفن أصيلا في أصوله ثابتا في جوهره، وكانت المدنية سريعة التغير، كثيرة التباين والاختلاف. .
وليس معنى هذا أن الفن جامد محافظ، عدو للتطور، ولكنه في الحقيقة في تغير دائم، وإن خفي عنا مظهر هذا التغير لعمقه وبعده عن إدراكنا الحسي المجرد. . .
نظمي خليل
مجلة الرسالة - العدد 92
بتاريخ: 08 - 04 - 1935
. .
إذا أجبنا عن هذا السؤال بالإيجاب، وهو الحق والصواب كما اعتقد - رأينا أنفسنا مضطرين إلى أن نشرح وظيفة الفنان الذي يقف بيننا وبين الطبيعة. . فلو وقف الفن عند سرد مناظر الطبيعة، أو اقتصر على التقاط مناظرها وصرها كما هي، لرأينا آلة التصوير تسرع إلى انتزاع مكانة التصوير. ولكن الحقيقة أن الفن ليس تمثيلا للطبيعة، ولكنه تفسير لها. ولسنا نغالي إذا قلنا إن الفن يبتدئ حيث يترك الفنان صحبته القوية للطبيعة، بعد أن يشيع في جوها أنغاما من عمله الخاص تبعا لشعوره الشخصي وذوقه الموسيقي. فالطبيعة معين لن ينضب للفن، - وهي اليوم - كما كانت، وكما ستبقى أبدا - أكبر موح له بروائع الحسن والجمال. ولكن القوانين التي تتحكم في عمل الفن منفصلة تماما عن قوانين الطبيعة. فإذا كانت النغمة التوافقية في موسيقى الرعاة عملا فنيا جليلا، فذاك لأن بيتهوفن لم يحاك نغمات الطبيعة تبعا لشروط الموسيقى وقوانينها، وأفصح عن تلك العواطف الخاصة التي أثارتها فيه صحبته القوية للطبيعة في أنغام سامية، كانت من وحيه وإلهامه، ثم وجهت في هذا الطريق الموسيقى بواسطة المهارة الفنية التي هي أصيلة في كل عمل فني. . .
يقول بعض الناس عن مهمة الفن في ذا العالم هي أن يكمل ما في الطبيعة من نقص. وقد يفهم البعض منهم أن الفن يأتي بأشياء ليست في الطبيعة، أي أنه يزيد في مواد الطبيعة الأساسية. ولكن هذا الفهم خطأ، وهذا الظن إثم وجور على الطبيعة. فليس لدى الفن ما يجود به على الطبيعة من روائع المناظر وعجائب الآثار. . وليس لدى الفنان شيء جديد. ولكن لديه شيئا واحدا، وهو الذي يخدع هؤلاء البسطاء، فيتوهمونه زيادة أو جديدا، هذا الشيء الذي يبدو جديدا هو الحصر أو التحديد لمناظر الطبيعة ومظاهرها. فقد يرى إنس نهرا يجري فلا يحس إحساسا كاملا بروعة مياهه وقوة تياره، وما على شاطئيه من رمال ونباتات أو غابات وصخور. قد لا يفطن الناظر إلى هذا النهر للجمال المختبئ في هذه المناظر الطبيعية الفسيحة الضخمة الهائلة. فينصرف عن النظر إليها إلى صورة رسام أو مصور ماهر قد صور هذا النهر وهو يتدفق ويتغلغل في الأحراج والجبال
وليس معنى هذا أن النهر الجاري أقل جمالا وروعة من صورة الرسام، لا، بل إن الناظر نفسه لم يفطن إلى هذا الجمال الأصيل في تلك المناظر الطبيعية العظيمة، لأنه جمال متشعب فسيح. فلما جاء الفنان وحصره في لوحته الصغيرة، أمكنه أن يشعر به، وأن يقف على أسراره الدفينة؛ ولو أمكن الرائي أن يدرك الجمال الطبيعي في مظهره الطبيعي لوجده جمالا خالصا عبقريا. ولكن عين الإنسان لا تستطيع أن تأخذ النهر الجاري من منبعه إلى مصبه، أو أن تلقي نظرة كاملة على الجبل الشامخ من قمته إلى سفحه. فإن حاولت ذلك لحقها الكلل والملال، وفضلت النظر في الصورة على التطلع إلى المرئي ذاته مهما يكن جماله وروعته
هذا هو الشائع بين الناس. ومن أجل هذا قيل إن الفن يكمل ما عجزت عنه الطبيعة، والحقيقة أن الفنان لا يزيد شيئا على ما في الطبيعة من ثروة وغنى، وإن كان يحصر هذه الثروة ويبرزها في صورة جميلة ومنظر بهي. . .
