مقتطف حنان عبد القادر - " ثقة ".. من مجموعة مقالات: ماذا لو؟

في صغري .. كنت أمقت النظر إلى وجهي ؛ رغم البراءة والحزن اللذان تلبساه ، خمس سنوات مذ خطوت إلى الصف الأول " بمريولي البيج " حتى وصلت إلى الصف الخامس ، ينتقل معي عاما تلو آخر نفس ثلة الأطفال الأشقياء .. ينجحون على الحافة ، وأفوقهم بالمراكز الأولى ، لكنهم لا يتورعون أبدا عن الكيد لروحي ، والسخرية من شكلي حتى كرهتني .

في الصباح .. يتندرون على لغتي الفصحى التي أطالعهم بها في إذاعة المدرسة ، في الفصل يلوون شفاههم مقلدين فمي الواسع وأسناني المفلجة ، ساخرين من ابتسامتي ، وفي الفناء يسيرون خلفي مرددين قوله تعالى : " سنسمه على الخرطوم " لأن الأستاذة في الصف فسرت ذلك بأن الكافر يأتي يوم القيامة وقد وشم بعلامة على أنفه ، لعلكم تتساءلون : وما علاقة هذا بك ؟

إن الله قد حباني ما نسميه " حسنة سوداء " على أرنبة أنفي ، كانت وبالا علي ، وجاءت سورة القلم التي درسناها مؤخرا ، وتفسير المعلمة لها طوفان هم يجتاحني كل ساعة ، كنت أختلي بنفسي أمام المرآة وأزيلها بطرف الإبرة فتعود أوضح مما كانت ، كأنها تعاندني ، وتتعاضد مع الصغار ضدي ، صرت أختفي منهم في دروب المدرسة بين زحام الأطفال حتى لا يلاحقوني بما أكره .

ذات خلوة .. قرأت عن سمات لرسولنا الكريم منها أنه كان واسع الفم مفلج الأسنان دائم الابتسام – صلى الله عليه وسلم – ووجدتني بخيال طفولتي أشبهه في ذلك ، فقفز قلبي فرحا ، وشعرت بثقة عارمة تجتاح روحي ، فوقفت أمام المرآة أتفحص كل عيب عابوني به ، وأتأمله مليا ، فيملؤني الإعجاب به ، بل وأتيه فخرا بما عندي ، وقررت بيني وبين ذاتي أن أواجه هؤلاء العفاريت ، وألا أتحاشاهم مرة أخرى مهما حدث .

في اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة يحدوني التحدي ، وكنت كتبت بعض كلمات من إنشائي أمدح فيها الرسول الكريم وخلقه ، وأقتطف بعضا من صفاته التي قرأت ، وكانت تلك كلمتي الإذاعية في هذا الصباح .

لما طالعوني بالسخرية من لغتي .. قلت في ثقة : هي لغة القرآن ، ولغة رسول الرحمن ، ولما عايروني بفمي ، قلت أشبه محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن منكم يشبهه ؟!! ، ولما تجمعوا حولي في دائرة يشيرون بأصابعهم الصغيرة اللعينة إلي مرددين " سنسمه على الخرطوم " .. رفعت رأسي عاليا واضعة راحتي على خاصرتي وقلت : هي سمة جمال وأناقة ولأنها بهية وتزيدني بهاء كرهتموها ، من منكم لديه سمة مثلها ؟!! ... أسقط في أيديهم ... ويوما تلو آخر ركنوا إلى الدعة ، وفارقوا دربي .

ماذا لو حاولنا منذ الصغر أن نزرع الثقة في نفوس أبنائنا ، ونلطف لهم ما يبدو في أعينهم من عيوب خلقية ربما تكون مبعث جمال وليس العكس .

ماذا لو غرسنا حب الآخرين في نفوسهم ، وعلمناهم أن يحبوا للغير ما يحبون لأنفسهم ، ونشأناهم على أن الإنسان عند خالقه بما يكن ضميره ولا علاقة للشكل الخارجي بذلك ، فالله لا ينظر إلى أشكالنا إنما إلى قلوبنا ، وأذكركم بما نقول بلهجتنا : ربنا رب قلوب .. فهل إلى ذلك من سبيل ؟.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...