يستهل عبد الرحمن منيف الجزء الاول من ثلاثيته الروائية <<أرض السواد>> (1999) بنشيد ملحمي مؤلف من خمسة مقاطع مختارة م خمسة اصوات هي لشعراء ينتمون الى زمن العراق القديم: زمن سومر وبابل وأور.
يشكل هذا الاستهلال، كما يبدو لي، ووفق اختيار منيف لهذه المقاطع وترتيبه لتواليها، مفتاحا لا لقراءة الاجزاء الثلاثة من ارض السواد وحسب، بل للوقوف، ايضا، على علاقة منيف بهذه الرواية بصفتها رواية تاريخية.
عن علاقة منيف بهذه الرواية، وفهمه، من ثم، للرواية التاريخية، أقدم هذه الكلمة، وأبدأ بقراءة هذا الاستهلال الملحمي.
المقطع الاول: يشير منيف الى ان هذا المقطع هو لشاعر احدى الملاحم السومرية، ثم يأتي صوت الشاعر مخاطبا بلده سومر فيضعه موضع <<البلد العظيم بين جميع بلدان العالم>>، ويصفه بالبلد المغمور <<بالنور الثابت الراسخ>>، ويرفع نواميس موتاه الى مقام الإلهي السامي والمقدس، كأن موتاه هم بذلك الغائب الذي لا يغيب، او الزمن التاريخي الذي لا يموت، او حسب تعبير الشاعر الملحمي، السر، او القلب العميق الذي <<لا يسبر غوره>>.
ينتهي المقطع بابتهال يحمل أماني تكاثر النعمة في بيت سومر.
ترمز معاني هذا المقطع المختار من قبل الروائي الى بلد عريق (بغداد العراق)، موسوم تاريخه بالعظمة، وبثبات نوره ورسوخه، وبما يعجز الآخر عن سبر غوره. فسومر، كما يقول الشاعر، تأتي ب<<المعرفة الصحيحة>> التي هي كالسماء، <<ولا يمكن أن تلمس>>.
في المقطع الثاني يشير منيف الى تعاقب التاريخ من سومر الى آكاد الى مجيء البابليين وإلى بلايا دهمت. ثم يأتي صوت الشاعر البابلي مناجيا الإله كي يهبه عطفا ويبدله بالذنب رحمة.
يعترف هذا الشاعر بإثم اقترفه، وبحمأة تورط فيها. بهذا الاعتراف يبدو ال<<أنا>> المتمثل في صوت الشاعر البابلي، ذاتا مسؤولا عما آل إليه البلد العظيم، اي عن الدمار الذي سيقدم المقطع الثالث صورة عنه:
في المقطع الثالث يخبرنا منيف بمجيء الغرباء وتدميرهم اور، ثم يترك الكلام للشاعر الذي يناجي الرب أنانا ناعيا اليه دمار المدينة وهدم اسوارها. وفي ما يشبه التعارض بين ما كان عليه اهالي اور من نعمة وما آل إليه حالهم من هلاك، يقول الشاعر:
<<... وفي الشوارع، حيث اقاموا الأعياد، نثرت أجسادهم في كل الدروب، حيث كانوا يتنزهون، تناثرت الأجساد وفي ساحتها حيث احتفلوا، تراكمت اكوام القتلى...>> (ص 12 من الجزء الاول <<أرض السواد>>).
يشي مشهد الموت والدمار في هذا المقطع الثالث بعلاقة سببية بين مجيء الغرباء ومشاعر الذنب لدى ال<<أنا>>. كأن مجيء الغرباء وما آل إليه البلد العظيم من موت ودمار وهو مسؤولية هذا ال<<أنا>> وبالتالي هو ما ولد عنده مشاعر الذنب وحمل الشاعر على طلب الرحمة والغفران.
