يقول الشاعر البنجلاديشي الشهير سري تشنموي:
" يمكنك كتابة النثر ، ويمكنه كتابة النثر ، حتى أنا أستطيع كتابة النثر. أما الشعر فيكتبه الرب من خلالك ، من خلاله ، وحتى من خلالي أنا".
الشعر ضربٌ من النبوة. ولا نبوة ولا شعر دون وحي. والوحي نوعان: وحي فعل و وحي قول. ومع الأنبياء قد يأتي الوحي على هيئة ملك ، أو رؤيا ، أو استنطاق للجماد. ويتشابه وحي الأنبياء والشعراء من حيث أنه اتصال بطاقة روحانية عليا تلقي بالكلمات والمعاني في خاطر الشاعر أو النبي. و تتشابه أعراض هذا الوحي ، فيكون الشاعر حين الوحي أشبه ما يكون بكائن آخر غائبٍ عن مظاهر الحياة من حوله. وقديماً ظن العرب أن محمد شاعرٌ ، و وصفوه بالشاعر المجنون ، وظنوا أن القرآن شعرٌ يكتبه لما ترسخ في فهمهم من صلة عميقة بين الشاعر والنبيّ.
وهناك في الأدب الغربي شعراء كثيرون يسمون بالشعراء الرائين أو الرؤيين ، نسمي منهم الشاعر اليوناني هوميروس ، والشاعر الإيطالي دانتي ، والشاعر الألماني نوفاليس الذي طابق ما بين الشاعر والرائي ، حين رأى أن الشاعر مثل الساحر أو الكاهن من حيث امتلاكه لقدرة خارقة على النفاذ للعالم الآخر – عالم ما وراء الطبيعة لاستقراء الغيب والتنبأ به لما له من حدس يفوق حدس الآخرين. وهناك أيضاً الشاعر الفرنسي رامبو ومن قبله كان فيكتور هوجو و نيرتال و بودلير الذي سماه رامبو بـ "الرائي الأول". ولا يقتصر الأمر على شعراء الغرب فقط بل إن هناك الكثير من الشعراء الهنود الرائين الذين مزجوا بين روحانية دياناتهم وبين شفافية شعرهم. يأتي على رأس هؤلاء الشعراء الهنود الشاعر الكوني الأشهر طاغور الذي أنسن الطبيعة واستنطقها ، فامتزجت دموعه بدموعها وضحكاته بضحكاتها.
ولا يخلو الشعر العربي القديم والحديث من الشعراء الرائين ، فليس المتنبي وحده شاعراً رائياً في تاريخنا ، بل إن كثيراً من الشعراء المتصوفة كانوا شعراء رائين. وليس في هذا ما يثير الدهشة فالشاعر الحق هو من صفت نفسه وشفت ، فكان ما يكتبه نتاج وحي حقيقي أقرب لوحي الأنبياء. يذهب هذا المذهب الشاعر الروسي بوريس بسترنك الحاصل على جائزة نوبل للآداب حيث قال: "أيها الشعراء الأعزاء ، حذار أن تتنبؤا بموتكم البائس في شعركم ، فإن قوة الشعر تجعله يتحقق!!"
إن الشاعر الرائي أو الشاعر النبيّ يكتب عن أشياء قد لا يفهمهما في حينها ولكنها تتحقق. حتى لو حاول أن يغير ما كتبه تظل الكتابة الأولى ، والتي هي نتاج الوحي الحقيقي ، هي التي تتحقق ، ولن يعلم بهذا إلا الشاعر نفسه ، فهو وحده يعلم ماذا كتب وماذا غيَّر هرباً من قدر هو لاحقه لا محالة! في مقاله "دفاع عن الشعر" قال شيللي: "الشعراء هم الكهنة الذين يتلقون وحياً غامضاً ، المرايا التي تعكس الظلال الماردة يلقيها المستقبل على الحاضر ، الألفاظ التي تفصح عما لا يفهمونه ، الأبواق التي تدعو للمعركة لا تحس بما تلهبه في القلوب ، القوة التي تحرك ولا يحركها شيء ، الشعراء هم مشرعو العالم الذين لا يعترف بهم أحد".
واقتراب الشعر من الدين من حيث أن كليهما ينطلق من وحي غامض خفي ليس أمراً جديدا ، فقد كانت الأساطير اليونانية تجعل من آلهتهم مصدر إلهام الشاعر ، وترفع الشاعر لدرجة تقترب من درجة الآلهة. وهذا يتشابه مع ما يقول به المتصوفة الرائيون من التوحد مع المطلق حتى أن الحلاج صاح مرة: "أنا الحق!" ، فكانت سبباً في إعدامه وتمزيق أوصاله. ولم يفهم قول الحلاج إلا المتصوفة الذين لم يروا في قوله أية هرطقة كما رأى الآخرون ، بل رأوا أنه كان صادقاً وقت قوله هذا ، لما كان عليه من حالة تماس واتصال مع معشوقه لدرجة الذوبان فيه ، وانعدام وجوده في وجود المطلق ، كقطرة البحر التي تعود للبحر الكبير فتذوب فيه وتصبح جزءاً منه.
