(ترمي بشرر)
تعكسُ روايةُ ترمي بشرر للكاتب السّعودي عبده خال (منشورات دار الجمل، بغداد – بيروت، 2009) الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية" البوكر العربية" في دورتها الثالثة 2010 المتغيراتِ الهائلةَ في بنية المجتمع السعودي، الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، وتأثيراتها على مسار حياة النّاس بمختلف طبقاته، وفئاته، ويبدأ النَّص بالإهداء الذي جاء باسم طارق فاضل، لإيهام القارئ بأنّ السّاردَ هو هذه الشخصية وليس كاتب النّص في استخدامه للضمير الأول، المتكلم(أنا) وتنقسم الرواية إلى أجزاءٍ مُعنْوَنةٍ، الجزء الأول معنون بـ(عتبة أولى) ويحتل 263صفحة والثاني ب_(عتبة ثانية) ويحتل 114 صفحة، والثالث بـ(البرزخ) في 14 صفحة، إضافة إلى ملحق عن بغايا القصر سُمي بـ(نساء) القصر في 15 صفحة ثم مجموعة من الأحداث العابرة في ست صفحات.
هذه الرّواية تعرضُ أحداثاً كثيرة، وأفكاراً متعددة، وعلاقات اجتماعية متنوّعة، تُبنى على الجوار الجغرافي، وعلى المصادفة الزمنية لشخصياتٍ هذا العمل الفنّيّ، وعلى المصالح المختلفة (حبّ وعشق، انتقام وكراهية، أسرية وعدائية). تتميّز الرواية بثراءٍ الأفكار، والشخصيات، لا يمكن إظهار كلّ ما فيها، ولا تأويل أحداثها الفنية كلّها في قراءة عرضية هكذا، فإبراز أوجهٍ فيها سيأتي على حساب جوانب أخرى.
أقسام الرواية الضِيزى: (( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى ))النجم22
العتبة الأولى : بوحٌ لا يقيّده رقيبٌ، أو يسدُّه حاجز، يكشفُ أحوال الحارة، وتشييد القصر، يتحدّث طارق فاضل عن حارته "الحفرة" أو "جهنم"، وعن القصر الجديد الذي يحجب وراءه المدى البحري- الفاصل بين عالَم ساكني الحفرة وبين صفحة البحر المتحرّرة من القيود- وعن عالم القصر المهيب بأضوائه المستعصية على العدّ وخدمه وحرّاسه وسياراته الفارهة، فيطلق أهل الحارة على القصر تسمية الجنة، والوحيد الذي تمكّن من دخول القصر عيسى الرديني، مكافأة له على الخدمة التي قدّمها للسيد الكبير، إنقاذ ابنه الذي يتسلَّم فيما بعد زمام الأمور في القصر من الغرق، ويتحوّل عيسى إلى جسرٍ لإدخال الكثيرين إلى الجنة، حباً لهم أو انتقاماً، لا فرق، منهم قائد يخت وخادم وحارس ومربٍ للكلاب، ويُدخِل طارق فاضل، سارد النّص.
بناءُ القصر الجديد يغيّر وجهَ الحياة في جغرافية المكان، ويُصبِح علامةً فارقة في حياة المنطقة، زمانياً، حيثُ به تُؤرَّخُ الحوادثُ، ومكانياً، كونه يسطو على المساحات المجاورة، وتمتدُّ أجنحته في عمق البحر، ملقياً ظلاله على الناس والأشياء(((كان القصر علامة فاصلة في حياتنا، بل تاريخاً يتداوله كبار السّن فيقولون عن أي حادث حدثت قبل بناء القصر، أو بعد بناء القصر.))ص88 . هذا التغير العمراني ولّدَ معه تناقضاتٍ مثيرةً: (القصر، الحارة؛ أضواء لامعة، عتمة مخيّمة؛ الجنة، النار؛ السّيد، العبيد؛ المال والجاه والثراء، الفقر والمهمّشين؛ مضاربات في سوق الأسهم، خسارات ومجانين؛ حبّ لا يتحقق، اغتصاب يعقبُه القتل، ...إلخ.
