إلي أحمد بوزفور بدون مناسبة.
أخذتني من ولم تبقني لي فها أنا بلا أنا متصوف عربي قديم استهلاك بدأت أحن إلي أيامي التي تصرمت فأدركت أني شخت. بدأت أري إلي صدور الفتيات تتدلي وهن لم يبلغن الحلم بعد
فأدركت أن ما فات فات وأنه لم يعد علي سوي لزوم ركن لا تعبره الأصوت ولا الروائح والأضواء وانتظار النهاية التي لابد هي قادمة, تنشر خوافيها علي هذا الشيء الذي كنته, وكأنه ما عاش البتة هنا وسط البشر. ما خلف ذرية ولا شاد صرحا أو اكتشف قارة, وإنما وقف علي قصبتيه يقاوم الطغاة وجحافل الغزاة, وحين لم تخصب دماه أرضا ولا أطلعت هتافاته نبتا, دار في إعياء مسلما وجهه للشمس وجسمه للريح, وتهاوي وحيدا أمام الأيام المتسارعة اللامبالية تدوسه بالأقدام.
الكلمات
قلت للمرأة المطلة من شرفة الطابق الثالث:
سأعود في الساعة السابعة.
قالت: ماذا تقول؟
قلت: سأعول في السابعة. قولي له أن ينتظرني.
صرخت المرأة في يأس لا يخلو من احتجاج:
أنا لا أسمع حرفا مما تقول.
فردت ذراعي وبسطت كفي. ليس ذنبي أني أسمعها وهي لا تسمعني. أسهل علي الكلمات أن تسقط من أعلي علي أن تصعد من أسفل. كي تصعد الكلمات تلزمها أجنحة وسنوات من فرح. بدون ذلك تبقي مجرد حيوانات عمياء تعسة تسير مرعوبة محتمية بالحيطان, متهاوية لا تقوي علي الوقوف.
وأنا قلت للمرأة, مرة أخيرة, صارخا بأعلي صوتي:
السابعة. سأعود في السابعة. ثم انصرفت إلي حال سبيلي.
كنت أول من يعلم أني لن أعود, وأنه لن يكون ثمة أحد في انتظاري. لا في السابعة ولا في الثامنة ولا في أي وقت آخر. ومع ذلك فتحت فمي اعتباطا وقلت ما قلته. لماذا؟ أنا نفسي لا أعرف. لكنه لعبة محو الأثر التي تتملكني ويلذ لي أن أضعف أمامها من حين لآخر.
قصاصة أولي
شعر سكان طوكيو والمناطق المحيطة بهزة أرضية وقعت قبيل الساعة الرابعة من صباح أمس الخميس, بلغت قوتها6.9 درجات علي مقياس ريختر, إلا أنها لم توقع أضرارا حسب المعلومات الأولية بسبب قدرة البنايات اليابانية علي مقاومة الزلزال.
الأنفاس
سرت من بداية الشارع حتي نهايته, حيث كشك الجرائد والبائع العجوز ذو النظارات المقعرة, كان الشارع يحمل اسم شارع الحديقة, نسبة إلي الحديقة التي يجاورها امتداده. غير أن الحديقة ذهبت الآن: ماتت أشجارها واختفت مقاعدها وغابت جلسات عشاقها عند المغيب. وبدل شقشقة العصافير التي كانت تملأ الشارع أنسا لم تعد تسمع غير صرير عجلات الكراسي المتحركة يدفعها معطوبو الحرب في كل الاتجاهات.
كان ما تبقي من الحديقة علي يميني, وعلي يساري طرق فارغة ممنوعة. كانت السماء أيضا فوقي لكني لم أرفع عيني إليها. يكفيني ما أنا به من انسحاق.
قلت للبائع العجوز بعد أن حييته: هل من جديد؟
توقف عن ترتيب صف من الكتب أمامه, كان ينفض الغبار عنها, وركز أنظاره علي باستغراب, كأنه يراني لأول مرة. حدق في طويلا ثم قال: هذه الجرائد أمامك. أنظر بنفسك. كان يسخر مني دون شك. أو هو يعبر فقط عن احتجاجه بطريقته الخاصة. الجرائد؟ هل جرائد المدينة تأتي بجديد؟ ثم: هل هي جرائد حقا, أم أنها جريدة واحدة تتخفي وتتلون كي تفضحها صورة الزعيم القائد الحاضرة أبدا علي صدر صفحتها الأولي.
