عبدالله ابراهيم - المويلحي يناقش دخول المؤثر الغربي إلى الشرق

استأثر كتاب "حديث عيسى بن هشام" للمويلحي باهتمام عدد كبير من الباحثين، وكثير منهم شغلوا بجنس الكتاب ولم تلتفت إلا قلة قليلة بدرجة بأمر التحولات القيمية والدلالية والسردية في الكتاب، وبخاصة المناقشة الشائقة لقضية العلاقة بين الغرب والشرق. وهي قضية لم تزل متقدة منذ أن عرض المويلحي لها قبل قرن من الزمان. ذهب "هاملتون جيب" الى ان شهرة "حديث عيسى بن هشام" لا تعزى الى حكايته او مغزاه انما الى اسلوبه البارع واقتداره على الوصف واضاف انه جمع فيه بين أحسن ما في اسلوب المقامة من خواص وبين اسلوب حديث يتسم بالسلاسة والفكاهة.. لقد واتر ببراعة بين النثر المسجوع في الاقسام السردية.. ومقاطع حوارية صيغت باسلوب سهل حديث، لم يتنكر في بعض أجزائه للغة الدارجة. وفسر العقاد تقيد المويلحي بالسجع، الى انه وضع الكتاب على نسق المقامات، واختار له اسم راويته كأسماء رواتها، فالتزم فيه ما كانوا يلتزمونه في مقاماتهم من الاسجاع والاوضاع فيما ذهب علي الراعي الى ان الباحث المدقق يرى في هذا الكتاب صراعاً ملحوظاً بين فن المقامة وفن الرواية، فالمقامة تغلب على الكتاب في اوائل الفصول ثم لا يلبث ما في الفصول من قصة ان يتغلب على المقامة، فيصبح الدفع باتجاه الرواية اوضح. اما شوقي ضيف فيرى بأنه وسع جنبات المقامة القديمة.. وخرج بها الى حوار واسع، تأثر فيها بطريقة الغربيين في قصصهم، فالحوادث تتطور والشخصيات تصور بنزعاتها النفسية في المواقف المختلفة وقال راميتش بأن الناظر في حديث عيسى بن هشام يلاحظ ان المويلحي لا يلجأ الى تنميق الاسلوب والعناية به إلا اذا كان الحديث على لسان عيسى بن هشام او الباشا. اما غيرهما من اشخاص الكتاب فيجري الحديث على السنتهم سهلاً لا اثر فيه للتنميق والتجميل. لكن الكتاب يتضمن ايضاً سلسلة مترابطة من القيم الدلالية التي تبين الكيفية التي يقوم بها السرد في تمثيل مشكلة التحولات والتغيير، والعلاقات مع الماضي، ودخول المؤثر الغربي في حياة الشرقيين.

يكاد الراوي والباشا في حديث عيسى بن هشام يتطابقان في منظورهما، في اول الامر، ولا تكاد المدة الزمنية الفاصلة بينهما، وهي قرابة نصف قرن تحدث تمايزاً بينهما، مما يمكن معه القول بأن منظور الراوي يحيل على منظور "المويلحي" نفسه، فبعد ان يحبس الباشا، يتركه الراوي بانتظار المحاكمة، وهو يفكر قلقاً ومضطرباً بما أصاب الرجل، فالراوي يشفق على الحال التي أصبح فيها الباشا بسبب جهله بتغير الزمن، ولكن سرعان ما يتوصل الى ان ابقاء الجهل خير من اظهار المعرفة، فذلك الجهل قد يساعد الباشا في موقفه، فلا يرتب عليه ذنباً لم يتقصد ارتكابه، والراوي يعيد توظيف جهل الباشا من اجل معرفته هو اولاً، ومعرفة الباشا ثانياً، فالمناسبة بحد ذاتها تصلح لكشف الاختلاف بين العصرين، فهو لا يريد من جهة الحاق الضرر بالباشا بسبب جهله، وصدمة انبعاثه من القبر، ولهذا يحاول ان يجعل من جهله دليلاً على براءته، وهو يريد من جهة ثانية ان يكتشف الباشا بنفسه اختلاف العصرين، وهو من جهة ثالثة يريد ان يتعرف أي العصرين اجل قدراً واعظم نفعاً، ويبدو لنا ان هذه الموازنة القلقة بين ثلاثة مسارات للسرد ترتبط برغبات الراوي هي المحفز للحركة السردية في كتاب المويلحي.

