لعلّ أظهر سمة تسترعي قارئ نمر سعدي، هي التماثل الصوتيّ بين الكلمات في جلّ نصوصه. وهي سمة كامنة في أصل العربيّة وفي نظامها الاشتقاقيّ. ويكفي أن نعود إلى معجم «العين» لنلاحظ كيف أنّ الخليل بناه على النظريّة ذاتها التي بنى عليها فكرة الدوائر العروضيّة. وهي نظريّة التباديل والتوافيق في الرياضيّات، حيث ترد المادّة اللـّغويّة على صورة معيّنة، فإذا أعيد ترتيبها تولّدت منها صورة ثانية فثالثة وهكذا دواليك. بيْد أنّ ما يعنيني في تجربة نمر تدبّره الواعي بهذا التماثل وما ينسجه من العلائق اللغويّة التضاديّة. وربّما لا مسوّغ لذلك إلاّ الكتابة التي تجعل الكلمة تندمج برغبة الشاعر وانفعالاته؛ وتتحوّل من متخيّل «تصوّريّ» إلى متخيّل «إبداعي» أو بعبارة أدقّ من كتابة غير مرئيّة إلى كتابة مرئيّة أساسها تصوّر مختلف للنّظر يجعل من العين شبه معدّل خطيّ للمرئيّ.
قد يرى بعضنا في هذه الكتابة الاستعاريّة، باقي وشم من مذهب «البديع» أو الأرابيسك، وقد يرى فيه آخرون شبها بالقصيدة الباروكيّة، حيث يسمّى الشيء باسم شيء آخر، وتغدو الأشياء أشياء لغويّة. وليس بالمستغرب عند شاعر لا يتكلـّم إلاّ بالمجاز والاستعارة، أن تتراسل الأشياء والموضوعات على نحو غير مألوف، وأن يحفّها الإلغاز والغرابة في كلّ مسالكها، ولكن بدون أن يسوق ذلك إلى القول بأنّ تراسلها ثمرة مصادفة أو اعتباطيّة؛ حتـّى في النماذج الأشدّ غرابة، حيث التنافر المنطقيّ يتمثـّل في إضاءة تماثلات قائمة في نظام الشعر نفسه. والصورة عند نمر ترتبط بتمثيليّة اللّغة ومدى قدرتها على تمثّل جملة من الحالات كما في كتابه «يوتوبيا أنثى»:
رحيلُ أمِّي جعلني أخلطُ الشعرَ بالنثرِ
والمنطقيَّ باللا منطقيّْ
والحياةَ بالموتِ
والعصافيرَ الزرقاءَ بالرصاصِ
والبحرَ باليابسةِ
والماءَ بالنارِ
ودمائي بالزهرِ / وصمتي بصراخي الأبديّ
هذه الصورة وهي مثال لا غير، إجراء لغويّ لمراجع هي بمثابة» أشياء»، ورؤية نصيّة سياقيّة لعناصر لغويّة أي «كلمات». وهي من ثمّة، صنعة وخلق وإنشاء، ينهض لها خطاب واصف أو»بيان» يحتفي بفعل الكتابة وهي تتجلّى. ولا بدّ هنا من مراعاة بعدين: بعد مقصدي تمثّلي وبعد تكوّنيّ إيقاعيّ . والأوّل هو ما يجعل منها صورة على حين أنّ الثـّاني هو ما يجعل منها شكلا وإيقاعا متعالقين. أمّا من حيث الحال أو المعنى أو الدلالة، فهي مزق وصدع وجرح، وأمارة على كتابة لم تلتئم جروحها، أو على «شجّة متلاحمة « تشقّ جسم القصيدة، ولا تصدع بنيتها.
