تعد العلاقة بين الفكر والسلطة فى الوطن العربى من العلاقات الشائكة، فقد عانى المفكرون كثيراً فى العصور المختلفة، وذلك نتيجة لرغبتهم فى تقديم فكر حقيقى، كان فى أغلبه، يتعارض مع مواقف الحكام الذين كانوا فى أحوال كثيرة أبعد ما يكونون عن الفكر والتفكير، أو يميلون إلى رؤى تقليدية سكونية، وأفكار ما ضوية تدعم سلطانهم، وتبعد عنهم شبح التمرد أو الثورة.
واذا كانت الدولة العثمانية قد جثمت على صدر الفكر والمفكرين وصادرت- باسم الدين، وسلطة الباب العالى- كل اشكال الابداع والتمرد والحريه، إلا أنه مع مجئ القرن التاسع عشر كانت حركة يقظة قد بدأت، خاصة فى مصر . هذه الحركة واجهت عدوين شرسين،الدولة العثمانية المتعسفة، والمريضة فى نفس الوقت، والاستعمار الغربى الذى جاء متسلحاً بالعلم والتكنولوجيا وبفكر حديث ومتطور بعد قطيعة مع فكر العصور الوسطى المتخلف.
وبناءً على ذلك ظهرت مواقف فكرية متباينة، هى بالضرورة ترجع إلى الانتماءات الاجتماعية والطبقية لدى أصحابها، كما أنها كانت نتيجة لتفاعل تيارات فكرية متعارضة، بين فكر سلفى، وفكر حديث ناتج عن الاحتكاك والتفاعل مع التيارات الغربية. كما ظهرت تيارات أخرى توفيقية وتلفيقية.. وقد كان الابتعاد عن السلطة- أو الاقتراب منها، ومواقف هذه السلطة سواء فى علاقاتها بالغرب أو بالباب العالى، وموقف رجال الدين المتعصبين والمتزمتين، كل ذلك يشكل قوى ضاغطة فى مواجهة المفكر، والذى يقع بالضرورة، الى جانب ما سبق ذكره، تحت ضغوط الصراعات الاجتماعية والاقتصادية والتى تشكل الايديولوجية السائدة، والايديولوجيات المعارضة لها فى المجتمع تعبيراً دقيقاً عن أشكال هذه الصراعات.
وقد تباينت الاتجاهات الفكرية منذ عصر النهضة العربية إلى الآن بين اتجاهات ليبرالية اصلاحية أو دينية ترغب فى العودة إلى الماضى والخلافة الاسلامية وتيارات تقدمية جذرية تعمل على تغيير المجتمع وتطويره لكى يتفاعل مع العصر، ولكى نلعب دوراً ايجابياً فى الواقع.
وقد كانت هذه الاتجاهات، وما زالت حتى الآن، تعبر عن طبقات وفئات اجتماعية محددة، كما انها متفاعلة بشكل رئيسى مع ما يدور فى الخارج من صراعات دولية، ومواقف سياسية.
وقد تأثر الفكر المعاصر بشكل رئيسى، بالاضافة إلى ما سبق، بما يسمى بحقبة النفط، وتراجع حركة التحرر الوطنى التى كانت سائدة فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى سبعينيات القرن الماضى. وقد كان لظهور الثروة النفطية فى البلاد التى تعيش فى غيابة العصور الوسطى أثر كبير على تدهور الفكر، وارتداد العديد من المفكرين تحت تأثير التمويل النفطى للثقافة التقليدية عن طريق المجلات والجوائز، والصحف، واخيراً القنوات الفضائية وغيرها. وكذلك نزوح العديد من اساتذة الجامعة والمثقفين فى المجالات المختلفة، ووقوعهم تحت تأثير (التمويل النفطى) والفكر البدوى المتحجر، وعودتهم بأفكار متخلفة ومتكلسة.
كما ان هذه الحقبة أفرزت مناخاً إرهابياً، واجه فيه المفكرون العديد من اشكال الإرهاب، كالقتل (فرج فوده- محاولة قتل نجيب محفوظ- قتل حسين مروة ومهدى العامل فى لبنان....الخ) ودعاوى الحسبة فى مصر،والملاحقات القضائية من دراويش الحركات الدينية،والتهديد بالقتل.. والاتهام بالكفر والالحاد لكل مفكر مستنير أو مخالف لفكر هذا التيار الإرهابى.