يمر الباشا بثلاثة اطوار اساسية في حياته الجديدة، طور اول: يرفض فيه القيم المستحدثة بكاملها، ويقع ضحية هذا الرفض، وطور ثان: ينقطع فيه مع الراوي للتأمل فيه بأحوال العصر الذي بعث فيه، واخيراً، طور ثالث: يندفع برغبة ظاهرة للاندراج في ذلك العصر، بعد ان يستوعب الصدمة الاولى. تمر الاطوار المذكورة عبر حلقة متكاملة من التحولات، فبعد الموقف الاولي الذي يكشف التعارض التام بين منظومتي القيم، يبدأ الباشا شيئاً فشيئاً الامتثال للامر الجديد، وهو ليس امتثالاً كاملاً انما هو نوع من الصمت المعبر عن عجز يختلف عما بيناه في الطور الاول الذي كان يحتج فيه على كل تصرف يصدر عن الآخرين، يكشف هذا الطور عن تحول عميق في موقف الباشا. مسار التحولات الواضح في شخصية الباشا ومنظوره وقيمه يكشف الظاهرة التي غابت عن النصوص الروائية العربية التي سبقته، وكانت تمتثل لنظام صارم من الحدود والثبات، فيما يقدم كتاب " المويلحي" رحلة تحول، لا تقف بالباشا عند حدود بلده، بل تنقله الى الغرب، ولكن ضمن هدف يختلف عما ظهر في كتاب " علم الدين" لـ " علي مبارك" قبل ذلك، فقبل بداية الرحلة الثانية، يتبلور مغزى كبير، وهو ان كثيراً من اوجه الخراب والفساد جاءت بسبب التقليد

الاعمى والمحاكاة السلبية للغربيين، فالصديق المرافق للباشا والراوي، يقول، في فصل دال بعنوان " المدنية الغربية": ان سبب الفساد والخلل هو دخول المدنية الغربية بغتة في البلاد الشرقية، وتقليد الشرقيين للغربيين في جميع أحوال معايشتهم كالعميان لا يستنيرون ببحث ولا يأخذون بقياس، ولا يتبصرون بحسن نظر، ولا يلتفتون الى ما هناك من تنافر الطباع، وتباين الاذواق، واختلاف الاقاليم والعادات، ولم ينتقوا منها الصحيح من الزائف، والحسن من القبيح بل أخذوها قضية مسلمة، وظنوا ان فيها السعادة والهناء، وتوهموا ان يكون لهم بها القوة والغلبة، وتركوا لذلك جميع ما كان لديهم من الاصول القويمة، والعادات السليمة، والآداب الطاهرة.. واكتفوا بهذا الطلاء الزائل من المدنية الغربية، واستسلموا لحكم الاجانب يرونه امراً مقضياً، وقضاء مرضياً، وخربنا بيوتنا بأيدينا، وصرنا في الشرق كأننا من اهل الغرب، وان بيننا وبينهم في المعايش لبعد المشرق من المغرب.