مررت ببصري علي عناوين الجريدة الواحدة. عناوين اليوم هي نفسها عناوين الأمس والسنة الماضية, لا شيء يحدث. الغبار والحر يقتلان كل رغبة في الحركة. سيأتي من الباب الشمالي حتما رجل برسالة. هذا ما يتوقعه الناس ولا تتحدث عنه الجرائد. سيعم الخير وتمتليء الأسواق وتتوقف الحرب. حرب تتواصل منذ ثلاثين عاما دون توقف, ولعلها مستمرة ثلاثين عاما أخري. ما أسعد من ولد ومات فيها, في الميدان, تحت الردم, أو يفعل الزمن فحسب: سيد المحاربين.
أحسست بريح قوية تلفح وجهي من جهة اليسار فالتفت. كانت آخر عمارة علي يسار الشارع تشرع في الانهيار. وقبل أن أتحرك مبتعدا من مكاني كانت طوابقها التسعة قد انهارت تماما بهدوء وبدون أن يصدر عن حيطانها وسقوفها المتهاوية أدني صوت. بدون أن يعلو منها صوت استغاثة واحد. حتي الغبار الذي بدا لحظة وكأنه يهدد بأن يهب في كل الاتجاهات عاد واستكان رابضا فوق منطقة الردم لا يتعداها. كأن الأمر يتعلق بعرض بطيء لفيلم تحريك صامت.
قلت للرجل العجوز: من حسن الطالع أن أحدا لم يكن يمر ساعتها جنب العمارة وإلا لوقع عليه الردم ومات. لم يجيبني, فأردفت: من حسن الطالع أيضا أن العمارة وقعت وهي خالية من سكانها. كنت أريد أن أملأ الفراغ بالكلام فحسب. لكن الرجل العجوز بدا فجأة محتدا وصرخ بي: من يدريك أن العمارة كانت خالية؟ نظرت إليه وإلي الردم ولم أجد جوابا.
فأردف: أحب قل لي. من يدريك؟ صمت تماما وهو ينظر إلي في تحد لا يخلو من اللوم, إلي أن اغرورقت عيناه بدمع لم ينجح في أن يخفيه فأشاح بوجهه عني ملتفتا جهة الردم وهو يقول: أنظر.
كانت أحلام الناس مرمية فوق الردم: خضراء, وردية, وبلون البنفسج... اني لي أن أصدق أن العمارة كانت مسكونة, وأن حيطانها الكالحة وأشخاصها المهمومين الذين باغتتهم الشيخوخة في زمن الحرب يحملون كل هذا القدر من الأحلام: أحلام ملونة في مدينة رمادية. أني لي أن أخمن أن الناس, ورغم كل ما حصل ويحصل طيلة هذه السنوات, كانوا قادرين علي مواصلة الحلم حتي النهاية.
قال بائع الجرائد العجوز, وكأنه يحدث نفسه: قلتها لهم أكثر من مرة. المدينة انهارت من زمان وأنفاس الناس هي وحدها التي تبقيها واقفة. كل الناس ماتوا في الحرب. لذلك لا بفر من الانهيار.
قصاصة ثانية
قالت السلطات الصينية إن زلزالا قوته5.9 درجة بمقياس ريختر المفتوح ضرب أمس الجمعة جنوب غربي الصين وشعر به سكان مناطق بعيدة في أقصي الشمال الشرقي للبلاد.
وأضافت وكالة أنباء الصين الجديدة أن الزلزال الذي باغت الناس في نومهم تسبب في تحطم آلاف البنايات وموت عدة مئات من الأسخاص تحت الردم, لا يعرف لحد الآن عددهم بالضبط بسبب استمرار عمليات الإنقاذ ورفع الأنقاض حتي الآن.
الرسالة
دخلت مكتب المفقودات من ناحيته الخلفية. لم أعرف بوضوح لم قمت بذلك؟ لعله الظل, ظل أشجار الباحة, أو لعلها الطريق المتربة الطويلة التي عبرتها راجلا تحت الشمس, ثم صوت البلبل الذي سمعته( هل أنا سمعته حقا؟) يزقزق جهة الباحة. كلما انسد باب الأمل أمامي أقصد مكتب المفقودات أبحث فيه عن شيء لا أعرف ماهو بالضبط لكني أحس إحساسا خفيا جارفا بأني أفتقده.