والجدير بالذكر هنا ان السلطة، بما لها من عداء أصيل للفكر، ساعدت على نشر هذا الفكر البدوى، وهيأت له كل الظروف للنمو والتغلغل فى مجالات الحياة المختلفة. ففى الوقف الذى منعت فيه السياسة فى المدارس والجامعات (ونعنى بالسياسة هنا الفكر اليسارى بشكل عام) سمحت للتيارات الدينية الاسلامية بممارسة أنشطتها بشكل واسع فى الجامعات والمدارس بل والتغلغل والسيطرة على النقابات والاتحادات، وجمع الاموال بشتى الطرق. وفى الوقت الذى حاصرت فيه الأحزاب،ومنعتها من العمل السياسى فى الشارع، ووقفت ضد تكوين أحزاب جادة، وافقت على احزاب ورقية لا وجود لها فى الشارع المصرى، واطلقت يد التيار الدينى حتى استشرى، وأصبح هو الوحيد البديل لهذه السلطة، واستخدمته كفزاعة للداخل والخارج، ووسيلة للتمسك بالسلطة والاستمرار فى الفساد.
فى هذا المناخ الشائك يقف المفكر بين مطرقة السلطة بما تحمله من تحكم، وتسلط وارهاب- وما يتمثل فيها من فساد لا تخطئه العين الآن-، وبين سندان التطرف الدينى وما يحمله من تخلف وما ضويه، وموقفه المعادى لكل فكر أصيل، وكل إبداع تؤكده التجارب القديمة والحديثة.
واذا أردنا أن نحدد العلاقة بين المفكر والسلطة- الآن- فإننا بالضرورة يجب ان نضع فى اعتبارنا بشكل جوهرى، التيار الأيديولوجى الذى يلتزم به المفكر، وعلاقته بالتقدم والتغيير، وعلاقة هذا كله بالاتجاهات والرؤى السياسية التى تنتهجها السلطة الحاكمة.
وبناءً على ذلك فإننا نجد انماطاً مختلفة من الفكر والمفكرين فى اطار العلاقة مع السلطة، ومع وضع الانتماء الطبقى والفكرى فى الاعتبار فإننا نرى ان اول الأنماط إنما هو المفكر الثورى والمتمرد، هذا المفكر مناوئ للسلطة، يمثل المثقف الحقيقى، المدافع عن الحرية والتقدم، والرؤى المستقبلية، ويؤسس فكره على قاعدة من حرية الإبداع والتفكير، ويعمل جاهداً من اجل تغيير الاوضاع السائدة، على المستويين المادى والمعنوى.
هذا المفكر يعانى الكثير من السلطة، سواء بالسجن أو النفى أو الاضطهاد، وعدم تقلد الوظائف الهامة، وتركه يواجه التيارات الظلامية منفرداً، بل والوقوف معها ضده فى أغلب الاحيان.
وطالما كانت الأفكار تعبر عن رؤى اجتماعية ومصالح.... الخ، فإن هناك من الكتاب من اسهم فى اضطهاد زملائه ، والوشاية بهم من اجل مصالح آنية رخيصة.
وقد أدى الاضطهاد ايضاً بالبعض إلى افتعال الغموض، والرمز احياناً- وذلك فى حالة عدم ضرورة ذلك من الناحية الفعلية.
واذا كان المفكر الثورى مضطهداً، ومرفوضاً من السلطة ومن القوى السياسية التقليدية، فإن المفكر المتعاون والمفكر المساوم يصبح لهما الدور الأساسى فى ترويج ما تريده السلطة. واذا كانت هذه السلطة لديها جميع مصادر الثقافة،من وسائل الاعلام، دور النشر، الجامعات، والمدارس، وتتدخل فى النقابات والاتحادات، فإنها تملك حق المنح والمنع لمن تريد، وبذلك يكون المتعاون هو الحاصل على الجوائز، ويتقلد المناصب الرفيعة فى الصحف ووسائل الاعلام الاخرى، وتروج كتاباته مهما كانت رداءتها وسطحيتها، بل وتفاهتها.
وهذا النوع يتلقى التوجيهات من السلطة، ولا يعبر عن نفسه علناً، بل قد نجده يعبر فى مجالسه الخاصة عن نوع من الإزدواجية.وينتمى الى هذا النوع الانتهازيون الذين يتلونون تبعاً للون السلطة، ويعملون أجراء لمن يدفع اكثر.... وكذا تنتفى عنهم صفة الإبداع، لأنهم مجرد أجراء
وهم ايضاً يتشككون فى قداراتهم، إذ مع الممارسة تنمو داخلهم رقابة ذاتية، فهم سلطويون أكثر من السلطة، يراقبون أنفسهم حتى لا يحيدوا عما هو مرسوم لهم، بل أحيانا ًيبالغون فى جبنهم، وخوفهم حتى يصلوا إلى حالة تشبه المرض إن لم تكن هى المرض ذاته.
