فخري قسطندي - حول الاتباعية والإبتداعية.. توطئة لدراسة الأقصوصة والقصة والرواية

عرضنا في مقال سابق للونين من ألوان الأدب، وضربين من ضروب الخلق الفني هما الكلاسيكية والرومانتيكية، وأبنا كيف اضطرب القول فيهما وتضارب الرأي في مدلولاتهما ومعانيهما، ثم رجعنا بالذاكرة إلى القرن الثامن عشر، وألمعنا إلى اهتمام الأدباء الإنجليز بآثار الماضي التالدة، وإلى اشتغالهم بدراستها وتبيان محاسنها. تلمس ذلك في أحاديثهم، وتستشفه في كتاباتهم، وتطالعك به تواليفهم، حتى لقد يشتد بك العجب ويأخذ منك كل مأخذ، فأنت لا تقع على كاتب أو شاعر إلا وقد أغرق في وصف هذه الآثار والأطلال والرسوم، وأمعن في التعبير عن إعجابه بها، فهو مفتون بروعتها، مأخوذ بسحرها وجاذبيتها.

ولا عجب، فهذه أشياء كلها ذات طابع ابتداعي يزينها ويجملها تنفرد به ويختص بها، غير أنها ليست ذات طابع رومانتيكي فحسب، بل هي تتسم أيضاً بطابع قوطي، له ما للطابع الرومانتيكي من خصائص ومميزات، وبينه وبين الكلاسيكية من بون شاسع واختلاف كبير كالاختلاف بيم الرومانتيكية ولكلاسيكية. فهناك مقطوعات رومانتيكية أو قوطية، كما أن هناك مقطوعات كلاسيكية. وتكون المقابلة بين رومانتيكية هذه المقطوعة وبين كلاسيكية تلك. ولا أدل على ذلك أو أبلغ من قول هرد في (رسائله عن الفروسية والرومانس أن منظومة الملكة الجنية للشاعرة الإنجليزية الكبيرة إدمند سبنسر منظومة قوطية، وليست كلاسيكية كما يزعم البعض.

ومن ثم فأنت ترى إن الطابع القوطي ينبئ عن عصور غابرة أزال الله من دولتها، فانطمس رسمها ودرس منها، هي العصور الوسطى، وأنت ترى أن مثله في ذلك مثل الطابع الرومانتيكي تماما. فهو يترامى مثله إلى ابعد غايات الشذوذ والاضطراب بدلا من التجانس والاتساق، وهو يمتاز بخيال مقرب يتنكب الطريق المطرق، فيجد عن المألوف ويخرج على المعروف.

وما كان الأدب إلا شكلاً من أشكال الفن يقومّ بما يقوم به الفن من معايير، ويقاس بما يقاس به، وبصدق على الفن ما يصدق عليه. والأدب شعر ونثر وما يتصل بالشعر والنشر من مبحث وموضوع، وأنماط قوالب، وصيغ وتراكيب، وعبارات وألفاظ، وعرض وسياق، وحس وشعور. وهو إما أدب رومانتيكي قوطي يتصف بما تتصف به آثار العصور الوسطى، ويضرب شعره ونثره وما يتصل بهما بسهم وافر في الشذوذ والاضطراب والإغراب في الخيال. وهو إما أدب غير رومانتيكي قوطي، خلو من جميع الخصائص والصفات التي سبق ذكرها.

هذا ما كان من شأن الأدب، وهذا ما كان من شأن الرومانتيكية في إنجلترا في القرن الثامن عشر. غير أن الدهر غير، فما هي إلا دورة من دورات الفلك حتى درست القوطية، واندثرت، واختفت من معاجم الأدب. وحان الحين للرومانتيكية أن تتربع وحدها على عرشها، وأن تصبح ذات الكلمة الناقدة والسلطة الأولى واليد الطولي في الكم على تواليف الأدباء. على أن الرومانتيكية لم تستقر طويلاً في إنجلترا، فما لبث أن ذاع صيتها واشهر أمرها وترمى خبرها إلى فرنسا. فاستعملها روسو في كتاباته، وكان استعماله لها بشيراً بازدياد صيرورتها واتساع انتشارها. فما هي إلا فترة أو بضع فترة حتى تلقفها الكتاب الألمان، وعكفوا على درسها وشرحها، فاستوعبوها وفلسفوها وبينوا معالمها واختطوا لها الأصول والقواعد.

