إذا كان الكمال المطلق يشتمل علي الحكمة المطلقة والجمال المطلق والخير المطلق والإرادة المطلقة فهل يكون ذلك إلا لحكمة جميلة القول بالذات لإلهية يبطل القول بوحدة الوجود كما يبطل القول بأن الله معني لا ذات له أو قوة غير داعية
الله ذات واعية
فلا يجوز في العقل ولا في الدين أن تكون له حقيقة غير هذه الحقيقة، وأن يوصف بأنه معني لا ذات له أو قوة لا واعي لها كما وصف في بعض المذاهب النسكية- كمذهب البوذي- الذي تفرعن البرهية، ولا يخرج الباحث من مراجعته علي وصف مستقر للمعني الذي أرادوه.
والكلمة العربية التي تعبر عن هذه الحقيقة- وهي كلمة الذات- أصح الكلمات التي تقابلها في لغات الحضارة الغربية أو الشرقية المعروفة، لأنها تمنع كثيرا من اللبس الذي يتطرق إلي الذهن من نظائر هذه الكلمة في اللاتينية ومشتقاتها.
فكلمة برسون تدل علي «الشخص» وهو يوحي إلي الذهن صورة شاخصة للعيان، وأصله من برسونا persuna أو النقاب الذي كان الممثلون يلبسونه ويستعيرون به علي المسرح وجوده أبطال الرواية أو وجوده بعض الأحياء العجماء التي لها دور في الرواية. ثم أطلقوا الكلمة علي الأشخاص الممثلين في عقد من عقود الاتفاق، فيقال إن الاتفاق معقود بين شخصين أي بين طرفين، ويقال إن هذا «شخص» في الموضوع أي طرف له صفة في الموضوع.. ومن هنا أصبحت كلمة الأغراض الشخصية مرادفة للأغراض المتحيزة أو التي تنحرف عن النزاهة والاستواء.
ومن العسير أن يطلق الفيلسوف هذه الكلمة علي الذات الإلهية إلا وهو يشعر شائبة فيها تتنزه عنها فكرة الكمال المطلق والإله المتعالي علي صفات «الشخوص»والأشباه.
وكلمة substance مأخوذة من كلمة substane وهي مركب مزجي من كلمة sub بمعني تحت وكلمة stare بمعني يقف، والمراد بها الراسب الذي يستقر تحت السائل ويبقي هناك، كأنهم عبروا بها عن الجوهر لأن يبقي بعد زوال الأعراض ولأن العرب يذهب جفاءً ويمكث الجوهر في مكانه، ثم استعاروها للماهية وهي حقيقة الشئ الباقية، ثم استعاروها «للذات»لأنها جوهر لا يتجزأ بتجزؤ الأعراض.
فإذا أطلقت هذه الكلمة فالذهن ينصرف لا محالة إلي الماهية والجوهر والذات ويجعل لها حكما واحدا في التصور والتقدير، فيستدق عليه الفارق بين المقصود بالذات والمقصود بالجوهر والماهيات.
أما كلمة الذات باللغة العربية فلا تستلزم التشخيص في الحقيقة ولا في المجاز، ولا تقتضي نزاهتها عن التشخيص أنها معني بغير كيان مشتمل علي الوعي والصفات الواعية. فهي تدل علي الجوهر الذي تضاف إليه الأوصاف وتدل علي الكائن الذي يملك صفاته فهو «ذو» تلك الصفات. ولا تعارض صفة الوعي والإرادة والاستقلال بالكيان.
وإذا قلنا إن «الكمال المطلق» ذات لم نشعر بما يومئ إلي التناقص بين صفة الكمال الذي لا حدود له وصفة «الشخص» أو المادة المستقرة بعد رسوب.
وعلي خلاف ذلك نعدد صفات الكامل المطلق الكمال فلا نستطيع أن نفهم بداهة أن هذه الصفات الموجودة تكون لغير ذات. فإن كان الكمال المطلق يشتمل علي الحكمة المطلقة والجمال المطلق والخير المطلق والإرادة المطلقة فهل يكون ذلك إلا لحكيم جميل خير مريد؟ وهل يكون الحكيم الجميل الخير المريد معني عاما بغير ذات؟
قال شكسبير في روميو وجوليت: ماذا في اسم؟.. ثم قال إن الوردة تفوح عطرا ولو سميت بغير ذلك من الأسماء.