وقد يوجد إلى جانب هذين النوعين نوع آخر هو المفكر المنعزل فى برجه العاجى، الذى يعمل بعيداً عن السلطة، ولا تضعه السلطة فى اعتبارها- كعدو أو كمتعاون- وهذا النوع هو الذى يهتم بأمور أبعد ما تكون عن الواقع، ويختار مجالاً لا يتصل بالواقع السياسى أو الاجتماعى مباشرة، وبالتالى لا يتصل بالسلطة بشكل مباشر. ومن هذا النوع الأكاديمى الصرف الذى يهتم بأبحاثه وأعماله المتخصصة- ولكن عزلة هذا الاكاديمى قد لا تطول، لأنه فى ظل الفساد المستشرى فى كل مكان قد يجد نفسه مضطراً لاتخاذ موقف محدد من بعض الامور والموضوعات- وهى ان كانت متخصصة جداً، إلا أنها بدرجة أو بأخرى ذات صلة بالسلطة- أى سلطة. وهكذا فإنه سوف يجد نفسه يعيش وهماً بأعتقاده أنه بعيد عن الاحتكاك بالسلطة، أو يجد نفسه إما مناوئاً لها أو متواطئاً معها. بل والموقف السلبى هو فى التحليل الأخير
(موقف من شئ ما)، وفى صالح السلطة.
وهكذا فإن المفكر فى عصرنا الراهن، فى ظل استشراء الفساد وتغلغله فى كل مكان ومجال، وفى ظل تعاظم قوة التيارات الظلامية المضادة للابداع والتغيير، وفى ظل سلطة تعيش الفساد، وتستخدم القوى الظلامية كفزاعة للمستنيرين.... فى ظل هذا الوضع نقول إن المفكر الحقيقى هو المفكر الثورى، المناوئ للسلطة، وداعيه الحرية والابداع والتغيير، والذى تطارده السلطة والتيارات الرجعية، والانتهازيون الذين يعملون لدى السلطة أو الرجعية أو كلاهما معا.
استاذ ورئيس قسم الفلسفة
أداب سوهاج
منقول عن:
* عُشّاق المفكر والأديب الفنان أ.د/ رمضان الصبّاغ
* رمضان الصباغ - المفكر والسلطة
واذا كانت الدولة العثمانية قد جثمت على صدر الفكر والمفكرين وصادرت- باسم الدين، وسلطة الباب العالى- كل اشكال الابداع والتمرد والحريه، إلا أنه مع مجئ القرن التاسع عشر كانت حركة يقظة قد بدأت، خاصة فى مصر . هذه الحركة واجهت عدوين شرسين،الدولة العثمانية المتعسفة، والمريضة فى نفس الوقت، والاستعمار الغربى الذى جاء متسلحاً بالعلم والتكنولوجيا وبفكر حديث ومتطور بعد قطيعة مع فكر العصور الوسطى المتخلف.
وبناءً على ذلك ظهرت مواقف فكرية متباينة، هى بالضرورة ترجع إلى الانتماءات الاجتماعية والطبقية لدى أصحابها، كما أنها كانت نتيجة لتفاعل تيارات فكرية متعارضة، بين فكر سلفى، وفكر حديث ناتج عن الاحتكاك والتفاعل مع التيارات الغربية. كما ظهرت تيارات أخرى توفيقية وتلفيقية.. وقد كان الابتعاد عن السلطة- أو الاقتراب منها، ومواقف هذه السلطة سواء فى علاقاتها بالغرب أو بالباب العالى، وموقف رجال الدين المتعصبين والمتزمتين، كل ذلك يشكل قوى ضاغطة فى مواجهة المفكر، والذى يقع بالضرورة، الى جانب ما سبق ذكره، تحت ضغوط الصراعات الاجتماعية والاقتصادية والتى تشكل الايديولوجية السائدة، والايديولوجيات المعارضة لها فى المجتمع تعبيراً دقيقاً عن أشكال هذه الصراعات.
وقد تباينت الاتجاهات الفكرية منذ عصر النهضة العربية إلى الآن بين اتجاهات ليبرالية اصلاحية أو دينية ترغب فى العودة إلى الماضى والخلافة الاسلامية وتيارات تقدمية جذرية تعمل على تغيير المجتمع وتطويره لكى يتفاعل مع العصر، ولكى نلعب دوراً ايجابياً فى الواقع.