ويعزو جيته إلى نفسه فضل إدخال هذه الكلمة إلى ألمانيا، ونحن نشك في هذا الفضل فقد يعزى إليه أو قد يعزى إلى غيره، ولكن هذا لا يعنينا في هذا المقام، وإنما يعنينا أن نستقصي ما قاله، ونتعرف ماله من اثر. قال:

(إن فكرة التفرقة بين الشعر الكلاسيكي والشعر الرومانتيكي هذه التفرقة التي طبقت شهرتها الآفاق، والتي تثير من المنازعات والانقسامات الشيء الكثير، ترجع في الأصل إلى شيلر وإليّ. فقد صغت في عبارة موجزة طريقة معالجة الشعر معالجة موضوعية، وأنا آبى أن أقتفي خطى أية طريقة أخرى، غير أن شيلر الذي يهتم بالناحية الذاتية يعد طريقته الطريقة الصحيحة. وقد اعتنق آل شليجل هذه الفكرة، ومن ثم فقد انتشرت في جميع أنحاء العالم، وكل فرد يتحدث الآن الكلاسيكية والرومانتيكية اللتين لم يطرقهما أحد بتفكيره منذ خمسين عاما).

والواقع الذي لا مرية فيه أن جيته ساهم بنصيب موفور في انتشار الرومانتيكية وينعكس ذلك في الكتاب الذي طلعت به مدام ستايل على جمهرة النقاد وعامة القراء وعنوانه (من الألمانية، ' وأتت فيه على ذكر الرومانتيكية عند أدباء الألمان، وما استأثرت به من عنايتهم الفائقة واهتمامهم البالغ. أما مدام دي ستايل فيقول عنها فيكتور هيجو في مقدمته لديوان أشعاره إنها أول من جرى لسانها بعبارة (الأدب الرومانتيكي) في فرنسا.

وكأن لفظة رومانتيكي سئمت حياة الترحال والتجوال، وحنت إلى حياة الثبات والاستقرار، فولت وجهها شطر وطنها الأصلي، فعادت إلى إنجلترا، واطمأن بها المقام هناك، وقد وضحت معالمها واستبانت خطوطها، على نحو لا ترقى إليه شبهة بل ينهض عليه الدليل.

فبيرون يفهم من الرومانتيكية ما يفهمه جيته حين يقول - أي بيرون (إن شليجل ومدام دي ستايل حاولا جهدهما أن يلتزما في تقسيم الشعر قسمين اثنين، وهما الكلاسيكي والرومانتيكي وسوف يكون من نتيجة ذلك مناقشات حامية).

ومن عجب أن الروماتيكية لم تصادف هوى في نفوس أدباء الإنجليز، فصدفوا عنها ولم يعنوا بها عناية غيرهم بها، برغم من أنهم هم الذين ابتدعوها وابتكروها. فبينا نرى الرومانتيكية في فرنسا وألمانيا قبلة أنظار الكتاب والشعراء، ثم عنوانا لمدرسة من المدارس الأدبية، نراها في إنجلترا محل استخفاف الأدباء الإنجليز واستهانتهم، ومن ثم فقد أعوزها عندهم الدقة والوضوح. أما الفرنسيون فقد وضعوا الكتب والمؤلفات في التعريف بها، وبذلوا الجهد الجهيد في تحديد مفهوماتها ومدلولاتها، ولعل لبرنتير الفضل الأكبر في إزالة ما يكتنفها من غموض وإبهام. أما الألمان فقد نسجوا حولها نظرية فلسفية أحكموا أطرافها فجاءت متلاحمة متواشجة، يدفعهم إلى ذلك الجري وراء المجردات، والاندفاع وراء النظريات.


فخري قسطندي. . .

مجلة الرسالة - العدد 689
بتاريخ: 16 - 09 - 1946

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...