ولكن الواقع أن في الاسم كثير من الإيحاء حتي في عقول الفلاسفة، ومن إيحاء كلمة «الشخص» أنها حملت بعض الفلاسفة علي التفرقة بين صفات الكمال المطلق وصفات «الذات» الإلهية، لأنهم أخطروا في بالهم الشخوص وأخطروا معها الحدود، ففرقوا بين الكائن المطلق الكمال وبين الكائن الذي له حدود.
ومن هنا ـ وهم بعض الفلاسفة الأوروبيين ـ أن الكمال المطلق apsuluteمعني من المعاني يتعارض مع «الذاتية»... لأن الذاتية عندهم لا تكون بغير حدود.
أما كلمة «الذات» العربية فلا توحي إلي الذهن البتة معني له حدود، بل يستوجب الكمال المطلق أن يكون مالكا لكل شيء، وأن يكون «ذاتا» في لفظه وفي معناه.
والكمال المطلق يحتوي كل موجود، و«الذات» الإلهية تعبر عن هذا المعني أصح تعبير. فالعقل يستلزم أن يكون الكمال المطلق «ذاتا» وتتطلب كائنا «كاملا» يوصف بالكمال، وينكر أن يجعله معني خاليا من الوعي. لأن نقص الوعي نقص من الكمال ونقص من صفات الكامل الذي لا يعاب.. ! وأعجب الصور العقلية حقا وجود يتصف بكل كمال ولا يعلم أنه كامل... والعلم بالذات فضلا عن العلم بالغير أول صفات الكمال!
أما الدين فلا يستقيم بغير إله تتصل به المخلوقات ويتقبل منها الحب والرجاء ويستمع لها استماع العالم المريد.
ولا نعتقد أن دينا من الأديان قط دان به الإنسان وهو في قرارة نفسه مجرد من فكرة «الذات الإلهية» كل التجريد.
فالبرهمية، وقد ذاع عنها أنها دين بغير إله، مملوءة بأسماء الأرباب والشياطين والملائكة والأرواح، وعقيدتها الكبرى قائمة علي الثالوث المؤلف من برهما وفشنو وسيفا، وفيها للآلهة صفات الذكورة والأنوثة فضلا عن صفات الشخوص.
ولما انشقت البوذية عن البرهمية قالت إن القضاء علي الآلام لا يكون إلا بالقضاء علي الوعي والتجرد من لباس الجسد للدخول في «النيرفانا»... وهي السعادة العليا التي تتاح للمخلوقات.
ولزم من أجل ذلك أن تنكر الواعية في الإنسان وفي الإله، فالنيرفانا هي الإله الذي لا يعي نفسه ولا يعي غيره، والروح الإنسانية ليست «ذاتا» مستقلة منفصلة عن سائر الموجودات، ولكنها سلسلة من الأعراض والأحاسيس تتمثل في صورة «الذات» للعقل المخدوع بالمظاهر والأوهام. إلا أنها تنكر الروح المستقلة من ناحية وتقول من ناحية أخري إن الإنسان يولد مرات بعد مرات، وإنه يلبس أجسادًا بعد أجساد، وإن القضاء الكوني يجزيه من طريق هذا التطهير بالدخول في «النيرفانا».. حيث يفني آخر الأمر فلا يولد ولا يحمل الجسد في صورة من صور الأحياء.
فهذا القضاء الكوني الذي يتتبع المخلوق يتطهر بالولادات المتعاقبة ماذا عسي أن يكون وكيف يتتبع المخلوقات ويحسبها ويحاسبها إن لم تكن له صفات التقدير والوعي والقضاء؟
فلا انفصال بين طبيعة الدين وطبيعة الذات الإنسانية والذات الإلهية، ولا يتأتى أن يتدين الإنسان وهو ينكر ذاته وينكر ذات الإله، ويؤمن في قرارة الضمير بالقوي الكونية التي لا تعقل ولا تعي ولا تريد.
والعقل والدين في ذلك متفقان.
فلا يفهم العقل إلها بغير ذات، ولا يفهم أن الكمال المطلق يتأتى لغير كائن كامل ويتأتى له ناقصًا منه الوعي.. ثم يوصف بغاية الكمال.