يقدّم منيف المقطع الرابع بصفته نشيدا ل<<نرجال>> عندما تنهض المدينة من جديد. ترتدي المدينة النور اي تعود الى ما كانت عليه <<مغمورة بالنور>>. لكنها بعودتها هذه تعلّم من اعتدى عليها، <<الغرباء>>، درسا، وتقدّم للملأ حكمة:
يقول الدرس بأنه وأمام عظمة المدينة الرهيبة، وقوة اياديها ورحابة صدرها لا بد وأن تنحني <<رؤوس المتكبرين>>.
وتقول الحكمة بأن <<المسيء والشرير لا بد ان يرتميا في أصداع الارض>>.
النهاية والبداية
ثلاث حركات تكوينية تحكم النشيد (الذي اختاره منيف ورتب توالي مقاطعه كما ذكرنا). هذه الحركات هي من خصائص بنية السرد الحكائي. وتتمثل في:
بداية، وعقدة، ونهاية.
ترتد النهاية السعيدة على البداية السعيدة، فينغلق النشيد على مغزاه العميق، اي على عظمة المدينة وخلودها مغمورة بالنور.
يشكل هذا النشيد، من حيث حركاته التكوينية ومغزاه، مرجعا لقراءة رواية منيف <<أرض السواد>>، فهي تضمر درسه وتقول بحكمته.
كيف:
يبدأ السرد الروائي، التاريخي، في <<أرض السواد>> من زمن موت والي بغداد سليمان الكبير الذي اوصى اولاده وأصهاره بالحفاظ على هذا البلد، العراق بلد النشيد نفسه عظيما كما سيتركه لهم.
يقول سليمان الكبير في وصيّته:
<<إذا كنتم قلبا واحدا، وبينكم محبة لا يتسلط الغريب وتحوزون الدولة التي اقتنيتها، وإلا متى تفخذتم عن بعضكم يأتي الغرباء من الوزراء ويبدلون الدولة والعائلة>> (ج1 ص 15/16، 1999، بيروت المؤسسة العربية للدراسات - دار التنوير ). هكذا تبدأ رواية <<أرض السواد>> صفحاتها الاولى، كما ابتدأ النشيد، من مدينة عظيمة، هي بغداد العراق التي تركها سليمان الكبير، بعد اثنتين وعشرين سنة، امانة بين ايدي من سيخلفونه، وقد طلب منهم ان <<يولوا صهره علي باشا، الاكبر سنا والاكثر تمرسا بالحكم>> (ص 15)، مقدما اياه على اولاده الثلاثة: سعيد وصالح وصادق.
لكن، وكما انتاب الدمار المدينة القديمة، حسب النشيد، حلت الفوضى في هذه المدينة، حسب <<أرض السواد>>، وبعد وفاة سليمان الكبير. فلا الدرس القديم افاد، ولا الحكمة نفعت. كأننا لا نقرأ التاريخ، او كأننا نقرأه دون ان نعرفه، او كأننا لا نقرأ إلا لننسى ما قرأناه.
تقترن الفوضى في رواية منيف، ب: غزو الوهابيين للبلد، اي بمجيء الغرباء، وحصار سعود، ابن الامير عبد العزيز، للبصرة، وذلك انتقاما لمقتل أبيه (الامير عبد العزيز). يهدم سعود مشرب الماء، وكذلك القبور <<الموجودة خارج سور المدينة>> (ج1 ص 18).
وتبدو الفوضى نتيجة لعدم الاخذ بالوصية، والالتزام بالحرص على الامانة التي تركها سليمان الكبير. هكذا وبدافع الوصول الى السلطة جرى الاقتتال عليها:
يقتل مدد بك الوالي علي باشا كي يتولى سليمان الصغير السلطة على بغداد. ثم يقتل سليمان الصغير ويتولى عبد الله التوتونجي على المدينة. ثم يقتل هذا الاخير ويتولى بعده سعيد باشا، ابن سليمان الكبير. وكان ابوه قد استبعده في وصيته.
تحكي <<أرض السواد>> عن هذه الفوضى التي تشكل حركة ثانية فيها، لكن ما تحكيه رواية منيف عنها لا يشكل سوى القليل من عدد صفحاتها ومن زمنها السردي. كأن <<أرض السواد>> لا تحيلنا على النشيد الملحمي إلا لتذكرنا بالدرس، ولتؤكد على عظمة المدينة، على تاريخ عريق للمدينة هو بداية النشيد وهو نهايته، وهو ما سوف تحكي عنه الرواية بإسهاب.