العتبة الثّانية: يغوصُ الكاتب في هذا القسم إلى أعماق شخصيات الرواية، مبيّناً أحوالها، سواء تلك التي دخلت القصر أم لم تدخل، أكان قبل دخولها القصر، أوبعده، والتحولات المرافقة لها أثناء قيامها بالعمل الموكل لها في القصر، كعيسى الرديني، وأسامة، وطارق فاضل، ومرام، إضافة إلى الحديث عمّا يجلب المتعة للسيد، وكأنَّ العتبةَ الثانية كشفٌ لأبعاد الشّخصية التي تنتقل من الجهنم إلى الجنة، وكشفٌ للانحرافِ الذي يصيبها بعد السقوط، فخارجُ القصرِ يأمل بالدّخول إليه، عكس ما يريده الدّاخل الذي لا يتوقفُ عن السقوط المتوالي، من متعةٍ إلى عتمةٍ، ومنها إلى سقوطٍ جديد ((مع كل سقوط ممتع عتمة جديدة، ليتوالى السقوط، اللذة هي الفجوة التي تركتها الحياة متسعة كي تسربنا خارجها.))ص95 . هذه الحالة التي تطغى على حياة الدّاخلين يجهلها أهل الحارة الساعين والباحثين عن سبيلٍ يوصلّهم إلى القصر، الذي يرمزُ إلى السلطة والجاه، مقلّبين أوجه الاحتمالات الواصلة إليه بعد فشلهم من عدِّ الأضواء ليلاً. ((فالسقوط هو القانون الأزلي)) كما يبدو لمَن يعيش هناك، وأثناء مراحل السقوط((هناك تدرّج يُقاس بالمعيار الزمني قبل أن تعرف نتيجة السقوط))ص44
فالسقوط إلى الهاوية، أحد العناصر الكاشفة لتحولات الشخصية، ورادعٌ يقيّدها من التراجع، فتتحوّل إلى أداةٍ لا حول لها ولا قوة، يستخدمُها السّيد في المجال الذي يناسبه، ولا يفرقُ الأمر للقادمِ، الخادم الجديد، فالعبوديّة تفرضُ على العبدِ إنجاز مهامه دون تذمّر، أو رفض، وأي موقفٍ يشير إلى عدم قبوله للواقع، أو للمهام الموكلة له سيكون ضربة قاضية له، ولبقائه في القصر، حيثُ ينتظره الطّردُ بعد تحطيمه وجرده من إنسانيته، لذا فالعبودية لها مستوىً واحد، يتساوى فيها الجميع، كلّ الاتجاهات داخل القصر تؤدّي إلى السقوط، والذّل، والإهانة، والنجاسة، والدّمار، والعبودية. (( فكل الاتجاهات تشير للعبودية التي فرضها سيد القصر...))ص22. كما أنَّ العبودية ليست مقيدة بزمنٍ معيّن، فّإذا كانت(الاتجاهات) كدلالة مكانية تشير إلى العبودية، فالزمان هو الحاضن لها، وفيهما يمارس السّيد رغبتَه في سحق البشر ليبقى سيداً((زمن العبودية لن ينتهي، هو زمن زئبقي، يتخفى في ملابس وهيئات مختلفة.... القوة لا تضع لشهوتها سقفاً محدداً، تغدو شهوات السادة جسورة مترامية الأطراف، شعارها: اسحق لتبقَ سيداً.))ص269
هذه الأحوال المتدرّجة في تدمير الإنسان داخل القصر تُحوِّلُ الإنسانَ إلى وحشٍ مفترسٍ، يفقدُ نوازعه الإنسانية، فيستغلّه السَّيد أداةً في تحطيم خصومه، فيرغبُ في النّجاة، لكن هيهات ((أظن أن أهل حيّنا مازالوا يوسوسون ن بأحلامنا القديمة ويقلبون احتمالات السؤال: كيف السبيل لدخول القصر؟ بينما نحن «الذين بالداخل» نحصي الأيام للخروج منه))ص23 .