في البداية كنت أجيء المكتب مرة كل أسبوع, لكن بعد أن تعرفت علي الموظف الوحيد الذي يعمل به وعرفت أن مفقودات جديدة تأتي يوميا ولايسأل عنها أحد صرت أتردد عليه كل يوم, حتي في أيام العطل والأعياد. أحتسي كأس شاي مع الموظف وأقضي لحظات أغيب فيها عن نفسي وسط سراديب الأشياء المفقودة. ومع المدة صار بإمكاني, وأنا الزائر شبه الوحيد للمكان, أن أتصفح جميع الواردات, وهي أشياء لايخطر معظمها علي البال,
يمكنك بكل بساطة, أن تجد أمام أنفك عينا زجاجية تحدجك بنظرة مخيفة وتتابع خطواتك في المكان كله, كما يمكنك أن تجد قارورة عطر مهشمة أو ضحكة متلاشية ومنديلا ينبض بالدمع. يمكنك أن تعثر علي أرملة بئيسة مات زوجها في الحرب, أو علي مطرب أعرج صحبة ملحنه الأعمي. وأنا عثرت يوما علي علبة حلاوة طحينية مصنوعة في الصين تناولت منها مقدار لقمة فقالت لي: بصحتك كل شيء أجده في سراديب المكتب ما عدا الشيء الذي أبحث عنه.
كان الموظف غارقا في ذاته فلم ينتبه الي قدومي من الباب الخلفي. اقتربت منه محاذرا كيلا أوقظه مما خيل لي أنه غفوة لذيذة. وحين لم يعد يفصل بيننا غير النضد الطويل الأسود اكتشفت أنه كان يبكي. كان يمسك بين أصابع يسراه رسالة أكلت النار أعلاها, يقرأ حروفها بهمس ويبكي. كانت شفتاه تختلجان ورمش عينه اليسري يهتز بعنف. وسرعان ما تحولت القراءة الهامسة الي آهات.
لحظتها كنت قد وقفت أمامه تماما, فرفع عينيه ببطء نحوي دون أن يبدو عليه أنه فوجيء بقدومي. نظرة شاردة تركيز كأنها تنظر عبري الي الأشياء ورائي. وقال: تصور أنها كانت هنا كل هذه المدة وأنا أعيش علي أمل فرحة اللقاء به في يوم من الأيام.
كانت هنا؟ عن أي شيء تتحدث؟ سألته في حيرة.
الرسالة عشرون عاما وهي هنا. تحت أنفي. وأنا أعيش علي وهم الانتظار.
دفع بها الي بيد مرتعشة. كانت الرسالة من قيادة الأركان, تخبره في سطور مقتضبة أن ابنه الوحيد قد قتل في ساحة الشرف دفاعا عن الوطن وأنه قد حصل علي وسام يتعين علي من تبقي حيا من أسرته أن يتصل بالقيادة لتسلمه.
قصاصة ثالثة
أفادت وكالة الأنباء الايرانية أن هزة أرضية قوتها5 درجات بمقياس ريختر ضربت صباح أمس السبت شمال البلاد وأدت الي إنهيار عدة مبان سكنية ومحو قري بأكملها عن الخريطة. وفيما تتوالي عمليات الإنقاذ علم من مصادر شبه حكومية أن عدد القتلي يقدر بالآلاف فيما يتوقع أن يرتفع عدد المشردين والمنكوبين الي مالا يقل عن مائة ألف مشرد ومنكوب.
الغبار
في طريقي الي البيت مررت بسرادق عزاء منصوب وسط الزقاق. الكراسي علي الجانبين ووسطها إبريق قهوة ضخم فوق النار و الي جانبه كؤوس زجاجية فارغة وسطل بلاستيكي أصفر مليء بالسجائر. الزقاق خال ولا أحد يجلس في السرادق. اقتربت من كرسي وجلست. رفعت الإبريق الرمادي وصببت لنفسي كأسا من القهوة وتناولت سيجارة أوقدتها وأخذت نفسا عميقا منها قبل أن أنفث الدخان في الفضاء الخالي من حولي.
لا من أعزيه ولا من يعدد لي خصال الفقيد. هي الحرب منطلقة ولن تتوقف قبل أن يموت كل الشهود. لعل الميت آخر رجال العائلة. هو ذا اسمه علي اللافته السوداء المرفوعة فوق باب البيت, اسم غريب يخيل لي أني أعرفه, وصوت المقريء يأتي من آلة تسجيل بعيدة لعلها بغرفة النوم, جنب الوالدة الكسيحة التي أعماها البكاء علي كل من ذهبوا. والوالد؟ هل مات في الحرب بدوره أم حزنا علي ذرية لن تتخلف بعده؟ عما قريب سيعود من تبقي من أبنائنا وحفدتنا الي الكهوف وستنبعث الدناصير من تحت الأرض ونعيد الكرة من جديد. لكن: من ستكون له القدرة علي تكرار تجربة لا مفر لها من أن تنتهي الي غبار؟ ما من خيار أمامنا سوي أن نعود الي نقطة الانطلاق: سيتناقص البشر, الواحدبعد الآخر, حتي نعود الي قابيل وهابيل وآدم وحواء, ثم ندخل الفردوس من جديد وينتهي الوجود.