وقد يتكشّف النصّ عن منزعين يتحكّمان في انتحاء الذات إلى الكلام مرّة، وإلى الكلمة أخرى. وهو أمر ليس بالمستغرب في هذا الشعر الذي لم يقطع صلته بالقصيدة أو بالإيقاع الوزني، بل إنّ للعقل الواعي أثرا واضحا في خلقه، وهو النصّ الذي يعتمد، إلى حدّ كبير، على تخيّر لغته وتدبّرها وإحكام تنسيقها:
أتسلَّقُ أشجارَ الليلِ المرجانيَّةْ
وأسقطُ من أعلى نجمةِ قلبي
أتسلَّقُ هاويةً في أقصى حُبِّي
وأسقطُ ملفوفاً بدمي الأبيضِ كالثلجْ
من يرفعُ عن صدري صخرةَ أحلامي؟
من في شعراءِ الأرضِ جميعاً يشرحُ ما في النفسِ
من الهمِّ العاري
أو يصفُ اللوعةَ في قلبي الواري؟
من في الناسِ جميعاً يرثيني
أو يبكيني…؟
فليس بالمستبعد إذن أن يجد الشاعر ضالّته في تكثيف الأسماء والحوامل الصوتيّة الإيقاعيّة التي تتيح للكلمة أن تستعيد أجراسها وأصواتها التي طوت عليها الكتابة؛ وكأنّ الكلمة مكتوبة محاكاة جناسا للكلمة منطوقة. وهذه طريقة من بين طرائق شعريّة أخرى، تجريها الكتابة لـ»تشفيه» خطابها وجعله قابلا للإنشاد، وأداء تخاطب أبعد أثرا في المتلقّي المتقبّل.
وفي هذا المستوى يمكن القول إنّ الخطاب «ذاتانيّ» أساسه خبرة ذاتيّة باللغة، أو معرفة تصدر عن عارف منفعل بالمعروف انفعالا ذاتيّا. ومن ثمّة فقد تنمّ هذه السمات على صنعة وكتابة؛ ولكنّها قد تنمّ أيضا على قصور «المكتوب» أو عدم كفايته، فينزع صاحبها إلى استجلاب خصائص «الشّفهي» أو إلى محاكاتها. ومن ثمّ يتأدّى الخطاب في سجلاّت لغويّة مختلفة أو متباينة. وقد تكون من باب الاشتراك المعنويّ أو جعل المجاز عين الحقيقة مثلما يطمح إلى ذلك الشعر، أو من باب الأسمانيّة حيث نحيط بالظاهرة أو بالحالة الشعريّة بمجرّد أن نخلع عليها اسما.
ومهما يكن فإنّ «الخطاب الواصف» عند نمر لا يجاري بنية الحلم التي هي بنية سرديّة لولبيّة بالأساس إلاّ من حيث الزّمان. فزمانه أقرب ما يكون إلى زمن مجرّد أو زمن تخيّلي، على الرّغم من أنّه مقيّد بزمن كتابة القصيدة.
ربّما صحّ ذلك في الأسطورة أو في الحلم، وهو كما يقول باشلار»شعر خالص»، أمّا في النصّ فالأمر مختلف جدّا، إذ لا يخلو التّمييز في الصورة، بين إخبار دلاليّ وإخبار جماليّ، من غموض مردّه إلى أنّ الرسالة الشعريّة تتكوّن من رسالتين متراكبتين: دلاليّة هي تجميع علامات «مشفّرة « يفترض في القارئ إمكان فكّها أو ترجمتها إلى النثر؛ وأخرى جماليّة هي مجموع التّحوّلات التي ينهض بها «مجموع عناصر تدرك في كلّيتها باعتبارها ليست تجميع مصادفة». ولكنّ هذه الرّسالة الجماليّة تتأدّى في الشّعر من حيث هي متوالية من التحوّلات، بحرّية كبيرة. ويصعب إدراكها خارج سنن الشعر وطرائقه، وقد لا يخفى أنّ إدراك علاقات طبيعيّة بين الحلميّ (نسبة إلى الحلم) والشعريّ هو غير إدراك علاقات فنّية، لأنّه إدراك يتحقّق خارج أيّ اعتبار جماليّ من جهة، ولأنّه يباشر الصورة الشعريّة، من حيث هي «بقايا أو رسوبات من أحلام أو من معتقدات أسطوريّة» من أخرى، أو يعتبرها مجرّد «أحجية» تفكّ من داخل الاستعارة ؛ والأحجية التي لا تحلّ ليست بأحجية. وكأنّ الصورة سؤال يستدعي جوابا «أسطوريّا»، أو أنّ الأسطوريّ هو الأصل، والشعر هو الفرع. ولا نخال الأمر يجري عند نمر هذا النحو، فالتداخل بينهما قائم بنية ولغة وصورة، ولذلك لا نجد مسوّغا للقول إنّ الشعر يطمح إلى بناء عالم خياليّ إزاء العالم الواقعيّ؛ ففي هذا إقرار بعلاقة تجاور وليس بعلاقة تداخل، بل إنّ الفصل بينهما عند نمر في جلّ شعره ممّا لا أستطيع أن أتمثّل به في هذا الحيّز المحدود؛ غير دقيق ولا هو بالسائغ حيث الرموز عنده تقوم على صلات داخليّة بين «الإشارة» والشيء «المشار إليه» استعارة أو مجازا.
