أحب النظر إلى المارة، والشارع ، والبنات الصغيرات فى نهاية اليوم الدراسى، وهن عائدات، تحمل كل منهن على كتفيها نهاية يوم طويل من الأسئلة، وشنطة مليئة بالكراسات، وأصابع باردة من كثرة الوضوء.
كل هذا يجعلنى أشعربلذة الحياة فى نهاية القرن العشرين، وسطوة الموت خطف أخى الصغير ، ثم أختى الصغيرة، التى تمنيت طويلا أن يمنحنى الله إياها، وكانت بيضاء جميلة، شعرها أسود طويل، تشبه(مى) فى خفة دمها، وسكارة ريقها اللذيذ الذى كلما أشرب منه لا أرتوى، ريق يبعث فيك الحياة والطمأنينة، وأنك لن تغادر هذا المكان الجالسة فيه قبل أن تعبىء بطنك وتملأ رئتيك من هواء زفيرها.
البنات الصغيرات لهن روائح خاصة، لا هى بالزهور، ولا بالعطر، روائح اللبن الممزوج برائحة برازهن وعرق الجلد وبودرة التلك.
رائحة تجعلك تمد أنفك طويلا بين ثنيات رقابهن، وتتشمم طويلا، فتصدر عنك آه طويلة، وتظل عيناك مسبلتين وتردد : الله .. الله عسل وسكر.
وتشم، تشم، تشم.
البنات الصغيرات يخبئن اللبن داخل أثدائهن لسنوات قادمة.
(كنز اللبن المخبأ لمصه، وكنز الدم المخبأ لفضه، وكنز القلوب المراهقة للحب، وكنز التصورات والتخيلات عن حصان أبيض، وفارس جميل، يشبه”أبو زيد” فى جسارته، وعنتر فى حبه، والشاطر حسن فى خطفه لست الحسن والجمال).
كنوز مخباة داخل جولانات الصف الخامس والسادس، وصوت جمال عبد الناصر فى”باسم الأمة، وباسم الشعب، وباسم الحرية”.
الولد الشقى أبن الجيران الجالس فى المقعد المقابل للبنت المكتنزة البيضاء، التى ينز عرقها برائحة البيض المسلوق والعيش الفينو، يعطيها صورة العذراء والمسيح والملائكة.
البنت البيضاء المكتنزة المحملة برائحة الكبدة المحمرة بالبصل والثوم، تعطى الولد الشقى سندوتشات البيض مقابل صورة(العذراء والملائكة).
تجمع كل هذه الصور داخل قلبها، ولا تفرغها إلا فى الليل، فتجلس المسيح عن يمينها، وتطعمه العيش الفينو المحشو بالبيض.
البنت البيضاء المكتنزة، تذهب صباحا بجوار(شجرة مريم)، وتدخل قلبها تبكى، فتحتويها الشجرة، وتظلل عليها بأوراقها.
والأولاد يزفونها كل يوم فى المرواح(ياتخينه يافشله ، يامرات العسكرى ..).
البنت المكتنزة البيضاء، تخرج من جيب قميصها صورة المسيح، وتطعمه الفينو بالبيض.
هذه البنت تجلس الآن وحيدة داخل جدران أربع، ترضع من ثديها اللبن– الكنز– المخبأ لمى.
البنت المكتنزة البيضاء الآن ..
تجلس وحيدة فوق فرشتها، تكتب عن البنت البيضاء المخبأة فى شجرة مريم، وتعبث بأصابعها الباردة فى رقبة صغيرتها البيضاء المكتنزة، فتخرج عليها رائحة اللبن الممزوج بالبراز، وبودرة التلك، ورائحة الجلد، وريالة مى.
تمد فمها الكبير تلعق به ريالة الصغيرة، وتعبىء بطنها وتملأ صدرها، وتسيل دموعها وتردد :الله ..الله .. عسل وسكر.
وتشم، تشم، تشم.
المكتنزة البيضاء الآن فى نهاية القرن العشرين، سنة 1998، الساعة الخامسة مساء.
السماء تمطر.
تطل من البلكونة، تنظر إلى المارة، والشارع، والبنات الصغيرات العائدات فى نهاية اليوم الدراسى، يحملن على أكتافهن الشنط، داخلها الكراسات، وطباشير أبيض، وأصابع باردة من كثرة الوضوء.
المكتنزة البيضاء تنادى صغيرتيها : ياهاميس، يامى.
الدنيا بتمطر، تعالو شوفو.