يتمثل تاريخ هذه المدينة العريق في قدرتها على التغلب، دوما، على الفوضى، وفي سعيها الدؤوب للحفاظ على عظمتها. وكما هي، في النشيد، مدينة مغمورة بالنور، هي في الرواية مدينة ترتدي لباس شمسها التي لا تغيب.
ثمة اذاً موازاة بين النشيد والرواية. بل بين ملحمتين تشتركان في المغزى العميق، في الروح الذي يشكّل حركة النصين، على اختلافهما، كأن هذه الحركة هي حركة التاريخ يتكرر، لكن على قاعدة هي عظمة المدينة. او هي خلودها العظيم.
هكذا، ورغم الغرباء، ورغم الفوضى والدمار يؤول العراق، سريعا في الرواية، الى ما آلت إليه سومر وبابا وأور، في النشيد.
لا يتوقف راوي <<أرض السواد>> طويلا عند الفوضى التي اعقبت موت سليمان الكبير، ولا يسهب في سرد ما جرى حينها من احداث. ليست الاحداث هماً أساسياً في الرواية ولا حكايات الذين أخلوا بالوصية وقتل بعضُهم بعضا من اجل الحصول على ولاية المدينة التي تركها لهم سليمان الكبير. بل هذا الروح الذي يسكن منيف ويجعل الراوي مشغولا بأناس العراق وتاريخهم المجيد.
الفوضى والاقتتال على السلطة
يقفز زمن السرد قفزاً حين الكلام على الغرباء، على الفوضى والاقتتال على السلطة، كي يصل الى زمن داود باشا جاعلا من تاريخ ولايته على بغداد والعراق حكاية لرواية طويلة، كأن رواية منيف بأجزائها الثلاثة (1400 صفحة) ليست إلا هذه الحكاية.
يأتي داود باشا عقب مقتل سعيد باشا فيعمل على تثبيت سلطته. يواجه الانكليز والفرنسيين الطامعين بثروات البلد العظيم. يقاوم بحنكة مسعى القنصل الانكليزي ريتش لجعل العراق تابعا لحكم دولته. يطوع قبائل البدو في الجنوب، وينتصر على بعض الأغوات الذين يتعاونون مع الغريب في الشمال ويحيكون المؤامرات ضده. ولا يقطع شعرة معاوية مع الاتراك العثمانيين في اسطنبول.
يسهب راوي <<أرض السواد>> في الكلام على دهاء داود باشا، وأسلوبه المرن، المتنوع، في التعامل مع اعدائه خاصة ريتش الذي يجوّع بغداد وزوجته التي يذهلها العراق وتعمل على سرقة آثاره.
كذلك يسهب هذا الراوي في الكلام عن ابناء العراق الذين نسيهم التاريخ وعاشوا على هامش الزمن.
تحفل رواية منيف بالكثير من الشخصيات التي تمثل اهل بغداد الفقراء، الطيبين، واصحاب المهن، وغيرهم من المحبين والمخلصين لبلدهم. ما يجعلنا نرتبط، نحن القراء، بعلاقة ود وألفة وهؤلاء الناس. من امثال سيفو، او وكما ينادونه ابو فلاح الذي ينقل الماء من النهر الى أهل بغداد. والحاج صالح العلو، والاسطة اسماعيل، وحسون، وفطيم (زوجة سيفو) وأم بدري. نحزن لمقتل الضابط بدري الراغب في السلام لبلده. ونصغي الى علاقة بعض العراقيين ب<<نجمة>>، نحزن لقتلها... وتبقى احاديث رواد المقاهي على ضفة دجلة واصداء اصواتهم، وهسهسة الريح يحاور سعف النخيل، ويلاعب مياه النهر، وصورة المراكب، وحركة الصيادين... يبقى كل هذا العالم الثري، الضاج بالحياة حاضرا في مخيلتنا.