هذه التحولات في الشخصية تتوضّح في الجزء الثاني من الرواية، فتصل إلى مرحلة لم تعُد لديه رغبة في شيءٍ، فالقصرُ في حدّ ذاته جنةٌ لسيّده، وجهنّم لعبيده، فقسمةُ القصرِ بسكانه، وحرّاسه، وسلطته، وأمواله، قسمةٌ ضيزى، كما كان بحر جدة ((يقسم قسمة ضيزى))ص52، لأنّ داخل القصر ليس هناك حدود للمفاهيم والقيم، كونهما مرسومين وفق مقاس مزاج السّيد، والقسمة قسمة ضيزى بين السّيد وأتباعه و بين المهشّمين المهمَّشين الذين لا اختيارات لديهم (( الاختيارات تكون متساوية عندما لا ترغب في شيء.))ص315
الملامح الفنيّة:
الملمح الفني الأول: من أبرز الملامح الفنية التي أجاد الكاتبُ فيها السّرد الرّوائي، فاعتماد الكاتب على التداعي الحرّ (تيار الوعي) في سرده للأحداث فتح أمامه المجال واسعاً ليتنقّلَ بين الأحداث والشخصيات، وينسج العلاقات فيما بينها، ويمنحها حرية الحركة والحكي، كما ساعد هذا الأسلوبُ السّرديُّ الكاتبَ على كسر القوالب الزمنية، قافزاً إلى سرد الحوادث الصغيرة والكبيرة، متنقلاً بين الماضي والحاضر بسهولة، وسهّلَ هذا الأمر للكاتب في تقسيم الرواية إلى فصولٍ.
الملح الثّاني يتعلّق بزمنية السّرد: فالزّمن الذي تبدأ فيه الرواية، هو الزّمن الحاضر، يسردُ الرّاوي أحداثاً حصلَتْ في الزّمن الماضي، فهناك زمنان، زمن الحدث الواقع، وزمن التداعي الحرّ، فالمكانُ وفق هذا المنطق الزّمني ثابتٌ لحظة السّرد، ويبقى تيار الوعي هو المتنقّل بين أزمنة مختلفة، مرتبطة بأمكنةٍ أخرى غير المكان الثابت هذا، وبالتّالي فالأحداث لا يربطها تسلسلٌ زمنيٌّ، مما يجعل القارئ (المتلقي الافتراضي) في مهبِّ التَّشظي الزّمني، مستغرقاً في عملية الخلق الفنّيّ، كأداةٍ روائية تفتح الأبواب المغلقة، وتستنطق حالة المسكوت عنه اجتماعياً في المجتمع السعودي، المعاصر، وكشف ما يجري في القاع المظلم، متجاوزاً كل الأسوار والحصن الدينية والسياسية والجنسية، ليظهر ما كان حبيس الأنفس لسنواتٍ طوال.
الملمح الفني الثالث يتعلق بقدرة الكاتب على استخدام العناصر الروائية ليقول ما يريد إيصاله للقارئ. عبده خال بلغت جرأته أعلى المستويات في كشف المحظور الاجتماعي، الفاسد (الديني والجنسي) الذي تراكم احتقانه على مرّ السنين، وكشف المخبوء الصامت تحت وسادة المجتمع، المحافظ المحاط بسورٍ كاتم، الذي يساهم في إبقاء الفساد الاجتماعي والسياسي والديني مستوراً، لا يتناوله الحديث؛ ومؤخراً بدأت الرواية السعودية في تناول القاع الاجتماعي المحظور دائماً، والإفصاح عن خبايا التفاصيل السجن الاجتماعي كرواية سعوديات لسارة العليوي، وشباب الرياض لطارق العتيبي، وملامح، ولم أعد أبكي، ونساء عند خط الاستواء لزينب خفي، واختلاس لهاني نقشبندي، ومفارق العتمة لمحمد المزيني، والقارورة، والحمام لا يطير في بريدة ليوسف المحيميد، و وبلغت مؤخراً تتويجها برواية ترمي بشرر لعبده خال التي كانت رواية فسوق تمهيداً لها. وهنا يكسر الكاتب وقار الكتابة، ودبلوماسيتها، متعمقاً إلى أعماق المجتمع السحيقة، ساعده في ذلك إطلاق الكاتب لتداعي الحر لأفكاره، فيسرد ما لا يمكن لأحد التجرؤ به حتى مع نفسه، والدخول في مكاشفاتٍ جريئة لأحداثٍ مأساوية تدمّر إنسانية الإنسان، وتجرّده من كلّ القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية.