المكتنزة البيضاء، تنظر من البلكونة على البنات الصغيرات فى نهاية اليوم الدراسى.
فبراير 1998
المكتنزة البيضاء، قصة: صفاء عبد المنعم
كل هذا يجعلنى أشعربلذة الحياة فى نهاية القرن العشرين، وسطوة الموت خطف أخى الصغير ، ثم أختى الصغيرة، التى تمنيت طويلا أن يمنحنى الله إياها، وكانت بيضاء جميلة، شعرها أسود طويل، تشبه(مى) فى خفة دمها، وسكارة ريقها اللذيذ الذى كلما أشرب منه لا أرتوى، ريق يبعث فيك الحياة والطمأنينة، وأنك لن تغادر هذا المكان الجالسة فيه قبل أن تعبىء بطنك وتملأ رئتيك من هواء زفيرها.
البنات الصغيرات لهن روائح خاصة، لا هى بالزهور، ولا بالعطر، روائح اللبن الممزوج برائحة برازهن وعرق الجلد وبودرة التلك.
رائحة تجعلك تمد أنفك طويلا بين ثنيات رقابهن، وتتشمم طويلا، فتصدر عنك آه طويلة، وتظل عيناك مسبلتين وتردد : الله .. الله عسل وسكر.
وتشم، تشم، تشم.
البنات الصغيرات يخبئن اللبن داخل أثدائهن لسنوات قادمة.
(كنز اللبن المخبأ لمصه، وكنز الدم المخبأ لفضه، وكنز القلوب المراهقة للحب، وكنز التصورات والتخيلات عن حصان أبيض، وفارس جميل، يشبه”أبو زيد” فى جسارته، وعنتر فى حبه، والشاطر حسن فى خطفه لست الحسن والجمال).
كنوز مخباة داخل جولانات الصف الخامس والسادس، وصوت جمال عبد الناصر فى”باسم الأمة، وباسم الشعب، وباسم الحرية”.
الولد الشقى أبن الجيران الجالس فى المقعد المقابل للبنت المكتنزة البيضاء، التى ينز عرقها برائحة البيض المسلوق والعيش الفينو، يعطيها صورة العذراء والمسيح والملائكة.
البنت البيضاء المكتنزة المحملة برائحة الكبدة المحمرة بالبصل والثوم، تعطى الولد الشقى سندوتشات البيض مقابل صورة(العذراء والملائكة).
تجمع كل هذه الصور داخل قلبها، ولا تفرغها إلا فى الليل، فتجلس المسيح عن يمينها، وتطعمه العيش الفينو المحشو بالبيض.
البنت البيضاء المكتنزة، تذهب صباحا بجوار(شجرة مريم)، وتدخل قلبها تبكى، فتحتويها الشجرة، وتظلل عليها بأوراقها.
والأولاد يزفونها كل يوم فى المرواح(ياتخينه يافشله ، يامرات العسكرى ..).
البنت المكتنزة البيضاء، تخرج من جيب قميصها صورة المسيح، وتطعمه الفينو بالبيض.
هذه البنت تجلس الآن وحيدة داخل جدران أربع، ترضع من ثديها اللبن– الكنز– المخبأ لمى.
البنت المكتنزة البيضاء الآن ..
تجلس وحيدة فوق فرشتها، تكتب عن البنت البيضاء المخبأة فى شجرة مريم، وتعبث بأصابعها الباردة فى رقبة صغيرتها البيضاء المكتنزة، فتخرج عليها رائحة اللبن الممزوج بالبراز، وبودرة التلك، ورائحة الجلد، وريالة مى.
تمد فمها الكبير تلعق به ريالة الصغيرة، وتعبىء بطنها وتملأ صدرها، وتسيل دموعها وتردد :الله ..الله .. عسل وسكر.
وتشم، تشم، تشم.
المكتنزة البيضاء الآن فى نهاية القرن العشرين، سنة 1998، الساعة الخامسة مساء.
السماء تمطر.
تطل من البلكونة، تنظر إلى المارة، والشارع، والبنات الصغيرات العائدات فى نهاية اليوم الدراسى، يحملن على أكتافهن الشنط، داخلها الكراسات، وطباشير أبيض، وأصابع باردة من كثرة الوضوء.
المكتنزة البيضاء تنادى صغيرتيها : ياهاميس، يامى.
الدنيا بتمطر، تعالو شوفو.
المكتنزة البيضاء، تنظر من البلكونة على البنات الصغيرات فى نهاية اليوم الدراسى.
فبراير 1998
المكتنزة البيضاء، قصة: صفاء عبد المنعم