ويبقى صوت خَلَف يقول، في نهاية الجزء الثالث من الرواية، للقنصل الانكليزي ريتش: <<هذا الوالي، اسمه داود، وهذا اللي يريده لازم يصير>> (ص 302).
بعدها، يقول القنصل الانكليزي لداود باشا:
<<يا فخامة الباشا>> (لاحظوا يا <<فخامة>> يقول)، <<لقد حصلت امور عديدة في الفترة الاخيرة اشعرتني بالضيق والعجز عن مواصل مهامي، وهذا ما جعلني اقرر المغادرة>> (ص 303).
يغادر القنصل ريتش بغداد في نهاية الرواية، يرحل عن البلد العظيم، يشاهد ذيّون نهاية الرحلة: رحلة ريتش في الحصول على العراق، ورحلة داود باشا لطرد ريتش من العراق. كانت الرحلة صعبة وشاقة عليهما كل في اتجاهه، حتى ان ذيون لا يعود يعرف <<هل ما شهده م البداية الى تلك اللحظة حلم أم حقيقة>> (ص 307).
كأن هذا الوالي الذي اختار منيف زمنه لروايته تعلّم الدرس من ذاك النشيد وعمل وفق حكمته.
لا يكتب منيف تاريخا للعراق، بل رواية لهذا التاريخ. والرواية، كما نعرف، لا تنقل التاريخ ولا ترويه كما يكتبه المؤرخون.
يكتب منيف رواية تاريخية إلا ان تعامله مع التاريخ يختلف عن روايات اخرى تعاملت هي ايضا مع التاريخ.
لا يستعين منيف، في روايته، بمقاطع من التاريخ ليدلل على فكرة سياسية، او ايديولوجية تخص حاضرنا، وإن كانت قراءتنا لروايته تحملنا على التبصر في هذا الحاضر.
لا يقتبس منيف نصوصا من كتب التاريخ، او من غيرها يوردها كشهادة، او كوثيقة تدعم بحقيقتها التاريخية الحقيقة الفنية للرواية.
يكتب منيف روايته على ايقاع الروح الساكن في الزمن التاريخي للعراق العظيم. يتداخل التاريخي المرجعي بالمتخيل السردي ليبدع اسطور الأرض العريقة، وألق زمنها المديد. وليرسم صور شمسها ومياهها ونخيلها... ويوحي برائحة التراب وعبق النبات... ويرينا الناس وقد تنوعوا وتمايزوا في الزي والمسكن واللهجة والسلوك...
يسألني عبد الرحمن منيف حين اخبره بأني قرأت <<أرض السواد>>:
كلها؟
كلها... لم استطع ان اتركها.
هل فهمت لهجة الناس، العراقيين؟
كان كأنه يسأل عن طفولة له، هناك، في البلد الذي لم يعد يراه... فذهب إليه على بساط من ورق، وطار فوقه بأجنحة من حروف...
توسل منيف المتخيل السردي يعيد خلق كل شيء، بما في ذلك التاريخ... فوفر لنا متعة السفر الى الاماكن المحظورة. وحملنا، بخياله، الى الازمنة التي اندثرت...
لقد ذهب عبد الرحمن منيف الى العراق دون ان يعود إليه.
في نهاية النشيد، يقول جوديا مبتهلا ومخاطبا أمه ناتشي:
<<سأطرح هذه الكلمات، يا أمي، سأسرد لك حلمي، فهل ترغب مفسرة الاحلام ان تفسره لي؟>>.
في إهداء منيف لروايته <<أرض السواد>>، يقول:
<<إلى نورة، أمي، التي ارضعتني مع الحليب حب العراق>>.
يقف عبد الرحمن منيف في <<أرض السواد>> خلف الراوي، يقف الراوي خلف داود باشا، يقف داود باشا خلف شعراء سومر وبابل وأور. ويبدو الحلم مشتركا بين الرواية والنشيد، بين ملحمتين تنتمي كل منهما الى زمن هو تاريخ العراق العظيم.