هفوات الرواية :
تحفل الرواية بهفوات كثيرة، تُسجَّل عليها، أوّلها الأخطاء الكتابية الكثيرة فيها( نحْوية،و إملائية، و ربما مطبعية) وهذه الأخطاء من السّهولة تفاديها، وتصحيحها، فورودها في رواية تفوز على أكثر الجوائز الروائية أهمية في العالم العربي أمرٌ يستحقُّ الوقوف عنده، وهذا ليس تقليلاً من شأن هذه الرواية التي حازت على إجماع أعضاء لجنة التّحكيم.
والخطأ الفنّيُّ الآخر يتعلّق بورود اسم زوج أم الشخصية المحورية في الرواية باسمين مختلفين، وكأنَّ السارد قد سَهَا عن اسمه الأول فأطلق اسماً ثانياً عليه، فقد ورد في ص108 باسم جمال المهندس، فيصبح في ص233 غيث المهند، وهذا الخطأ التقني يُسجّلُ على الرواية.
وفي القسم الأخير من العمل الفنّي المسمّى بالبرزخ ليس هناك دواعٍ فنيّة لذكر أسماء نساء القصر، الفنية والحقيقية، فحذفُ تلك الأسماء لا يقلّل من قيمة العمل، وذكرُها لا يزيد شيئاً للرواية، فهي حشو، وثقلٌ للبرزخ الرازح تحت عناوين ولقطات صحفية كثيرة.
وأخيراً، الرّواية تعاني من التّكرار؛ تكرار المعلومات المصاغة بتراكيب مختلفة، تكرار الوصف، والعبارات، ومهمات الأشخاص، لكن عزاء هذا التّكرار أنّه جاء من استخدام الكاتب لأسلوب التداعي الحرّ في سرد الأحداث( تيار الوعي)، هذا ما ترك للشخصيات مساحةً أوسع لتعبّر عن حالها، وتكشف عن معاناتها المكبوتة لسنوات، فالتّكرار في الرّواية سمةٌ تبعث على الملل، وتقتل تشويق متابعة الأحداث.
----------------------
منشور في ملحق الثورة السورية عام صدور الرواية (قبل الأحداث)
تعكسُ روايةُ ترمي بشرر للكاتب السّعودي عبده خال (منشورات دار الجمل، بغداد – بيروت، 2009) الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية" البوكر العربية" في دورتها الثالثة 2010 المتغيراتِ الهائلةَ في بنية المجتمع السعودي، الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، وتأثيراتها على مسار حياة النّاس بمختلف طبقاته، وفئاته، ويبدأ النَّص بالإهداء الذي جاء باسم طارق فاضل، لإيهام القارئ بأنّ السّاردَ هو هذه الشخصية وليس كاتب النّص في استخدامه للضمير الأول، المتكلم(أنا) وتنقسم الرواية إلى أجزاءٍ مُعنْوَنةٍ، الجزء الأول معنون بـ(عتبة أولى) ويحتل 263صفحة والثاني ب_(عتبة ثانية) ويحتل 114 صفحة، والثالث بـ(البرزخ) في 14 صفحة، إضافة إلى ملحق عن بغايا القصر سُمي بـ(نساء) القصر في 15 صفحة ثم مجموعة من الأحداث العابرة في ست صفحات.
هذه الرّواية تعرضُ أحداثاً كثيرة، وأفكاراً متعددة، وعلاقات اجتماعية متنوّعة، تُبنى على الجوار الجغرافي، وعلى المصادفة الزمنية لشخصياتٍ هذا العمل الفنّيّ، وعلى المصالح المختلفة (حبّ وعشق، انتقام وكراهية، أسرية وعدائية). تتميّز الرواية بثراءٍ الأفكار، والشخصيات، لا يمكن إظهار كلّ ما فيها، ولا تأويل أحداثها الفنية كلّها في قراءة عرضية هكذا، فإبراز أوجهٍ فيها سيأتي على حساب جوانب أخرى.