نفضت عدوا وهميا من حوالي ونفثت آخر رشفة من دخان السيجارة وسط الغبار. الدخان والغبار. هذا ما سنتركه للمستقبل, وهذا كل ما سيتبقي عنا من آثار. ووقفت فكرت في أن أملأ جيوبي بالسجائر للأيام القادمة لكن سرعان ما تخليت عن الفكرة, يشربون كؤوس القهوة السوداء ويدخنون سجائر منقوعة في الغبار.
قصاصة رابعة
ذكرت الإذاعة التركية أن زلزالا بقوة4.6 درجات بمقياس ريختر ضرب صباح يومه الأحد شرقي هضية الأناضول وأدي الي انهيار سبع مدن كبري وست وثمانين مدينة ممتوسطة ومئات القري
الصغيرة التي يقل عدد سكان كل منها عن خمسمائة نسمة. وأضافت الإذاعة أنه لم تكن هناك, لحسن الحظ, خسائر في الأرواح بسبب تعود الناس علي مقاومة الزلزال.
النهاية
عند مخرج الزقاق وقفت دورية للشرطة العسكرية مدججة بأحدث الأسلحة. واصلت سيري, كما أفعل عادة, إلا أن أفرادها أوقفوني وأخذوني الي قائدهم.
قال لي القائد:
أين رخصة إجازتك؟
قلت: ليست معي رخصة. لدي إعفاء.
قال: هات الإعفاء.
مددت يدي وأخرجت شهادة وفاتي المطوية من جيب سترتي الداخلي بالوسام الملفوف فيها. فردتها فاكتشفت أن الإسم المكتوب عليها شبيه بالإسم الذي تركته خلفي مرفوعا فوق السرادق. نظر القائد الي الشهادة ثم الي وجهي وقال:
ألم تسمع بأن كل الرخص والشهادات قد ألغيت؟
ألغيت؟ متي؟
حالا. وأن عليك الالتحاق بكتيبتك في الحال.
حالا؟ الآن؟
مازالت البلاد في حاجة إليك. والي تجربتك.
ودون أن يترك لي مزيدا من الوقت للرد أو التفكير أشار الي شاحنة مغطاة رابضة وسط ساحة خالية مجاورة وهو يقول: تفضل. فتحت فمي للرد فالتفت بسرعة الي جنوده قائلا: خذوه. اقترب مني جنديان وضعا قيد في يدي وحملاني باتجاه الشاحنة. لم تعد لدي أي قدرة علي المقاومة. وجدت نفسي أفكر في شيء واحد هو أن أذهب الي مقهي بعيدة في الطرف الآخر من المدينة وأستمع الي أغنية بدوية تروي قصة حنين جارف ينتهي بالفراق في صحراء خالية لا تخوم لها. لكن لم يعد ثمة مجال للحنين ولا للغناء ءو لأي شيء آخر بعدما قذف بي الجنديان بعنف داخل الشاحنة العسكرية المستعدة للإنطلاق, وردا علي الغطاء.
كانت الشاحنة مليئة بمعطوبي الحرب وقتلاها مثلي. كان الجميع واجمين, ومستسلمين, في الوقت نفسه, لمصيرهم, لافائدة. ما الفرق بين أن نكون هنا أو هناك؟ قدرنا أن نمضي في طريقنا حتي النهاية. لكن أين هي النهاية؟ وهل هناك نهاية فعلا. أم أنها مجرد أشباه نهايات متسلسلة الي ما لا نهاية له؟
شبه قصاصة
أخيرة
لم نسمع أي إذاعة أو وكالة أنباء تتحدث عن ذلك لكننا أحسسنا بالأرض تهتز ونحن مكومين في الشاحنة علي أهبة الانطلاق. ظننا الأمر في البداية مجرد عطب في محرك الشاحنة يجعلها تهتز أكثر من اللازم. لكن عندما بدأ جنود الدورية في الصراخ وأخذت أصواتهم تبتعد ورفعنا بأرجلنا غطاء الشاحنة الخلفي فوجئنا بالبنايات تتساقط من حولنا في دوي هائل وبالغبار ينطلق علي هيئة زوابع تمضي في كل اتجاه. لم نشعر بالخوف ولا بالفرح. لم نشعر بأي شيء علي الإطلاق. وإنما استسلمنا لاهتزاز الأرض يرجنا مقيدين في شاحنة كانت بصدد حملنا الي الجبهة في مدينة قيد الانهيار.