على أنّه ليس من حقّنا أن ننساق إلى تأويلات نفسيّة، كلّما استعصت صورة علينا أو استغلقت. ومبعث الحرج ها هنا أنّ الاحتكام إلى أيّ تفسير من خارج النصّ، يمكن أن يفقد الخطاب تفرّده، ويحصر وظيفته في محاكاة النفسي أو الواقعي أو الأسطوريّ أو في إعادة إنتاجه، بل هو يجعل الصورة الشعريّة التي نحن بها، معلـّلة، شأنها شأن الدّلالة الحرفيّة التي هي في العمق دلالة معللة، بل هو يتعارض وغنى اللغة نفسها ويفقرها ويطمس شعريّتها وينزع عنها اعتباطيّتها.
ومهما يكن فإنّ «الخطاب الواصف» عند نمر لا يجاري بنية الحلم التي هي بنية سرديّة لولبيّة بالأساس إلاّ من حيث الزّمان. فزمانه أقرب ما يكون إلى زمن مجرّد أو زمن تخيّلي، على الرّغم من أنّه مقيّد بزمن كتابة القصيدة.
فجرٌ على عينينِ غارقتينِ في البلَّوْرِ
في أقصى دمائي
فجرٌ يجيءُ على جناحِ حمامةٍ بيضاءَ
من ضلعِ السماءِ
وبكلِّ أسبابِ البكاءِ اليومَ يُبكيني
ويزرعُ وردةً حمراءَ في أعلى بكائي
هذا الإيقاع المتدافع إنّما هو صورة اللغة وهي تتأدّى بطريقة فنيّة مخصوصة، وتحمل في فعل نشوئها، حيث تتجلـّى، لحظة بداءَتِها. وهذه اللحظة لا تتعلـّق بالكلام وإنّما بالكلم أو بـ»الخطاب» إذا أردنا، وهو يصنع جزءا جزءا ببُنى الأثر وهي تكون. والقاعدة هنا واضحة جليّة، فليس ثمّة من عنصر حرفا كان أو صوتا أو جرسا أو كلمة، لا ينضوي إلى فضاء الإيقاع الكـلـّي، أي فعل الشّكل بعينه ذاك الذي يتشكّـل به وفيه شكل ما. إنّما هي مكوّن من مكوّنات الصورة عنده، شأنها شأن الحوامل البلاغيّة الإيقاعيّة التي تلوي على القول من كلّ جهة من جهاته؛ كأن تجعل الاستعارة مثلا موسومة بغرابة غير معهودة أو هي لا تنضمّ إلى أعراف وتقاليد متعارفة.
وصورة الفجر في هذا النصّ محكومة بعلائق مشابهة ومجاورة في آن أي هي استعاريّة كنائيّة في آن. على أنّ هذا لا يسوق من أجل الظفر بالمعنى إلى افتراض «ظرفية» أو حالة من»حالات الأشياء» سابقة الوجود على الخطاب. والصورة عند شاعر مثل نمر متمكّن ليست رسالة لاحقة على رسالة سابقة»محذوفة.
والقول بهذا يثير من المشكلات أكثر ممّا يحلّ منها، ويكشف عن رؤية للغة لا يمكن إلاّ أن تقود إلى اختزال بنيتها في بنية العالم. وكأنّ وظيفتها الأساسيّة أن تشابه «الغفل» وما لا علامة فيه ولا سمة عليه أو ما هو «خارج القول»، وأن تحاكيه أو تعيد إنتاجه. وهذا من شأنه أن يجرّد اللغة من أيّ طابع مستقلّ، ويستفرغ الصورة المتميّزة عند نمر من عمقها.