أقسام الرواية الضِيزى: (( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى ))النجم22
العتبة الأولى : بوحٌ لا يقيّده رقيبٌ، أو يسدُّه حاجز، يكشفُ أحوال الحارة، وتشييد القصر، يتحدّث طارق فاضل عن حارته "الحفرة" أو "جهنم"، وعن القصر الجديد الذي يحجب وراءه المدى البحري- الفاصل بين عالَم ساكني الحفرة وبين صفحة البحر المتحرّرة من القيود- وعن عالم القصر المهيب بأضوائه المستعصية على العدّ وخدمه وحرّاسه وسياراته الفارهة، فيطلق أهل الحارة على القصر تسمية الجنة، والوحيد الذي تمكّن من دخول القصر عيسى الرديني، مكافأة له على الخدمة التي قدّمها للسيد الكبير، إنقاذ ابنه الذي يتسلَّم فيما بعد زمام الأمور في القصر من الغرق، ويتحوّل عيسى إلى جسرٍ لإدخال الكثيرين إلى الجنة، حباً لهم أو انتقاماً، لا فرق، منهم قائد يخت وخادم وحارس ومربٍ للكلاب، ويُدخِل طارق فاضل، سارد النّص.
بناءُ القصر الجديد يغيّر وجهَ الحياة في جغرافية المكان، ويُصبِح علامةً فارقة في حياة المنطقة، زمانياً، حيثُ به تُؤرَّخُ الحوادثُ، ومكانياً، كونه يسطو على المساحات المجاورة، وتمتدُّ أجنحته في عمق البحر، ملقياً ظلاله على الناس والأشياء(((كان القصر علامة فاصلة في حياتنا، بل تاريخاً يتداوله كبار السّن فيقولون عن أي حادث حدثت قبل بناء القصر، أو بعد بناء القصر.))ص88 . هذا التغير العمراني ولّدَ معه تناقضاتٍ مثيرةً: (القصر، الحارة؛ أضواء لامعة، عتمة مخيّمة؛ الجنة، النار؛ السّيد، العبيد؛ المال والجاه والثراء، الفقر والمهمّشين؛ مضاربات في سوق الأسهم، خسارات ومجانين؛ حبّ لا يتحقق، اغتصاب يعقبُه القتل، ...إلخ.
العتبة الثّانية: يغوصُ الكاتب في هذا القسم إلى أعماق شخصيات الرواية، مبيّناً أحوالها، سواء تلك التي دخلت القصر أم لم تدخل، أكان قبل دخولها القصر، أوبعده، والتحولات المرافقة لها أثناء قيامها بالعمل الموكل لها في القصر، كعيسى الرديني، وأسامة، وطارق فاضل، ومرام، إضافة إلى الحديث عمّا يجلب المتعة للسيد، وكأنَّ العتبةَ الثانية كشفٌ لأبعاد الشّخصية التي تنتقل من الجهنم إلى الجنة، وكشفٌ للانحرافِ الذي يصيبها بعد السقوط، فخارجُ القصرِ يأمل بالدّخول إليه، عكس ما يريده الدّاخل الذي لا يتوقفُ عن السقوط المتوالي، من متعةٍ إلى عتمةٍ، ومنها إلى سقوطٍ جديد ((مع كل سقوط ممتع عتمة جديدة، ليتوالى السقوط، اللذة هي الفجوة التي تركتها الحياة متسعة كي تسربنا خارجها.))ص95 . هذه الحالة التي تطغى على حياة الدّاخلين يجهلها أهل الحارة الساعين والباحثين عن سبيلٍ يوصلّهم إلى القصر، الذي يرمزُ إلى السلطة والجاه، مقلّبين أوجه الاحتمالات الواصلة إليه بعد فشلهم من عدِّ الأضواء ليلاً. ((فالسقوط هو القانون الأزلي)) كما يبدو لمَن يعيش هناك، وأثناء مراحل السقوط((هناك تدرّج يُقاس بالمعيار الزمني قبل أن تعرف نتيجة السقوط))ص44