أخذتني من ولم تبقني لي فها أنا بلا أنا متصوف عربي قديم استهلاك بدأت أحن إلي أيامي التي تصرمت فأدركت أني شخت. بدأت أري إلي صدور الفتيات تتدلي وهن لم يبلغن الحلم بعد
فأدركت أن ما فات فات وأنه لم يعد علي سوي لزوم ركن لا تعبره الأصوت ولا الروائح والأضواء وانتظار النهاية التي لابد هي قادمة, تنشر خوافيها علي هذا الشيء الذي كنته, وكأنه ما عاش البتة هنا وسط البشر. ما خلف ذرية ولا شاد صرحا أو اكتشف قارة, وإنما وقف علي قصبتيه يقاوم الطغاة وجحافل الغزاة, وحين لم تخصب دماه أرضا ولا أطلعت هتافاته نبتا, دار في إعياء مسلما وجهه للشمس وجسمه للريح, وتهاوي وحيدا أمام الأيام المتسارعة اللامبالية تدوسه بالأقدام.
الكلمات
قلت للمرأة المطلة من شرفة الطابق الثالث:
سأعود في الساعة السابعة.
قالت: ماذا تقول؟
قلت: سأعول في السابعة. قولي له أن ينتظرني.
صرخت المرأة في يأس لا يخلو من احتجاج:
أنا لا أسمع حرفا مما تقول.
فردت ذراعي وبسطت كفي. ليس ذنبي أني أسمعها وهي لا تسمعني. أسهل علي الكلمات أن تسقط من أعلي علي أن تصعد من أسفل. كي تصعد الكلمات تلزمها أجنحة وسنوات من فرح. بدون ذلك تبقي مجرد حيوانات عمياء تعسة تسير مرعوبة محتمية بالحيطان, متهاوية لا تقوي علي الوقوف.
وأنا قلت للمرأة, مرة أخيرة, صارخا بأعلي صوتي:
السابعة. سأعود في السابعة. ثم انصرفت إلي حال سبيلي.
كنت أول من يعلم أني لن أعود, وأنه لن يكون ثمة أحد في انتظاري. لا في السابعة ولا في الثامنة ولا في أي وقت آخر. ومع ذلك فتحت فمي اعتباطا وقلت ما قلته. لماذا؟ أنا نفسي لا أعرف. لكنه لعبة محو الأثر التي تتملكني ويلذ لي أن أضعف أمامها من حين لآخر.
قصاصة أولي
شعر سكان طوكيو والمناطق المحيطة بهزة أرضية وقعت قبيل الساعة الرابعة من صباح أمس الخميس, بلغت قوتها6.9 درجات علي مقياس ريختر, إلا أنها لم توقع أضرارا حسب المعلومات الأولية بسبب قدرة البنايات اليابانية علي مقاومة الزلزال.
الأنفاس
سرت من بداية الشارع حتي نهايته, حيث كشك الجرائد والبائع العجوز ذو النظارات المقعرة, كان الشارع يحمل اسم شارع الحديقة, نسبة إلي الحديقة التي يجاورها امتداده. غير أن الحديقة ذهبت الآن: ماتت أشجارها واختفت مقاعدها وغابت جلسات عشاقها عند المغيب. وبدل شقشقة العصافير التي كانت تملأ الشارع أنسا لم تعد تسمع غير صرير عجلات الكراسي المتحركة يدفعها معطوبو الحرب في كل الاتجاهات.
كان ما تبقي من الحديقة علي يميني, وعلي يساري طرق فارغة ممنوعة. كانت السماء أيضا فوقي لكني لم أرفع عيني إليها. يكفيني ما أنا به من انسحاق.
قلت للبائع العجوز بعد أن حييته: هل من جديد؟
توقف عن ترتيب صف من الكتب أمامه, كان ينفض الغبار عنها, وركز أنظاره علي باستغراب, كأنه يراني لأول مرة. حدق في طويلا ثم قال: هذه الجرائد أمامك. أنظر بنفسك. كان يسخر مني دون شك. أو هو يعبر فقط عن احتجاجه بطريقته الخاصة. الجرائد؟ هل جرائد المدينة تأتي بجديد؟ ثم: هل هي جرائد حقا, أم أنها جريدة واحدة تتخفي وتتلون كي تفضحها صورة الزعيم القائد الحاضرة أبدا علي صدر صفحتها الأولي.