وإنما عرض هذا الوهم من التناقض بين كلمة الـ person وكلمة absolute أو كلمة «الشخص وكلمة الكمال بغير حدود.
وحاول بعضهم كما حاول الفيلسوف الإنجليزي برادلي bradley أن يقرب الفكرة إلي الفهم فطبق عليها مذهبه المعروف عن الحقائق والظواهر، وهو أن الظواهر تدل علي الحقائق ولكنها ليست هي إياها في الجملة والتفصيل، فالكمال المطلق هو الله، ولكن الكمال المطلق هو الحقيقة، والله هو الظاهرة التي يحيط بها وعي الإنسان فهيأ «ذات» كما تظهر له، ومعني مطلق من وراء هذه الظواهر، وهي حقيقة في معناها أو معني في حقيقتها بلا اختلاف.
ولم تكن بالفيلسوف حاجة إلي هذا التقريب لو أحضر في خلده أن الذات التي لا حدود لكمالها معقولة، بل واجبة، فإما أن نفهم أن الكمال المطلق ذات واعية وإما أن ننفي عنه الوعي وننفي عنه الوجود، لأنه لا كمال بغير علم بالنفس كما أسلفنا فصلاًعن العلم بالموجودات.
فمن فكر في الله فكر في ذات.
ومن آمن بالله آمن بذات.
ومن قال إن الكمال المطلق شيء وإن الله شيء آخر كما قال بعض الفلاسفة لم يكن هناك معني لتخصيص قوة من قوي الكون باسم الله، من غير فارق بينها وبين تلك القوي، يجعلها ذاتا لها كيان.
ولم نر أحدا من المفكرين يقول بأن الله «معني» إلا ليجعله أكبر من ذات لا ليجعله أقل من ذات، ولكنه لا يكون أكبر من ذات بالتجرد من صفات الذاتية، بل بالزيادة عليها، فينتهون بالتنزيه إلي ذات أكبر من جميع الذوات.
والقول بالذات الإلهية يبطل القول «بوحدة الوجود» كما يبطل القول بأن الله معني لا ذات له أو قوة غير واعية.
فإن القائلين بوحدة الوجود يرون أن الكون هو الله وأن الله هو الكون، وأنه لا فرق بين الخلق والخالق، ولا بين المظاهر المادية والحقائق الإلهية، وقد صدق الفيلسوف الألماني شوبنهور حين قال إن أصحاب هذا المذهب لم يصنعوا شيئا سوي أنهم أضافوا مرادفا آخر لاسم الكون.. فزادوا اللغة كلمة ولم يزيدوا العقل تفسيرا ولا الفلسفة مذهبا ولا الدين عقيدة فالكون إذن و«الوجود الواحد» مترادفان لا يفسر أحدهما الآخر ولا يزيد عليه، وليس هذا هو المقصود بالبحث في الحقائق الإلهية، لأنك لا تفسر الكلمة بكلمة تؤدي معناها بعينه ولا تفسر الشيء بالشيء نفسه أو لا تفسر الماء بالماء كما يقول بعض الأدباء.
فما الله؟ هو الكون كله!
وما الكون كله؟ هو الله!
وهذا قصارى ما يؤخذ من «وحدة الوجود» وليس هو البحث المقصود وكأنما التفسير النهائي لجملة الأشياء يلجئنا إلي «ذات» لا محالة تقصد وتريد فلا تفسر القوي بالقوي، ولا المعاني بالمعاني ولا الأكوان بالأكوان، ولكنك تفسرها جميعا «بذات» مريدة فيسمي ذلك تفسيرا تستريح إليه العقول.
وشوبنهور نفسه يقرر أن الوجود فكرة وإرادة، وأن الفكرة هي القداسة الإلهية والإرادة هي مظاهرها الدنيوية، وأن الفكرة تدخل في حيز الإرادة لتعود إلى حالة لا سعي فيها ولا عنت ولا مجاهدة؛ لأن العنت كله من الإرادة في محاولاتها الكثيرة، فلا تفسير لشيء لا فكرة له ولا إرادة إلا بكيان يفكر ويريد، وليس تصور «الذات الإلهية» عادة إنسانية تعودها الإنسان بغير تفكير — كما يرى بعض النفسانيين — لأنه تعود أن يخلع صورته على الأشياء ويحسبها ظلالًا له تحكيه في ملامحه وخوافيه، ولكنها نهاية ما يدركه العقل واعيًا صاحيًا مع التفكير ومتابعة التفكير إلى أقصى مداه.