فالسقوط إلى الهاوية، أحد العناصر الكاشفة لتحولات الشخصية، ورادعٌ يقيّدها من التراجع، فتتحوّل إلى أداةٍ لا حول لها ولا قوة، يستخدمُها السّيد في المجال الذي يناسبه، ولا يفرقُ الأمر للقادمِ، الخادم الجديد، فالعبوديّة تفرضُ على العبدِ إنجاز مهامه دون تذمّر، أو رفض، وأي موقفٍ يشير إلى عدم قبوله للواقع، أو للمهام الموكلة له سيكون ضربة قاضية له، ولبقائه في القصر، حيثُ ينتظره الطّردُ بعد تحطيمه وجرده من إنسانيته، لذا فالعبودية لها مستوىً واحد، يتساوى فيها الجميع، كلّ الاتجاهات داخل القصر تؤدّي إلى السقوط، والذّل، والإهانة، والنجاسة، والدّمار، والعبودية. (( فكل الاتجاهات تشير للعبودية التي فرضها سيد القصر...))ص22. كما أنَّ العبودية ليست مقيدة بزمنٍ معيّن، فّإذا كانت(الاتجاهات) كدلالة مكانية تشير إلى العبودية، فالزمان هو الحاضن لها، وفيهما يمارس السّيد رغبتَه في سحق البشر ليبقى سيداً((زمن العبودية لن ينتهي، هو زمن زئبقي، يتخفى في ملابس وهيئات مختلفة.... القوة لا تضع لشهوتها سقفاً محدداً، تغدو شهوات السادة جسورة مترامية الأطراف، شعارها: اسحق لتبقَ سيداً.))ص269
هذه الأحوال المتدرّجة في تدمير الإنسان داخل القصر تُحوِّلُ الإنسانَ إلى وحشٍ مفترسٍ، يفقدُ نوازعه الإنسانية، فيستغلّه السَّيد أداةً في تحطيم خصومه، فيرغبُ في النّجاة، لكن هيهات ((أظن أن أهل حيّنا مازالوا يوسوسون ن بأحلامنا القديمة ويقلبون احتمالات السؤال: كيف السبيل لدخول القصر؟ بينما نحن «الذين بالداخل» نحصي الأيام للخروج منه))ص23 .
هذه التحولات في الشخصية تتوضّح في الجزء الثاني من الرواية، فتصل إلى مرحلة لم تعُد لديه رغبة في شيءٍ، فالقصرُ في حدّ ذاته جنةٌ لسيّده، وجهنّم لعبيده، فقسمةُ القصرِ بسكانه، وحرّاسه، وسلطته، وأمواله، قسمةٌ ضيزى، كما كان بحر جدة ((يقسم قسمة ضيزى))ص52، لأنّ داخل القصر ليس هناك حدود للمفاهيم والقيم، كونهما مرسومين وفق مقاس مزاج السّيد، والقسمة قسمة ضيزى بين السّيد وأتباعه و بين المهشّمين المهمَّشين الذين لا اختيارات لديهم (( الاختيارات تكون متساوية عندما لا ترغب في شيء.))ص315
الملامح الفنيّة:
الملمح الفني الأول: من أبرز الملامح الفنية التي أجاد الكاتبُ فيها السّرد الرّوائي، فاعتماد الكاتب على التداعي الحرّ (تيار الوعي) في سرده للأحداث فتح أمامه المجال واسعاً ليتنقّلَ بين الأحداث والشخصيات، وينسج العلاقات فيما بينها، ويمنحها حرية الحركة والحكي، كما ساعد هذا الأسلوبُ السّرديُّ الكاتبَ على كسر القوالب الزمنية، قافزاً إلى سرد الحوادث الصغيرة والكبيرة، متنقلاً بين الماضي والحاضر بسهولة، وسهّلَ هذا الأمر للكاتب في تقسيم الرواية إلى فصولٍ.
الملح الثّاني يتعلّق بزمنية السّرد: فالزّمن الذي تبدأ فيه الرواية، هو الزّمن الحاضر، يسردُ الرّاوي أحداثاً حصلَتْ في الزّمن الماضي، فهناك زمنان، زمن الحدث الواقع، وزمن التداعي الحرّ، فالمكانُ وفق هذا المنطق الزّمني ثابتٌ لحظة السّرد، ويبقى تيار الوعي هو المتنقّل بين أزمنة مختلفة، مرتبطة بأمكنةٍ أخرى غير المكان الثابت هذا، وبالتّالي فالأحداث لا يربطها تسلسلٌ زمنيٌّ، مما يجعل القارئ (المتلقي الافتراضي) في مهبِّ التَّشظي الزّمني، مستغرقاً في عملية الخلق الفنّيّ، كأداةٍ روائية تفتح الأبواب المغلقة، وتستنطق حالة المسكوت عنه اجتماعياً في المجتمع السعودي، المعاصر، وكشف ما يجري في القاع المظلم، متجاوزاً كل الأسوار والحصن الدينية والسياسية والجنسية، ليظهر ما كان حبيس الأنفس لسنواتٍ طوال.