مررت ببصري علي عناوين الجريدة الواحدة. عناوين اليوم هي نفسها عناوين الأمس والسنة الماضية, لا شيء يحدث. الغبار والحر يقتلان كل رغبة في الحركة. سيأتي من الباب الشمالي حتما رجل برسالة. هذا ما يتوقعه الناس ولا تتحدث عنه الجرائد. سيعم الخير وتمتليء الأسواق وتتوقف الحرب. حرب تتواصل منذ ثلاثين عاما دون توقف, ولعلها مستمرة ثلاثين عاما أخري. ما أسعد من ولد ومات فيها, في الميدان, تحت الردم, أو يفعل الزمن فحسب: سيد المحاربين.
أحسست بريح قوية تلفح وجهي من جهة اليسار فالتفت. كانت آخر عمارة علي يسار الشارع تشرع في الانهيار. وقبل أن أتحرك مبتعدا من مكاني كانت طوابقها التسعة قد انهارت تماما بهدوء وبدون أن يصدر عن حيطانها وسقوفها المتهاوية أدني صوت. بدون أن يعلو منها صوت استغاثة واحد. حتي الغبار الذي بدا لحظة وكأنه يهدد بأن يهب في كل الاتجاهات عاد واستكان رابضا فوق منطقة الردم لا يتعداها. كأن الأمر يتعلق بعرض بطيء لفيلم تحريك صامت.
قلت للرجل العجوز: من حسن الطالع أن أحدا لم يكن يمر ساعتها جنب العمارة وإلا لوقع عليه الردم ومات. لم يجيبني, فأردفت: من حسن الطالع أيضا أن العمارة وقعت وهي خالية من سكانها. كنت أريد أن أملأ الفراغ بالكلام فحسب. لكن الرجل العجوز بدا فجأة محتدا وصرخ بي: من يدريك أن العمارة كانت خالية؟ نظرت إليه وإلي الردم ولم أجد جوابا.
فأردف: أحب قل لي. من يدريك؟ صمت تماما وهو ينظر إلي في تحد لا يخلو من اللوم, إلي أن اغرورقت عيناه بدمع لم ينجح في أن يخفيه فأشاح بوجهه عني ملتفتا جهة الردم وهو يقول: أنظر.
كانت أحلام الناس مرمية فوق الردم: خضراء, وردية, وبلون البنفسج... اني لي أن أصدق أن العمارة كانت مسكونة, وأن حيطانها الكالحة وأشخاصها المهمومين الذين باغتتهم الشيخوخة في زمن الحرب يحملون كل هذا القدر من الأحلام: أحلام ملونة في مدينة رمادية. أني لي أن أخمن أن الناس, ورغم كل ما حصل ويحصل طيلة هذه السنوات, كانوا قادرين علي مواصلة الحلم حتي النهاية.
قال بائع الجرائد العجوز, وكأنه يحدث نفسه: قلتها لهم أكثر من مرة. المدينة انهارت من زمان وأنفاس الناس هي وحدها التي تبقيها واقفة. كل الناس ماتوا في الحرب. لذلك لا بفر من الانهيار.
قصاصة ثانية
قالت السلطات الصينية إن زلزالا قوته5.9 درجة بمقياس ريختر المفتوح ضرب أمس الجمعة جنوب غربي الصين وشعر به سكان مناطق بعيدة في أقصي الشمال الشرقي للبلاد.
وأضافت وكالة أنباء الصين الجديدة أن الزلزال الذي باغت الناس في نومهم تسبب في تحطم آلاف البنايات وموت عدة مئات من الأسخاص تحت الردم, لا يعرف لحد الآن عددهم بالضبط بسبب استمرار عمليات الإنقاذ ورفع الأنقاض حتي الآن.
الرسالة
دخلت مكتب المفقودات من ناحيته الخلفية. لم أعرف بوضوح لم قمت بذلك؟ لعله الظل, ظل أشجار الباحة, أو لعلها الطريق المتربة الطويلة التي عبرتها راجلا تحت الشمس, ثم صوت البلبل الذي سمعته( هل أنا سمعته حقا؟) يزقزق جهة الباحة. كلما انسد باب الأمل أمامي أقصد مكتب المفقودات أبحث فيه عن شيء لا أعرف ماهو بالضبط لكني أحس إحساسا خفيا جارفا بأني أفتقده.