الله ذات واعية
فلا يجوز في العقل ولا في الدين أن تكون له حقيقة غير هذه الحقيقة، وأن يوصف بأنه معني لا ذات له أو قوة لا واعي لها كما وصف في بعض المذاهب النسكية- كمذهب البوذي- الذي تفرعن البرهية، ولا يخرج الباحث من مراجعته علي وصف مستقر للمعني الذي أرادوه.
والكلمة العربية التي تعبر عن هذه الحقيقة- وهي كلمة الذات- أصح الكلمات التي تقابلها في لغات الحضارة الغربية أو الشرقية المعروفة، لأنها تمنع كثيرا من اللبس الذي يتطرق إلي الذهن من نظائر هذه الكلمة في اللاتينية ومشتقاتها.
فكلمة برسون تدل علي «الشخص» وهو يوحي إلي الذهن صورة شاخصة للعيان، وأصله من برسونا persuna أو النقاب الذي كان الممثلون يلبسونه ويستعيرون به علي المسرح وجوده أبطال الرواية أو وجوده بعض الأحياء العجماء التي لها دور في الرواية. ثم أطلقوا الكلمة علي الأشخاص الممثلين في عقد من عقود الاتفاق، فيقال إن الاتفاق معقود بين شخصين أي بين طرفين، ويقال إن هذا «شخص» في الموضوع أي طرف له صفة في الموضوع.. ومن هنا أصبحت كلمة الأغراض الشخصية مرادفة للأغراض المتحيزة أو التي تنحرف عن النزاهة والاستواء.
ومن العسير أن يطلق الفيلسوف هذه الكلمة علي الذات الإلهية إلا وهو يشعر شائبة فيها تتنزه عنها فكرة الكمال المطلق والإله المتعالي علي صفات «الشخوص»والأشباه.
وكلمة substance مأخوذة من كلمة substane وهي مركب مزجي من كلمة sub بمعني تحت وكلمة stare بمعني يقف، والمراد بها الراسب الذي يستقر تحت السائل ويبقي هناك، كأنهم عبروا بها عن الجوهر لأن يبقي بعد زوال الأعراض ولأن العرب يذهب جفاءً ويمكث الجوهر في مكانه، ثم استعاروها للماهية وهي حقيقة الشئ الباقية، ثم استعاروها «للذات»لأنها جوهر لا يتجزأ بتجزؤ الأعراض.
فإذا أطلقت هذه الكلمة فالذهن ينصرف لا محالة إلي الماهية والجوهر والذات ويجعل لها حكما واحدا في التصور والتقدير، فيستدق عليه الفارق بين المقصود بالذات والمقصود بالجوهر والماهيات.
أما كلمة الذات باللغة العربية فلا تستلزم التشخيص في الحقيقة ولا في المجاز، ولا تقتضي نزاهتها عن التشخيص أنها معني بغير كيان مشتمل علي الوعي والصفات الواعية. فهي تدل علي الجوهر الذي تضاف إليه الأوصاف وتدل علي الكائن الذي يملك صفاته فهو «ذو» تلك الصفات. ولا تعارض صفة الوعي والإرادة والاستقلال بالكيان.
وإذا قلنا إن «الكمال المطلق» ذات لم نشعر بما يومئ إلي التناقص بين صفة الكمال الذي لا حدود له وصفة «الشخص» أو المادة المستقرة بعد رسوب.
وعلي خلاف ذلك نعدد صفات الكامل المطلق الكمال فلا نستطيع أن نفهم بداهة أن هذه الصفات الموجودة تكون لغير ذات. فإن كان الكمال المطلق يشتمل علي الحكمة المطلقة والجمال المطلق والخير المطلق والإرادة المطلقة فهل يكون ذلك إلا لحكيم جميل خير مريد؟ وهل يكون الحكيم الجميل الخير المريد معني عاما بغير ذات؟
قال شكسبير في روميو وجوليت: ماذا في اسم؟.. ثم قال إن الوردة تفوح عطرا ولو سميت بغير ذلك من الأسماء.