وقد كانت هذه الاتجاهات، وما زالت حتى الآن، تعبر عن طبقات وفئات اجتماعية محددة، كما انها متفاعلة بشكل رئيسى مع ما يدور فى الخارج من صراعات دولية، ومواقف سياسية.
وقد تأثر الفكر المعاصر بشكل رئيسى، بالاضافة إلى ما سبق، بما يسمى بحقبة النفط، وتراجع حركة التحرر الوطنى التى كانت سائدة فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى سبعينيات القرن الماضى. وقد كان لظهور الثروة النفطية فى البلاد التى تعيش فى غيابة العصور الوسطى أثر كبير على تدهور الفكر، وارتداد العديد من المفكرين تحت تأثير التمويل النفطى للثقافة التقليدية عن طريق المجلات والجوائز، والصحف، واخيراً القنوات الفضائية وغيرها. وكذلك نزوح العديد من اساتذة الجامعة والمثقفين فى المجالات المختلفة، ووقوعهم تحت تأثير (التمويل النفطى) والفكر البدوى المتحجر، وعودتهم بأفكار متخلفة ومتكلسة.
كما ان هذه الحقبة أفرزت مناخاً إرهابياً، واجه فيه المفكرون العديد من اشكال الإرهاب، كالقتل (فرج فوده- محاولة قتل نجيب محفوظ- قتل حسين مروة ومهدى العامل فى لبنان....الخ) ودعاوى الحسبة فى مصر،والملاحقات القضائية من دراويش الحركات الدينية،والتهديد بالقتل.. والاتهام بالكفر والالحاد لكل مفكر مستنير أو مخالف لفكر هذا التيار الإرهابى.
والجدير بالذكر هنا ان السلطة، بما لها من عداء أصيل للفكر، ساعدت على نشر هذا الفكر البدوى، وهيأت له كل الظروف للنمو والتغلغل فى مجالات الحياة المختلفة. ففى الوقف الذى منعت فيه السياسة فى المدارس والجامعات (ونعنى بالسياسة هنا الفكر اليسارى بشكل عام) سمحت للتيارات الدينية الاسلامية بممارسة أنشطتها بشكل واسع فى الجامعات والمدارس بل والتغلغل والسيطرة على النقابات والاتحادات، وجمع الاموال بشتى الطرق. وفى الوقت الذى حاصرت فيه الأحزاب،ومنعتها من العمل السياسى فى الشارع، ووقفت ضد تكوين أحزاب جادة، وافقت على احزاب ورقية لا وجود لها فى الشارع المصرى، واطلقت يد التيار الدينى حتى استشرى، وأصبح هو الوحيد البديل لهذه السلطة، واستخدمته كفزاعة للداخل والخارج، ووسيلة للتمسك بالسلطة والاستمرار فى الفساد.
فى هذا المناخ الشائك يقف المفكر بين مطرقة السلطة بما تحمله من تحكم، وتسلط وارهاب- وما يتمثل فيها من فساد لا تخطئه العين الآن-، وبين سندان التطرف الدينى وما يحمله من تخلف وما ضويه، وموقفه المعادى لكل فكر أصيل، وكل إبداع تؤكده التجارب القديمة والحديثة.
واذا أردنا أن نحدد العلاقة بين المفكر والسلطة- الآن- فإننا بالضرورة يجب ان نضع فى اعتبارنا بشكل جوهرى، التيار الأيديولوجى الذى يلتزم به المفكر، وعلاقته بالتقدم والتغيير، وعلاقة هذا كله بالاتجاهات والرؤى السياسية التى تنتهجها السلطة الحاكمة.
وبناءً على ذلك فإننا نجد انماطاً مختلفة من الفكر والمفكرين فى اطار العلاقة مع السلطة، ومع وضع الانتماء الطبقى والفكرى فى الاعتبار فإننا نرى ان اول الأنماط إنما هو المفكر الثورى والمتمرد، هذا المفكر مناوئ للسلطة، يمثل المثقف الحقيقى، المدافع عن الحرية والتقدم، والرؤى المستقبلية، ويؤسس فكره على قاعدة من حرية الإبداع والتفكير، ويعمل جاهداً من اجل تغيير الاوضاع السائدة، على المستويين المادى والمعنوى.