نجح المويلحي منذ البداية في تشكيل عالم تخيلي يحتمل الامكان، ومع ان ظهور الباشا من قبره اعتبر عند معظم الدارسين فوق كل احتمال، لكن المتلقي سرعان ما يتقبل ذلك، لانه يعرف بأن ذلك متصل بهدف اكبر وهو وضع الانظمة القيمية في تصادم، وبمرور الاحداث، واندماج الباشا في العالم الجديد، تغيب اهمية البعث، فلا يسأل احد لماذا لم يعد الباشا الى قبره في نهاية المطاف؟ وبخاصة ان اشارة عيسى بن هشام الافتتاحية بأن الحادثة ترد بصورة حلم. هذا العالم التخيلي الذي يؤلف قوام النص، يتنازعه قطبان: عالم جديد واقعي بمستحدثاته في العلاقات والسلوك والانظمة واللغة، وعالم قديم ذهني خاص بالباشا مملوء بالاوامر والنواهي والصرامة والتضحية والمثل الكبرى. والكتاب يقوم بتمثيل للكيفية التي تنتصر فيها قيم العالم الاول، على الرغم من سوء كثير منها، وتنهزم قيم العالم الثاني، وفي هذا فالباشا اكثر اتصالاً بعصره من دون كيخوته الذي انبثق وعيه بالخطأ في اللحظات الاخيرة من حياته، فيما مضى الباشا يتفاعل بالتدريج، فلم يكن التغيير لديه مفاجئاً.
يبعث الباشا في عالم مغاير لعالمه القديم، اختلاف في التقاليد، والوظائف والادوار، ومعالم المدينة، والعلاقات الاجتماعية، وامام كل هذا يجد نفسه غريباً في بلده بصورة كاملة، لكن الراوي يقود الباشا في تجارب حياتية كثيرة يتخطى فيها غربته ودهشته، ولنقف فقط على التباين بين نمطين من التعارضات في كل ذلك، ففي عصر الباشا، لا يسمح التجوال ليلاً إلا بكلمة مرور، ولا تركب إلا الجياد، وكان القواس هو المسؤول عن الامن، وعلوم الازهر هي السائدة، ويحصل صاحب الشأن على اوراق الالتزام عند انتهاء التعليم، وعند الخصومة فمرجع الامر بيت القاضي، والجميع يخضعون للقانون الهمايوني، والفتاوى وامور الناس الشرعية تجد لها حلاً في كتب ابن عابدين وغيرها، والغرباء يسكنون الخانات، و بالمقابل وفي العصر الذي بعث فيه الباشا اصبح التجول حراً في أي وقت، وبالجياد المطهمة استبدلت الحمير، والبوليس هو الذي يسهر على توفير الامن، وحلت علوم الافرنج محل علوم الازهر، والشهادة الدراسية محل اوراق الالتزام، والمحاكم الاهلية هي المرجع لفض المنازعات بين الناس، والقانون الامبراطوري الفرنسي هو المعمول به، وبكتب الفقه استبدلت كتب " دللوز" و" جارو" و" بودري" و" فوستين هيلي" وبالخانات استبدلت " الاوتيلات". وهذا مثل على حالة التغير التي يلاحظها الباشا، الى ذلك فهو، في كثير من الاحيان، يجد نفسه لا يفهم دلالة الالفاظ المستحدثة التي لم تكن شائعة في عصره، وامثلتها كثيرة تتناثر في معظم صفحات الكتاب، ودلالتها غامضة بالنسبة له، مثل: الكرافات، مونشير، الاوتوموبيل، البرنس، الكارت، نوته، الاوتيل، اللوكانده، الميكرسكوب، الفونغراف، بوفيه، الكلوب، البوسته، اكسبريس، المانفيستو، البليار، البورصة، البنك... الخ، وكل هذه المفردات دالة على نمط حياتي مختلف عما كان عليه الباشا في حياته، ولهذا بدل ان يغلق اذنيه دونها، كان يزداد رغبة في التعرف اليها. وتترافق تحولات الوعي في الكتاب بتحولات السرد الذي يتحرر مع مرور الوقت من الطابع المحاكاتي الاولى للمقامة، فينفتح السرد على مشاهد كبيرة مفعمة بالحيوية، وبخاصة حالات الاخفاق التي يتعرض لها الباشا في مركز الشرطة، والنيابة، والمحاكم، وهو يدخل متاهة الحياة الحديثة، ثم المتابعة الشائقة لشخصيات مثل العمدة والخليع والتاجر، ومع ان السمة الوعظية لا تغيب عن الكتاب لكن عرض التناقضات بذاتها، والحوارات المعمقة حولها، وتأثيرها في مصائر الشخصيات، كل ذلك يضفي سمة خاصة على الكتاب.

د. عبدالله ابراهيم
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...