(�) الكلمة التي ألقتها يمنى العيد في ندوة أقيمت في معرض بيروت العربي الدولي للكتاب ال 48 تكريما لمنيف.
2004
جريدة السفير
يشكل هذا الاستهلال، كما يبدو لي، ووفق اختيار منيف لهذه المقاطع وترتيبه لتواليها، مفتاحا لا لقراءة الاجزاء الثلاثة من ارض السواد وحسب، بل للوقوف، ايضا، على علاقة منيف بهذه الرواية بصفتها رواية تاريخية.
عن علاقة منيف بهذه الرواية، وفهمه، من ثم، للرواية التاريخية، أقدم هذه الكلمة، وأبدأ بقراءة هذا الاستهلال الملحمي.
المقطع الاول: يشير منيف الى ان هذا المقطع هو لشاعر احدى الملاحم السومرية، ثم يأتي صوت الشاعر مخاطبا بلده سومر فيضعه موضع <<البلد العظيم بين جميع بلدان العالم>>، ويصفه بالبلد المغمور <<بالنور الثابت الراسخ>>، ويرفع نواميس موتاه الى مقام الإلهي السامي والمقدس، كأن موتاه هم بذلك الغائب الذي لا يغيب، او الزمن التاريخي الذي لا يموت، او حسب تعبير الشاعر الملحمي، السر، او القلب العميق الذي <<لا يسبر غوره>>.
ينتهي المقطع بابتهال يحمل أماني تكاثر النعمة في بيت سومر.
ترمز معاني هذا المقطع المختار من قبل الروائي الى بلد عريق (بغداد العراق)، موسوم تاريخه بالعظمة، وبثبات نوره ورسوخه، وبما يعجز الآخر عن سبر غوره. فسومر، كما يقول الشاعر، تأتي ب<<المعرفة الصحيحة>> التي هي كالسماء، <<ولا يمكن أن تلمس>>.
في المقطع الثاني يشير منيف الى تعاقب التاريخ من سومر الى آكاد الى مجيء البابليين وإلى بلايا دهمت. ثم يأتي صوت الشاعر البابلي مناجيا الإله كي يهبه عطفا ويبدله بالذنب رحمة.
يعترف هذا الشاعر بإثم اقترفه، وبحمأة تورط فيها. بهذا الاعتراف يبدو ال<<أنا>> المتمثل في صوت الشاعر البابلي، ذاتا مسؤولا عما آل إليه البلد العظيم، اي عن الدمار الذي سيقدم المقطع الثالث صورة عنه:
في المقطع الثالث يخبرنا منيف بمجيء الغرباء وتدميرهم اور، ثم يترك الكلام للشاعر الذي يناجي الرب أنانا ناعيا اليه دمار المدينة وهدم اسوارها. وفي ما يشبه التعارض بين ما كان عليه اهالي اور من نعمة وما آل إليه حالهم من هلاك، يقول الشاعر:
<<... وفي الشوارع، حيث اقاموا الأعياد، نثرت أجسادهم في كل الدروب، حيث كانوا يتنزهون، تناثرت الأجساد وفي ساحتها حيث احتفلوا، تراكمت اكوام القتلى...>> (ص 12 من الجزء الاول <<أرض السواد>>).
يشي مشهد الموت والدمار في هذا المقطع الثالث بعلاقة سببية بين مجيء الغرباء ومشاعر الذنب لدى ال<<أنا>>. كأن مجيء الغرباء وما آل إليه البلد العظيم من موت ودمار وهو مسؤولية هذا ال<<أنا>> وبالتالي هو ما ولد عنده مشاعر الذنب وحمل الشاعر على طلب الرحمة والغفران.
يقدّم منيف المقطع الرابع بصفته نشيدا ل<<نرجال>> عندما تنهض المدينة من جديد. ترتدي المدينة النور اي تعود الى ما كانت عليه <<مغمورة بالنور>>. لكنها بعودتها هذه تعلّم من اعتدى عليها، <<الغرباء>>، درسا، وتقدّم للملأ حكمة:
يقول الدرس بأنه وأمام عظمة المدينة الرهيبة، وقوة اياديها ورحابة صدرها لا بد وأن تنحني <<رؤوس المتكبرين>>.