هذا المفكر يعانى الكثير من السلطة، سواء بالسجن أو النفى أو الاضطهاد، وعدم تقلد الوظائف الهامة، وتركه يواجه التيارات الظلامية منفرداً، بل والوقوف معها ضده فى أغلب الاحيان.
وطالما كانت الأفكار تعبر عن رؤى اجتماعية ومصالح.... الخ، فإن هناك من الكتاب من اسهم فى اضطهاد زملائه ، والوشاية بهم من اجل مصالح آنية رخيصة.
وقد أدى الاضطهاد ايضاً بالبعض إلى افتعال الغموض، والرمز احياناً- وذلك فى حالة عدم ضرورة ذلك من الناحية الفعلية.
واذا كان المفكر الثورى مضطهداً، ومرفوضاً من السلطة ومن القوى السياسية التقليدية، فإن المفكر المتعاون والمفكر المساوم يصبح لهما الدور الأساسى فى ترويج ما تريده السلطة. واذا كانت هذه السلطة لديها جميع مصادر الثقافة،من وسائل الاعلام، دور النشر، الجامعات، والمدارس، وتتدخل فى النقابات والاتحادات، فإنها تملك حق المنح والمنع لمن تريد، وبذلك يكون المتعاون هو الحاصل على الجوائز، ويتقلد المناصب الرفيعة فى الصحف ووسائل الاعلام الاخرى، وتروج كتاباته مهما كانت رداءتها وسطحيتها، بل وتفاهتها.
وهذا النوع يتلقى التوجيهات من السلطة، ولا يعبر عن نفسه علناً، بل قد نجده يعبر فى مجالسه الخاصة عن نوع من الإزدواجية.وينتمى الى هذا النوع الانتهازيون الذين يتلونون تبعاً للون السلطة، ويعملون أجراء لمن يدفع اكثر.... وكذا تنتفى عنهم صفة الإبداع، لأنهم مجرد أجراء
وهم ايضاً يتشككون فى قداراتهم، إذ مع الممارسة تنمو داخلهم رقابة ذاتية، فهم سلطويون أكثر من السلطة، يراقبون أنفسهم حتى لا يحيدوا عما هو مرسوم لهم، بل أحيانا ًيبالغون فى جبنهم، وخوفهم حتى يصلوا إلى حالة تشبه المرض إن لم تكن هى المرض ذاته.
وقد يوجد إلى جانب هذين النوعين نوع آخر هو المفكر المنعزل فى برجه العاجى، الذى يعمل بعيداً عن السلطة، ولا تضعه السلطة فى اعتبارها- كعدو أو كمتعاون- وهذا النوع هو الذى يهتم بأمور أبعد ما تكون عن الواقع، ويختار مجالاً لا يتصل بالواقع السياسى أو الاجتماعى مباشرة، وبالتالى لا يتصل بالسلطة بشكل مباشر. ومن هذا النوع الأكاديمى الصرف الذى يهتم بأبحاثه وأعماله المتخصصة- ولكن عزلة هذا الاكاديمى قد لا تطول، لأنه فى ظل الفساد المستشرى فى كل مكان قد يجد نفسه مضطراً لاتخاذ موقف محدد من بعض الامور والموضوعات- وهى ان كانت متخصصة جداً، إلا أنها بدرجة أو بأخرى ذات صلة بالسلطة- أى سلطة. وهكذا فإنه سوف يجد نفسه يعيش وهماً بأعتقاده أنه بعيد عن الاحتكاك بالسلطة، أو يجد نفسه إما مناوئاً لها أو متواطئاً معها. بل والموقف السلبى هو فى التحليل الأخير
(موقف من شئ ما)، وفى صالح السلطة.
وهكذا فإن المفكر فى عصرنا الراهن، فى ظل استشراء الفساد وتغلغله فى كل مكان ومجال، وفى ظل تعاظم قوة التيارات الظلامية المضادة للابداع والتغيير، وفى ظل سلطة تعيش الفساد، وتستخدم القوى الظلامية كفزاعة للمستنيرين.... فى ظل هذا الوضع نقول إن المفكر الحقيقى هو المفكر الثورى، المناوئ للسلطة، وداعيه الحرية والابداع والتغيير، والذى تطارده السلطة والتيارات الرجعية، والانتهازيون الذين يعملون لدى السلطة أو الرجعية أو كلاهما معا.
استاذ ورئيس قسم الفلسفة
أداب سوهاج
منقول عن:
* عُشّاق المفكر والأديب الفنان أ.د/ رمضان الصبّاغ
* رمضان الصباغ - المفكر والسلطة