هذا شيء، والشيء الآخر هو أن الفن ليس محاكاة للطبيعة أو للحياة، ولكنه خلاصة ما في الطبيعة والحياة
فالفن قد يحاكي الطبيعة، وقد يحاكي الحياة، ولكنه لن ينسخ من الطبيعة أو الحياة صورا متشابهة متطابقة، فهو محاكاة وليس نسخا. والفرق بين المحاكاة والنسخ هو أن الفنان الذي يحاكي الطبيعة يأخذ منها ما يجده ملائما لفنه، أي ينتقي أروع ما فيها من الآثار، ثم يسلط عليها قوانينه الفنية فيلم أجزاءها ويعطي لها الوضع المناسب الجميل، فتبرز للرائي جديدة ضافية في حلل الجدة والإبداع
أما النسخ، فهو صورة طبق الأصل للطبيعة. ولو كان الفن نسخا للحياة لما أحسسنا بعظمة الفن الأصلية وسحر قوته الدفينة، ولجاء ثقيلا مضطربا مشوها كالحياة ذاتها. ولما وجدنا فيه هذا الشعور الخفي الذي يسكن آلامنا، ويريحنا من آلام الحياة وعنت الأيام. بل لما اعتبرنا الفن مأوى لنا نلجأ إليه كلما أثقلتنا متاعب الحياة وضقنا بمطالبها ذرعا، ولما كانت لنا حاجة ماسة إليه. فلو كان الفنان يقدم لنا جبلا كالجبل الذي نتسلقه، أو نهرا كالنهر الذي نعبره، أو مرعى مخضوضرا قد انتثرت فوقه الأغنام والمواشي، كتلك المراعي التي نراها كل يوم في قرانا، لما اهتززنا لصوره، ولما أدركنا لها سر أو معنى
ولو كان الفن يصور لنا حادثة يومية، أو عملا من أعمالنا العادية التي نلامسها كل يوم دون أن يخلع عليها شيئا من شعوره وشخصيته، لما شعرنا بحاجة الحياة إليه، ولما عملنا على نموه وازدهاره واكتفينا بالتاريخ
ولكن الفن لا يقدم لنا كل ما في الطبيعة ولا كل ما في الحياة، ولكنه يختار أروع ما في الطبيعة، وأجمل ما في الحياة، ثم يقدم لنا هذه في شكل رائع جذاب، وفي صورة فنية جميلة
هذا هو السبب الذي من أجله نلجأ إلى الفن ونهرع إليه كلما أثقلتنا الحياة أو ثقلت علينا الطبيعة. فنحن لا نعمل في هذه الحالة أكثر من أن نتخلص من بعض هذه المنغصات أو الأشياء الثقيلة الجافة التي يتجاهلها الفن، ولا يقف عندها أو يأبه لها
والفن لا يختار في الغالب موضوعه من الحياة الظاهرة، أو من تلك المرئيات التي تلوح للعين في كل يوم، ثم تختفي وكأنها لم تكن، وإنما يختار موضوعه من قلب الطبيعة، ويتخذ مادته من لب الحياة
فالفنان العظيم حقا هو الذي ينفذ إلى الحياة الداخلية، وهو الذي يتغلغل في أعماق الطبيعة، ويقف على كامن أسرارها ويبرزها للعين والحس في صورة فاتنة أخاذة
فهو لا يصور كل ما يحس به أو يقع عليه بصره، وإنما يفكر كثيرا فيما يبدعه للناس. فلا يختار إلا ما كان عميقا في النفس، أصيلا في الطبيعة. وهو في عمله هذا يخالف المدنية كل المخالفة، لأن المدنية تطور الحياة الظاهرية، الحياة الحسية؛ أما الفن فهو تطور لحياتنا الداخلية. فهو يتصل بالقلب الإنساني والفكر الإنساني، أما المدنية فتتصل بأعمال الإنسان وأحداثه في هذه الحياة المائجة الصاخبة. لذلك كان الفن أصيلا في أصوله ثابتا في جوهره، وكانت المدنية سريعة التغير، كثيرة التباين والاختلاف. .
وليس معنى هذا أن الفن جامد محافظ، عدو للتطور، ولكنه في الحقيقة في تغير دائم، وإن خفي عنا مظهر هذا التغير لعمقه وبعده عن إدراكنا الحسي المجرد. . .
نظمي خليل
مجلة الرسالة - العدد 92
بتاريخ: 08 - 04 - 1935
. .