وتقول الحكمة بأن <<المسيء والشرير لا بد ان يرتميا في أصداع الارض>>.
النهاية والبداية
ثلاث حركات تكوينية تحكم النشيد (الذي اختاره منيف ورتب توالي مقاطعه كما ذكرنا). هذه الحركات هي من خصائص بنية السرد الحكائي. وتتمثل في:
بداية، وعقدة، ونهاية.
ترتد النهاية السعيدة على البداية السعيدة، فينغلق النشيد على مغزاه العميق، اي على عظمة المدينة وخلودها مغمورة بالنور.
يشكل هذا النشيد، من حيث حركاته التكوينية ومغزاه، مرجعا لقراءة رواية منيف <<أرض السواد>>، فهي تضمر درسه وتقول بحكمته.
كيف:
يبدأ السرد الروائي، التاريخي، في <<أرض السواد>> من زمن موت والي بغداد سليمان الكبير الذي اوصى اولاده وأصهاره بالحفاظ على هذا البلد، العراق بلد النشيد نفسه عظيما كما سيتركه لهم.
يقول سليمان الكبير في وصيّته:
<<إذا كنتم قلبا واحدا، وبينكم محبة لا يتسلط الغريب وتحوزون الدولة التي اقتنيتها، وإلا متى تفخذتم عن بعضكم يأتي الغرباء من الوزراء ويبدلون الدولة والعائلة>> (ج1 ص 15/16، 1999، بيروت المؤسسة العربية للدراسات - دار التنوير ). هكذا تبدأ رواية <<أرض السواد>> صفحاتها الاولى، كما ابتدأ النشيد، من مدينة عظيمة، هي بغداد العراق التي تركها سليمان الكبير، بعد اثنتين وعشرين سنة، امانة بين ايدي من سيخلفونه، وقد طلب منهم ان <<يولوا صهره علي باشا، الاكبر سنا والاكثر تمرسا بالحكم>> (ص 15)، مقدما اياه على اولاده الثلاثة: سعيد وصالح وصادق.
لكن، وكما انتاب الدمار المدينة القديمة، حسب النشيد، حلت الفوضى في هذه المدينة، حسب <<أرض السواد>>، وبعد وفاة سليمان الكبير. فلا الدرس القديم افاد، ولا الحكمة نفعت. كأننا لا نقرأ التاريخ، او كأننا نقرأه دون ان نعرفه، او كأننا لا نقرأ إلا لننسى ما قرأناه.
تقترن الفوضى في رواية منيف، ب: غزو الوهابيين للبلد، اي بمجيء الغرباء، وحصار سعود، ابن الامير عبد العزيز، للبصرة، وذلك انتقاما لمقتل أبيه (الامير عبد العزيز). يهدم سعود مشرب الماء، وكذلك القبور <<الموجودة خارج سور المدينة>> (ج1 ص 18).
وتبدو الفوضى نتيجة لعدم الاخذ بالوصية، والالتزام بالحرص على الامانة التي تركها سليمان الكبير. هكذا وبدافع الوصول الى السلطة جرى الاقتتال عليها:
يقتل مدد بك الوالي علي باشا كي يتولى سليمان الصغير السلطة على بغداد. ثم يقتل سليمان الصغير ويتولى عبد الله التوتونجي على المدينة. ثم يقتل هذا الاخير ويتولى بعده سعيد باشا، ابن سليمان الكبير. وكان ابوه قد استبعده في وصيته.
تحكي <<أرض السواد>> عن هذه الفوضى التي تشكل حركة ثانية فيها، لكن ما تحكيه رواية منيف عنها لا يشكل سوى القليل من عدد صفحاتها ومن زمنها السردي. كأن <<أرض السواد>> لا تحيلنا على النشيد الملحمي إلا لتذكرنا بالدرس، ولتؤكد على عظمة المدينة، على تاريخ عريق للمدينة هو بداية النشيد وهو نهايته، وهو ما سوف تحكي عنه الرواية بإسهاب.