ولكن الواقع أن في الاسم كثير من الإيحاء حتي في عقول الفلاسفة، ومن إيحاء كلمة «الشخص» أنها حملت بعض الفلاسفة علي التفرقة بين صفات الكمال المطلق وصفات «الذات» الإلهية، لأنهم أخطروا في بالهم الشخوص وأخطروا معها الحدود، ففرقوا بين الكائن المطلق الكمال وبين الكائن الذي له حدود.
ومن هنا ـ وهم بعض الفلاسفة الأوروبيين ـ أن الكمال المطلق apsuluteمعني من المعاني يتعارض مع «الذاتية»... لأن الذاتية عندهم لا تكون بغير حدود.
أما كلمة «الذات» العربية فلا توحي إلي الذهن البتة معني له حدود، بل يستوجب الكمال المطلق أن يكون مالكا لكل شيء، وأن يكون «ذاتا» في لفظه وفي معناه.
والكمال المطلق يحتوي كل موجود، و«الذات» الإلهية تعبر عن هذا المعني أصح تعبير. فالعقل يستلزم أن يكون الكمال المطلق «ذاتا» وتتطلب كائنا «كاملا» يوصف بالكمال، وينكر أن يجعله معني خاليا من الوعي. لأن نقص الوعي نقص من الكمال ونقص من صفات الكامل الذي لا يعاب.. ! وأعجب الصور العقلية حقا وجود يتصف بكل كمال ولا يعلم أنه كامل... والعلم بالذات فضلا عن العلم بالغير أول صفات الكمال!
أما الدين فلا يستقيم بغير إله تتصل به المخلوقات ويتقبل منها الحب والرجاء ويستمع لها استماع العالم المريد.
ولا نعتقد أن دينا من الأديان قط دان به الإنسان وهو في قرارة نفسه مجرد من فكرة «الذات الإلهية» كل التجريد.
فالبرهمية، وقد ذاع عنها أنها دين بغير إله، مملوءة بأسماء الأرباب والشياطين والملائكة والأرواح، وعقيدتها الكبرى قائمة علي الثالوث المؤلف من برهما وفشنو وسيفا، وفيها للآلهة صفات الذكورة والأنوثة فضلا عن صفات الشخوص.
ولما انشقت البوذية عن البرهمية قالت إن القضاء علي الآلام لا يكون إلا بالقضاء علي الوعي والتجرد من لباس الجسد للدخول في «النيرفانا»... وهي السعادة العليا التي تتاح للمخلوقات.
ولزم من أجل ذلك أن تنكر الواعية في الإنسان وفي الإله، فالنيرفانا هي الإله الذي لا يعي نفسه ولا يعي غيره، والروح الإنسانية ليست «ذاتا» مستقلة منفصلة عن سائر الموجودات، ولكنها سلسلة من الأعراض والأحاسيس تتمثل في صورة «الذات» للعقل المخدوع بالمظاهر والأوهام. إلا أنها تنكر الروح المستقلة من ناحية وتقول من ناحية أخري إن الإنسان يولد مرات بعد مرات، وإنه يلبس أجسادًا بعد أجساد، وإن القضاء الكوني يجزيه من طريق هذا التطهير بالدخول في «النيرفانا».. حيث يفني آخر الأمر فلا يولد ولا يحمل الجسد في صورة من صور الأحياء.
فهذا القضاء الكوني الذي يتتبع المخلوق يتطهر بالولادات المتعاقبة ماذا عسي أن يكون وكيف يتتبع المخلوقات ويحسبها ويحاسبها إن لم تكن له صفات التقدير والوعي والقضاء؟
فلا انفصال بين طبيعة الدين وطبيعة الذات الإنسانية والذات الإلهية، ولا يتأتى أن يتدين الإنسان وهو ينكر ذاته وينكر ذات الإله، ويؤمن في قرارة الضمير بالقوي الكونية التي لا تعقل ولا تعي ولا تريد.
والعقل والدين في ذلك متفقان.
فلا يفهم العقل إلها بغير ذات، ولا يفهم أن الكمال المطلق يتأتى لغير كائن كامل ويتأتى له ناقصًا منه الوعي.. ثم يوصف بغاية الكمال.
وإنما عرض هذا الوهم من التناقض بين كلمة الـ person وكلمة absolute أو كلمة «الشخص وكلمة الكمال بغير حدود.