وليس اقتراب الشعر من الدين في مصدر الوحي فقط ، بل وفي الرسالة نفسها ، حيث أن كليهما يبشر بعالم جديد وقيم جديدة ، وينبئ عن ذلك العالم المجهول الذي يختلف عن الواقع الذي يعيشه الشاعر أو النبي. قد يكون الفارق بين عالم النبي وعالم الشاعر هو أن النبي ينبئ عن عالم موجود خارج حدود وجوده ، وليس له دورٌ في صياغته ، على حين أن عالم الشاعر يكون جزءاً لا ينفصل عن خياله و رؤاه ، وهو الذي يعيد صياغة هذا العالم المجهول وفق رؤاه هو. الشاعر لا ينبئ عن جنة ونار كما يفعل النبي ، بل تتصل روحه بذلك العالم المجهول ، مستوحياً منه صوره الشعرية في جوٍّ أسطوريٍّ يحسه الشاعر ولا يفهمه ، فليس عليه فهمه ، ويرى بعين قلبه ما يعجز عن رؤيته الآخرون ، فيرى ما في الأفق من غيمٍ مثقلٍ بغيث الغيب. هذا هو الشاعر الرائي أو الشاعر النبيُّ الذي يشعر بالزلزال قبل حدوثه وقبل تصدع الأرض من تحته ، يشعر بغليان القلوب قبل ثورتها ، ينبيء عما هو قادم من قبل أن يأتي ويطرق الأبواب. الشاعر الرائي هو شاعرٌ كونيٌّ يخاطب الإنسان أياًّ كانت لغته وجنسيته ولونه ومكانه ، هو شاعرٌ للإنسانية وليس لقومه فقط ، وطنه هو الأرض كوكباً وليس حدوداً جغرافية ً على خريطة رسمها له الآخرون ، وليس دينه تعاليم وشعائر وطقوس فحسب ، بل الحب دينه ، والإنسانية رسالته ، والخير غايته ، والشعر وسيلته لكل هذا لأن الحق يكون وحيه. وهذه هي نبوة الشعراء - الشعراء الرائين. فليس كل شاعرٍ رائياً ، وليس كل شاعرٍ أوتي حظاً من هذه النبوة.
سيد جودة – مصر / هونج كونج
* نقلا عن وبإذن من:
سيد جودة - نبوة الشعراء
" يمكنك كتابة النثر ، ويمكنه كتابة النثر ، حتى أنا أستطيع كتابة النثر. أما الشعر فيكتبه الرب من خلالك ، من خلاله ، وحتى من خلالي أنا".
الشعر ضربٌ من النبوة. ولا نبوة ولا شعر دون وحي. والوحي نوعان: وحي فعل و وحي قول. ومع الأنبياء قد يأتي الوحي على هيئة ملك ، أو رؤيا ، أو استنطاق للجماد. ويتشابه وحي الأنبياء والشعراء من حيث أنه اتصال بطاقة روحانية عليا تلقي بالكلمات والمعاني في خاطر الشاعر أو النبي. و تتشابه أعراض هذا الوحي ، فيكون الشاعر حين الوحي أشبه ما يكون بكائن آخر غائبٍ عن مظاهر الحياة من حوله. وقديماً ظن العرب أن محمد شاعرٌ ، و وصفوه بالشاعر المجنون ، وظنوا أن القرآن شعرٌ يكتبه لما ترسخ في فهمهم من صلة عميقة بين الشاعر والنبيّ.
وهناك في الأدب الغربي شعراء كثيرون يسمون بالشعراء الرائين أو الرؤيين ، نسمي منهم الشاعر اليوناني هوميروس ، والشاعر الإيطالي دانتي ، والشاعر الألماني نوفاليس الذي طابق ما بين الشاعر والرائي ، حين رأى أن الشاعر مثل الساحر أو الكاهن من حيث امتلاكه لقدرة خارقة على النفاذ للعالم الآخر – عالم ما وراء الطبيعة لاستقراء الغيب والتنبأ به لما له من حدس يفوق حدس الآخرين. وهناك أيضاً الشاعر الفرنسي رامبو ومن قبله كان فيكتور هوجو و نيرتال و بودلير الذي سماه رامبو بـ "الرائي الأول". ولا يقتصر الأمر على شعراء الغرب فقط بل إن هناك الكثير من الشعراء الهنود الرائين الذين مزجوا بين روحانية دياناتهم وبين شفافية شعرهم. يأتي على رأس هؤلاء الشعراء الهنود الشاعر الكوني الأشهر طاغور الذي أنسن الطبيعة واستنطقها ، فامتزجت دموعه بدموعها وضحكاته بضحكاتها.