يتمثل تاريخ هذه المدينة العريق في قدرتها على التغلب، دوما، على الفوضى، وفي سعيها الدؤوب للحفاظ على عظمتها. وكما هي، في النشيد، مدينة مغمورة بالنور، هي في الرواية مدينة ترتدي لباس شمسها التي لا تغيب.
ثمة اذاً موازاة بين النشيد والرواية. بل بين ملحمتين تشتركان في المغزى العميق، في الروح الذي يشكّل حركة النصين، على اختلافهما، كأن هذه الحركة هي حركة التاريخ يتكرر، لكن على قاعدة هي عظمة المدينة. او هي خلودها العظيم.
هكذا، ورغم الغرباء، ورغم الفوضى والدمار يؤول العراق، سريعا في الرواية، الى ما آلت إليه سومر وبابا وأور، في النشيد.
لا يتوقف راوي <<أرض السواد>> طويلا عند الفوضى التي اعقبت موت سليمان الكبير، ولا يسهب في سرد ما جرى حينها من احداث. ليست الاحداث هماً أساسياً في الرواية ولا حكايات الذين أخلوا بالوصية وقتل بعضُهم بعضا من اجل الحصول على ولاية المدينة التي تركها لهم سليمان الكبير. بل هذا الروح الذي يسكن منيف ويجعل الراوي مشغولا بأناس العراق وتاريخهم المجيد.
الفوضى والاقتتال على السلطة
يقفز زمن السرد قفزاً حين الكلام على الغرباء، على الفوضى والاقتتال على السلطة، كي يصل الى زمن داود باشا جاعلا من تاريخ ولايته على بغداد والعراق حكاية لرواية طويلة، كأن رواية منيف بأجزائها الثلاثة (1400 صفحة) ليست إلا هذه الحكاية.
يأتي داود باشا عقب مقتل سعيد باشا فيعمل على تثبيت سلطته. يواجه الانكليز والفرنسيين الطامعين بثروات البلد العظيم. يقاوم بحنكة مسعى القنصل الانكليزي ريتش لجعل العراق تابعا لحكم دولته. يطوع قبائل البدو في الجنوب، وينتصر على بعض الأغوات الذين يتعاونون مع الغريب في الشمال ويحيكون المؤامرات ضده. ولا يقطع شعرة معاوية مع الاتراك العثمانيين في اسطنبول.
يسهب راوي <<أرض السواد>> في الكلام على دهاء داود باشا، وأسلوبه المرن، المتنوع، في التعامل مع اعدائه خاصة ريتش الذي يجوّع بغداد وزوجته التي يذهلها العراق وتعمل على سرقة آثاره.
كذلك يسهب هذا الراوي في الكلام عن ابناء العراق الذين نسيهم التاريخ وعاشوا على هامش الزمن.
تحفل رواية منيف بالكثير من الشخصيات التي تمثل اهل بغداد الفقراء، الطيبين، واصحاب المهن، وغيرهم من المحبين والمخلصين لبلدهم. ما يجعلنا نرتبط، نحن القراء، بعلاقة ود وألفة وهؤلاء الناس. من امثال سيفو، او وكما ينادونه ابو فلاح الذي ينقل الماء من النهر الى أهل بغداد. والحاج صالح العلو، والاسطة اسماعيل، وحسون، وفطيم (زوجة سيفو) وأم بدري. نحزن لمقتل الضابط بدري الراغب في السلام لبلده. ونصغي الى علاقة بعض العراقيين ب<<نجمة>>، نحزن لقتلها... وتبقى احاديث رواد المقاهي على ضفة دجلة واصداء اصواتهم، وهسهسة الريح يحاور سعف النخيل، ويلاعب مياه النهر، وصورة المراكب، وحركة الصيادين... يبقى كل هذا العالم الثري، الضاج بالحياة حاضرا في مخيلتنا.
ويبقى صوت خَلَف يقول، في نهاية الجزء الثالث من الرواية، للقنصل الانكليزي ريتش: <<هذا الوالي، اسمه داود، وهذا اللي يريده لازم يصير>> (ص 302).