في البداية كنت أجيء المكتب مرة كل أسبوع, لكن بعد أن تعرفت علي الموظف الوحيد الذي يعمل به وعرفت أن مفقودات جديدة تأتي يوميا ولايسأل عنها أحد صرت أتردد عليه كل يوم, حتي في أيام العطل والأعياد. أحتسي كأس شاي مع الموظف وأقضي لحظات أغيب فيها عن نفسي وسط سراديب الأشياء المفقودة. ومع المدة صار بإمكاني, وأنا الزائر شبه الوحيد للمكان, أن أتصفح جميع الواردات, وهي أشياء لايخطر معظمها علي البال,
يمكنك بكل بساطة, أن تجد أمام أنفك عينا زجاجية تحدجك بنظرة مخيفة وتتابع خطواتك في المكان كله, كما يمكنك أن تجد قارورة عطر مهشمة أو ضحكة متلاشية ومنديلا ينبض بالدمع. يمكنك أن تعثر علي أرملة بئيسة مات زوجها في الحرب, أو علي مطرب أعرج صحبة ملحنه الأعمي. وأنا عثرت يوما علي علبة حلاوة طحينية مصنوعة في الصين تناولت منها مقدار لقمة فقالت لي: بصحتك كل شيء أجده في سراديب المكتب ما عدا الشيء الذي أبحث عنه.
كان الموظف غارقا في ذاته فلم ينتبه الي قدومي من الباب الخلفي. اقتربت منه محاذرا كيلا أوقظه مما خيل لي أنه غفوة لذيذة. وحين لم يعد يفصل بيننا غير النضد الطويل الأسود اكتشفت أنه كان يبكي. كان يمسك بين أصابع يسراه رسالة أكلت النار أعلاها, يقرأ حروفها بهمس ويبكي. كانت شفتاه تختلجان ورمش عينه اليسري يهتز بعنف. وسرعان ما تحولت القراءة الهامسة الي آهات.
لحظتها كنت قد وقفت أمامه تماما, فرفع عينيه ببطء نحوي دون أن يبدو عليه أنه فوجيء بقدومي. نظرة شاردة تركيز كأنها تنظر عبري الي الأشياء ورائي. وقال: تصور أنها كانت هنا كل هذه المدة وأنا أعيش علي أمل فرحة اللقاء به في يوم من الأيام.
كانت هنا؟ عن أي شيء تتحدث؟ سألته في حيرة.
الرسالة عشرون عاما وهي هنا. تحت أنفي. وأنا أعيش علي وهم الانتظار.
دفع بها الي بيد مرتعشة. كانت الرسالة من قيادة الأركان, تخبره في سطور مقتضبة أن ابنه الوحيد قد قتل في ساحة الشرف دفاعا عن الوطن وأنه قد حصل علي وسام يتعين علي من تبقي حيا من أسرته أن يتصل بالقيادة لتسلمه.
قصاصة ثالثة
أفادت وكالة الأنباء الايرانية أن هزة أرضية قوتها5 درجات بمقياس ريختر ضربت صباح أمس السبت شمال البلاد وأدت الي إنهيار عدة مبان سكنية ومحو قري بأكملها عن الخريطة. وفيما تتوالي عمليات الإنقاذ علم من مصادر شبه حكومية أن عدد القتلي يقدر بالآلاف فيما يتوقع أن يرتفع عدد المشردين والمنكوبين الي مالا يقل عن مائة ألف مشرد ومنكوب.
الغبار
في طريقي الي البيت مررت بسرادق عزاء منصوب وسط الزقاق. الكراسي علي الجانبين ووسطها إبريق قهوة ضخم فوق النار و الي جانبه كؤوس زجاجية فارغة وسطل بلاستيكي أصفر مليء بالسجائر. الزقاق خال ولا أحد يجلس في السرادق. اقتربت من كرسي وجلست. رفعت الإبريق الرمادي وصببت لنفسي كأسا من القهوة وتناولت سيجارة أوقدتها وأخذت نفسا عميقا منها قبل أن أنفث الدخان في الفضاء الخالي من حولي.
لا من أعزيه ولا من يعدد لي خصال الفقيد. هي الحرب منطلقة ولن تتوقف قبل أن يموت كل الشهود. لعل الميت آخر رجال العائلة. هو ذا اسمه علي اللافته السوداء المرفوعة فوق باب البيت, اسم غريب يخيل لي أني أعرفه, وصوت المقريء يأتي من آلة تسجيل بعيدة لعلها بغرفة النوم, جنب الوالدة الكسيحة التي أعماها البكاء علي كل من ذهبوا. والوالد؟ هل مات في الحرب بدوره أم حزنا علي ذرية لن تتخلف بعده؟ عما قريب سيعود من تبقي من أبنائنا وحفدتنا الي الكهوف وستنبعث الدناصير من تحت الأرض ونعيد الكرة من جديد. لكن: من ستكون له القدرة علي تكرار تجربة لا مفر لها من أن تنتهي الي غبار؟ ما من خيار أمامنا سوي أن نعود الي نقطة الانطلاق: سيتناقص البشر, الواحدبعد الآخر, حتي نعود الي قابيل وهابيل وآدم وحواء, ثم ندخل الفردوس من جديد وينتهي الوجود.