ولا يخلو الشعر العربي القديم والحديث من الشعراء الرائين ، فليس المتنبي وحده شاعراً رائياً في تاريخنا ، بل إن كثيراً من الشعراء المتصوفة كانوا شعراء رائين. وليس في هذا ما يثير الدهشة فالشاعر الحق هو من صفت نفسه وشفت ، فكان ما يكتبه نتاج وحي حقيقي أقرب لوحي الأنبياء. يذهب هذا المذهب الشاعر الروسي بوريس بسترنك الحاصل على جائزة نوبل للآداب حيث قال: "أيها الشعراء الأعزاء ، حذار أن تتنبؤا بموتكم البائس في شعركم ، فإن قوة الشعر تجعله يتحقق!!"
إن الشاعر الرائي أو الشاعر النبيّ يكتب عن أشياء قد لا يفهمهما في حينها ولكنها تتحقق. حتى لو حاول أن يغير ما كتبه تظل الكتابة الأولى ، والتي هي نتاج الوحي الحقيقي ، هي التي تتحقق ، ولن يعلم بهذا إلا الشاعر نفسه ، فهو وحده يعلم ماذا كتب وماذا غيَّر هرباً من قدر هو لاحقه لا محالة! في مقاله "دفاع عن الشعر" قال شيللي: "الشعراء هم الكهنة الذين يتلقون وحياً غامضاً ، المرايا التي تعكس الظلال الماردة يلقيها المستقبل على الحاضر ، الألفاظ التي تفصح عما لا يفهمونه ، الأبواق التي تدعو للمعركة لا تحس بما تلهبه في القلوب ، القوة التي تحرك ولا يحركها شيء ، الشعراء هم مشرعو العالم الذين لا يعترف بهم أحد".
واقتراب الشعر من الدين من حيث أن كليهما ينطلق من وحي غامض خفي ليس أمراً جديدا ، فقد كانت الأساطير اليونانية تجعل من آلهتهم مصدر إلهام الشاعر ، وترفع الشاعر لدرجة تقترب من درجة الآلهة. وهذا يتشابه مع ما يقول به المتصوفة الرائيون من التوحد مع المطلق حتى أن الحلاج صاح مرة: "أنا الحق!" ، فكانت سبباً في إعدامه وتمزيق أوصاله. ولم يفهم قول الحلاج إلا المتصوفة الذين لم يروا في قوله أية هرطقة كما رأى الآخرون ، بل رأوا أنه كان صادقاً وقت قوله هذا ، لما كان عليه من حالة تماس واتصال مع معشوقه لدرجة الذوبان فيه ، وانعدام وجوده في وجود المطلق ، كقطرة البحر التي تعود للبحر الكبير فتذوب فيه وتصبح جزءاً منه.
وليس اقتراب الشعر من الدين في مصدر الوحي فقط ، بل وفي الرسالة نفسها ، حيث أن كليهما يبشر بعالم جديد وقيم جديدة ، وينبئ عن ذلك العالم المجهول الذي يختلف عن الواقع الذي يعيشه الشاعر أو النبي. قد يكون الفارق بين عالم النبي وعالم الشاعر هو أن النبي ينبئ عن عالم موجود خارج حدود وجوده ، وليس له دورٌ في صياغته ، على حين أن عالم الشاعر يكون جزءاً لا ينفصل عن خياله و رؤاه ، وهو الذي يعيد صياغة هذا العالم المجهول وفق رؤاه هو. الشاعر لا ينبئ عن جنة ونار كما يفعل النبي ، بل تتصل روحه بذلك العالم المجهول ، مستوحياً منه صوره الشعرية في جوٍّ أسطوريٍّ يحسه الشاعر ولا يفهمه ، فليس عليه فهمه ، ويرى بعين قلبه ما يعجز عن رؤيته الآخرون ، فيرى ما في الأفق من غيمٍ مثقلٍ بغيث الغيب. هذا هو الشاعر الرائي أو الشاعر النبيُّ الذي يشعر بالزلزال قبل حدوثه وقبل تصدع الأرض من تحته ، يشعر بغليان القلوب قبل ثورتها ، ينبيء عما هو قادم من قبل أن يأتي ويطرق الأبواب. الشاعر الرائي هو شاعرٌ كونيٌّ يخاطب الإنسان أياًّ كانت لغته وجنسيته ولونه ومكانه ، هو شاعرٌ للإنسانية وليس لقومه فقط ، وطنه هو الأرض كوكباً وليس حدوداً جغرافية ً على خريطة رسمها له الآخرون ، وليس دينه تعاليم وشعائر وطقوس فحسب ، بل الحب دينه ، والإنسانية رسالته ، والخير غايته ، والشعر وسيلته لكل هذا لأن الحق يكون وحيه. وهذه هي نبوة الشعراء - الشعراء الرائين. فليس كل شاعرٍ رائياً ، وليس كل شاعرٍ أوتي حظاً من هذه النبوة.
سيد جودة – مصر / هونج كونج
* نقلا عن وبإذن من:
سيد جودة - نبوة الشعراء