بعدها، يقول القنصل الانكليزي لداود باشا:
<<يا فخامة الباشا>> (لاحظوا يا <<فخامة>> يقول)، <<لقد حصلت امور عديدة في الفترة الاخيرة اشعرتني بالضيق والعجز عن مواصل مهامي، وهذا ما جعلني اقرر المغادرة>> (ص 303).
يغادر القنصل ريتش بغداد في نهاية الرواية، يرحل عن البلد العظيم، يشاهد ذيّون نهاية الرحلة: رحلة ريتش في الحصول على العراق، ورحلة داود باشا لطرد ريتش من العراق. كانت الرحلة صعبة وشاقة عليهما كل في اتجاهه، حتى ان ذيون لا يعود يعرف <<هل ما شهده م البداية الى تلك اللحظة حلم أم حقيقة>> (ص 307).
كأن هذا الوالي الذي اختار منيف زمنه لروايته تعلّم الدرس من ذاك النشيد وعمل وفق حكمته.
لا يكتب منيف تاريخا للعراق، بل رواية لهذا التاريخ. والرواية، كما نعرف، لا تنقل التاريخ ولا ترويه كما يكتبه المؤرخون.
يكتب منيف رواية تاريخية إلا ان تعامله مع التاريخ يختلف عن روايات اخرى تعاملت هي ايضا مع التاريخ.
لا يستعين منيف، في روايته، بمقاطع من التاريخ ليدلل على فكرة سياسية، او ايديولوجية تخص حاضرنا، وإن كانت قراءتنا لروايته تحملنا على التبصر في هذا الحاضر.
لا يقتبس منيف نصوصا من كتب التاريخ، او من غيرها يوردها كشهادة، او كوثيقة تدعم بحقيقتها التاريخية الحقيقة الفنية للرواية.
يكتب منيف روايته على ايقاع الروح الساكن في الزمن التاريخي للعراق العظيم. يتداخل التاريخي المرجعي بالمتخيل السردي ليبدع اسطور الأرض العريقة، وألق زمنها المديد. وليرسم صور شمسها ومياهها ونخيلها... ويوحي برائحة التراب وعبق النبات... ويرينا الناس وقد تنوعوا وتمايزوا في الزي والمسكن واللهجة والسلوك...
يسألني عبد الرحمن منيف حين اخبره بأني قرأت <<أرض السواد>>:
كلها؟
كلها... لم استطع ان اتركها.
هل فهمت لهجة الناس، العراقيين؟
كان كأنه يسأل عن طفولة له، هناك، في البلد الذي لم يعد يراه... فذهب إليه على بساط من ورق، وطار فوقه بأجنحة من حروف...
توسل منيف المتخيل السردي يعيد خلق كل شيء، بما في ذلك التاريخ... فوفر لنا متعة السفر الى الاماكن المحظورة. وحملنا، بخياله، الى الازمنة التي اندثرت...
لقد ذهب عبد الرحمن منيف الى العراق دون ان يعود إليه.
في نهاية النشيد، يقول جوديا مبتهلا ومخاطبا أمه ناتشي:
<<سأطرح هذه الكلمات، يا أمي، سأسرد لك حلمي، فهل ترغب مفسرة الاحلام ان تفسره لي؟>>.
في إهداء منيف لروايته <<أرض السواد>>، يقول:
<<إلى نورة، أمي، التي ارضعتني مع الحليب حب العراق>>.
يقف عبد الرحمن منيف في <<أرض السواد>> خلف الراوي، يقف الراوي خلف داود باشا، يقف داود باشا خلف شعراء سومر وبابل وأور. ويبدو الحلم مشتركا بين الرواية والنشيد، بين ملحمتين تنتمي كل منهما الى زمن هو تاريخ العراق العظيم.
(�) الكلمة التي ألقتها يمنى العيد في ندوة أقيمت في معرض بيروت العربي الدولي للكتاب ال 48 تكريما لمنيف.
2004
جريدة السفير