نفضت عدوا وهميا من حوالي ونفثت آخر رشفة من دخان السيجارة وسط الغبار. الدخان والغبار. هذا ما سنتركه للمستقبل, وهذا كل ما سيتبقي عنا من آثار. ووقفت فكرت في أن أملأ جيوبي بالسجائر للأيام القادمة لكن سرعان ما تخليت عن الفكرة, يشربون كؤوس القهوة السوداء ويدخنون سجائر منقوعة في الغبار.
قصاصة رابعة
ذكرت الإذاعة التركية أن زلزالا بقوة4.6 درجات بمقياس ريختر ضرب صباح يومه الأحد شرقي هضية الأناضول وأدي الي انهيار سبع مدن كبري وست وثمانين مدينة ممتوسطة ومئات القري
الصغيرة التي يقل عدد سكان كل منها عن خمسمائة نسمة. وأضافت الإذاعة أنه لم تكن هناك, لحسن الحظ, خسائر في الأرواح بسبب تعود الناس علي مقاومة الزلزال.
النهاية
عند مخرج الزقاق وقفت دورية للشرطة العسكرية مدججة بأحدث الأسلحة. واصلت سيري, كما أفعل عادة, إلا أن أفرادها أوقفوني وأخذوني الي قائدهم.
قال لي القائد:
أين رخصة إجازتك؟
قلت: ليست معي رخصة. لدي إعفاء.
قال: هات الإعفاء.
مددت يدي وأخرجت شهادة وفاتي المطوية من جيب سترتي الداخلي بالوسام الملفوف فيها. فردتها فاكتشفت أن الإسم المكتوب عليها شبيه بالإسم الذي تركته خلفي مرفوعا فوق السرادق. نظر القائد الي الشهادة ثم الي وجهي وقال:
ألم تسمع بأن كل الرخص والشهادات قد ألغيت؟
ألغيت؟ متي؟
حالا. وأن عليك الالتحاق بكتيبتك في الحال.
حالا؟ الآن؟
مازالت البلاد في حاجة إليك. والي تجربتك.
ودون أن يترك لي مزيدا من الوقت للرد أو التفكير أشار الي شاحنة مغطاة رابضة وسط ساحة خالية مجاورة وهو يقول: تفضل. فتحت فمي للرد فالتفت بسرعة الي جنوده قائلا: خذوه. اقترب مني جنديان وضعا قيد في يدي وحملاني باتجاه الشاحنة. لم تعد لدي أي قدرة علي المقاومة. وجدت نفسي أفكر في شيء واحد هو أن أذهب الي مقهي بعيدة في الطرف الآخر من المدينة وأستمع الي أغنية بدوية تروي قصة حنين جارف ينتهي بالفراق في صحراء خالية لا تخوم لها. لكن لم يعد ثمة مجال للحنين ولا للغناء ءو لأي شيء آخر بعدما قذف بي الجنديان بعنف داخل الشاحنة العسكرية المستعدة للإنطلاق, وردا علي الغطاء.
كانت الشاحنة مليئة بمعطوبي الحرب وقتلاها مثلي. كان الجميع واجمين, ومستسلمين, في الوقت نفسه, لمصيرهم, لافائدة. ما الفرق بين أن نكون هنا أو هناك؟ قدرنا أن نمضي في طريقنا حتي النهاية. لكن أين هي النهاية؟ وهل هناك نهاية فعلا. أم أنها مجرد أشباه نهايات متسلسلة الي ما لا نهاية له؟
شبه قصاصة
أخيرة
لم نسمع أي إذاعة أو وكالة أنباء تتحدث عن ذلك لكننا أحسسنا بالأرض تهتز ونحن مكومين في الشاحنة علي أهبة الانطلاق. ظننا الأمر في البداية مجرد عطب في محرك الشاحنة يجعلها تهتز أكثر من اللازم. لكن عندما بدأ جنود الدورية في الصراخ وأخذت أصواتهم تبتعد ورفعنا بأرجلنا غطاء الشاحنة الخلفي فوجئنا بالبنايات تتساقط من حولنا في دوي هائل وبالغبار ينطلق علي هيئة زوابع تمضي في كل اتجاه. لم نشعر بالخوف ولا بالفرح. لم نشعر بأي شيء علي الإطلاق. وإنما استسلمنا لاهتزاز الأرض يرجنا مقيدين في شاحنة كانت بصدد حملنا الي الجبهة في مدينة قيد الانهيار.