وحاول بعضهم كما حاول الفيلسوف الإنجليزي برادلي bradley أن يقرب الفكرة إلي الفهم فطبق عليها مذهبه المعروف عن الحقائق والظواهر، وهو أن الظواهر تدل علي الحقائق ولكنها ليست هي إياها في الجملة والتفصيل، فالكمال المطلق هو الله، ولكن الكمال المطلق هو الحقيقة، والله هو الظاهرة التي يحيط بها وعي الإنسان فهيأ «ذات» كما تظهر له، ومعني مطلق من وراء هذه الظواهر، وهي حقيقة في معناها أو معني في حقيقتها بلا اختلاف.
ولم تكن بالفيلسوف حاجة إلي هذا التقريب لو أحضر في خلده أن الذات التي لا حدود لكمالها معقولة، بل واجبة، فإما أن نفهم أن الكمال المطلق ذات واعية وإما أن ننفي عنه الوعي وننفي عنه الوجود، لأنه لا كمال بغير علم بالنفس كما أسلفنا فصلاًعن العلم بالموجودات.
فمن فكر في الله فكر في ذات.
ومن آمن بالله آمن بذات.
ومن قال إن الكمال المطلق شيء وإن الله شيء آخر كما قال بعض الفلاسفة لم يكن هناك معني لتخصيص قوة من قوي الكون باسم الله، من غير فارق بينها وبين تلك القوي، يجعلها ذاتا لها كيان.
ولم نر أحدا من المفكرين يقول بأن الله «معني» إلا ليجعله أكبر من ذات لا ليجعله أقل من ذات، ولكنه لا يكون أكبر من ذات بالتجرد من صفات الذاتية، بل بالزيادة عليها، فينتهون بالتنزيه إلي ذات أكبر من جميع الذوات.
والقول بالذات الإلهية يبطل القول «بوحدة الوجود» كما يبطل القول بأن الله معني لا ذات له أو قوة غير واعية.
فإن القائلين بوحدة الوجود يرون أن الكون هو الله وأن الله هو الكون، وأنه لا فرق بين الخلق والخالق، ولا بين المظاهر المادية والحقائق الإلهية، وقد صدق الفيلسوف الألماني شوبنهور حين قال إن أصحاب هذا المذهب لم يصنعوا شيئا سوي أنهم أضافوا مرادفا آخر لاسم الكون.. فزادوا اللغة كلمة ولم يزيدوا العقل تفسيرا ولا الفلسفة مذهبا ولا الدين عقيدة فالكون إذن و«الوجود الواحد» مترادفان لا يفسر أحدهما الآخر ولا يزيد عليه، وليس هذا هو المقصود بالبحث في الحقائق الإلهية، لأنك لا تفسر الكلمة بكلمة تؤدي معناها بعينه ولا تفسر الشيء بالشيء نفسه أو لا تفسر الماء بالماء كما يقول بعض الأدباء.
فما الله؟ هو الكون كله!
وما الكون كله؟ هو الله!
وهذا قصارى ما يؤخذ من «وحدة الوجود» وليس هو البحث المقصود وكأنما التفسير النهائي لجملة الأشياء يلجئنا إلي «ذات» لا محالة تقصد وتريد فلا تفسر القوي بالقوي، ولا المعاني بالمعاني ولا الأكوان بالأكوان، ولكنك تفسرها جميعا «بذات» مريدة فيسمي ذلك تفسيرا تستريح إليه العقول.
وشوبنهور نفسه يقرر أن الوجود فكرة وإرادة، وأن الفكرة هي القداسة الإلهية والإرادة هي مظاهرها الدنيوية، وأن الفكرة تدخل في حيز الإرادة لتعود إلى حالة لا سعي فيها ولا عنت ولا مجاهدة؛ لأن العنت كله من الإرادة في محاولاتها الكثيرة، فلا تفسير لشيء لا فكرة له ولا إرادة إلا بكيان يفكر ويريد، وليس تصور «الذات الإلهية» عادة إنسانية تعودها الإنسان بغير تفكير — كما يرى بعض النفسانيين — لأنه تعود أن يخلع صورته على الأشياء ويحسبها ظلالًا له تحكيه في ملامحه وخوافيه، ولكنها نهاية ما يدركه العقل واعيًا صاحيًا مع التفكير ومتابعة التفكير إلى أقصى مداه.