الملمح الفني الثالث يتعلق بقدرة الكاتب على استخدام العناصر الروائية ليقول ما يريد إيصاله للقارئ. عبده خال بلغت جرأته أعلى المستويات في كشف المحظور الاجتماعي، الفاسد (الديني والجنسي) الذي تراكم احتقانه على مرّ السنين، وكشف المخبوء الصامت تحت وسادة المجتمع، المحافظ المحاط بسورٍ كاتم، الذي يساهم في إبقاء الفساد الاجتماعي والسياسي والديني مستوراً، لا يتناوله الحديث؛ ومؤخراً بدأت الرواية السعودية في تناول القاع الاجتماعي المحظور دائماً، والإفصاح عن خبايا التفاصيل السجن الاجتماعي كرواية سعوديات لسارة العليوي، وشباب الرياض لطارق العتيبي، وملامح، ولم أعد أبكي، ونساء عند خط الاستواء لزينب خفي، واختلاس لهاني نقشبندي، ومفارق العتمة لمحمد المزيني، والقارورة، والحمام لا يطير في بريدة ليوسف المحيميد، و وبلغت مؤخراً تتويجها برواية ترمي بشرر لعبده خال التي كانت رواية فسوق تمهيداً لها. وهنا يكسر الكاتب وقار الكتابة، ودبلوماسيتها، متعمقاً إلى أعماق المجتمع السحيقة، ساعده في ذلك إطلاق الكاتب لتداعي الحر لأفكاره، فيسرد ما لا يمكن لأحد التجرؤ به حتى مع نفسه، والدخول في مكاشفاتٍ جريئة لأحداثٍ مأساوية تدمّر إنسانية الإنسان، وتجرّده من كلّ القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية.
هفوات الرواية :
تحفل الرواية بهفوات كثيرة، تُسجَّل عليها، أوّلها الأخطاء الكتابية الكثيرة فيها( نحْوية،و إملائية، و ربما مطبعية) وهذه الأخطاء من السّهولة تفاديها، وتصحيحها، فورودها في رواية تفوز على أكثر الجوائز الروائية أهمية في العالم العربي أمرٌ يستحقُّ الوقوف عنده، وهذا ليس تقليلاً من شأن هذه الرواية التي حازت على إجماع أعضاء لجنة التّحكيم.
والخطأ الفنّيُّ الآخر يتعلّق بورود اسم زوج أم الشخصية المحورية في الرواية باسمين مختلفين، وكأنَّ السارد قد سَهَا عن اسمه الأول فأطلق اسماً ثانياً عليه، فقد ورد في ص108 باسم جمال المهندس، فيصبح في ص233 غيث المهند، وهذا الخطأ التقني يُسجّلُ على الرواية.
وفي القسم الأخير من العمل الفنّي المسمّى بالبرزخ ليس هناك دواعٍ فنيّة لذكر أسماء نساء القصر، الفنية والحقيقية، فحذفُ تلك الأسماء لا يقلّل من قيمة العمل، وذكرُها لا يزيد شيئاً للرواية، فهي حشو، وثقلٌ للبرزخ الرازح تحت عناوين ولقطات صحفية كثيرة.
وأخيراً، الرّواية تعاني من التّكرار؛ تكرار المعلومات المصاغة بتراكيب مختلفة، تكرار الوصف، والعبارات، ومهمات الأشخاص، لكن عزاء هذا التّكرار أنّه جاء من استخدام الكاتب لأسلوب التداعي الحرّ في سرد الأحداث( تيار الوعي)، هذا ما ترك للشخصيات مساحةً أوسع لتعبّر عن حالها، وتكشف عن معاناتها المكبوتة لسنوات، فالتّكرار في الرّواية سمةٌ تبعث على الملل، وتقتل تشويق متابعة الأحداث.
----------------------
منشور في ملحق الثورة السورية عام صدور الرواية (قبل الأحداث)