يوتوبيا الفلسطيني نمر سعدي | منصف الوهايبي
قد يرى بعضنا في هذه الكتابة الاستعاريّة، باقي وشم من مذهب «البديع» أو الأرابيسك، وقد يرى فيه آخرون شبها بالقصيدة الباروكيّة، حيث يسمّى الشيء باسم شيء آخر، وتغدو الأشياء أشياء لغويّة. وليس بالمستغرب عند شاعر لا يتكلـّم إلاّ بالمجاز والاستعارة، أن تتراسل الأشياء والموضوعات على نحو غير مألوف، وأن يحفّها الإلغاز والغرابة في كلّ مسالكها، ولكن بدون أن يسوق ذلك إلى القول بأنّ تراسلها ثمرة مصادفة أو اعتباطيّة؛ حتـّى في النماذج الأشدّ غرابة، حيث التنافر المنطقيّ يتمثـّل في إضاءة تماثلات قائمة في نظام الشعر نفسه. والصورة عند نمر ترتبط بتمثيليّة اللّغة ومدى قدرتها على تمثّل جملة من الحالات كما في كتابه «يوتوبيا أنثى»:
رحيلُ أمِّي جعلني أخلطُ الشعرَ بالنثرِ
والمنطقيَّ باللا منطقيّْ
والحياةَ بالموتِ
والعصافيرَ الزرقاءَ بالرصاصِ
والبحرَ باليابسةِ
والماءَ بالنارِ
ودمائي بالزهرِ / وصمتي بصراخي الأبديّ
هذه الصورة وهي مثال لا غير، إجراء لغويّ لمراجع هي بمثابة» أشياء»، ورؤية نصيّة سياقيّة لعناصر لغويّة أي «كلمات». وهي من ثمّة، صنعة وخلق وإنشاء، ينهض لها خطاب واصف أو»بيان» يحتفي بفعل الكتابة وهي تتجلّى. ولا بدّ هنا من مراعاة بعدين: بعد مقصدي تمثّلي وبعد تكوّنيّ إيقاعيّ . والأوّل هو ما يجعل منها صورة على حين أنّ الثـّاني هو ما يجعل منها شكلا وإيقاعا متعالقين. أمّا من حيث الحال أو المعنى أو الدلالة، فهي مزق وصدع وجرح، وأمارة على كتابة لم تلتئم جروحها، أو على «شجّة متلاحمة « تشقّ جسم القصيدة، ولا تصدع بنيتها.
وقد يتكشّف النصّ عن منزعين يتحكّمان في انتحاء الذات إلى الكلام مرّة، وإلى الكلمة أخرى. وهو أمر ليس بالمستغرب في هذا الشعر الذي لم يقطع صلته بالقصيدة أو بالإيقاع الوزني، بل إنّ للعقل الواعي أثرا واضحا في خلقه، وهو النصّ الذي يعتمد، إلى حدّ كبير، على تخيّر لغته وتدبّرها وإحكام تنسيقها:
أتسلَّقُ أشجارَ الليلِ المرجانيَّةْ
وأسقطُ من أعلى نجمةِ قلبي
أتسلَّقُ هاويةً في أقصى حُبِّي
وأسقطُ ملفوفاً بدمي الأبيضِ كالثلجْ
من يرفعُ عن صدري صخرةَ أحلامي؟
من في شعراءِ الأرضِ جميعاً يشرحُ ما في النفسِ
من الهمِّ العاري
أو يصفُ اللوعةَ في قلبي الواري؟
من في الناسِ جميعاً يرثيني
أو يبكيني…؟
فليس بالمستبعد إذن أن يجد الشاعر ضالّته في تكثيف الأسماء والحوامل الصوتيّة الإيقاعيّة التي تتيح للكلمة أن تستعيد أجراسها وأصواتها التي طوت عليها الكتابة؛ وكأنّ الكلمة مكتوبة محاكاة جناسا للكلمة منطوقة. وهذه طريقة من بين طرائق شعريّة أخرى، تجريها الكتابة لـ»تشفيه» خطابها وجعله قابلا للإنشاد، وأداء تخاطب أبعد أثرا في المتلقّي المتقبّل.
وفي هذا المستوى يمكن القول إنّ الخطاب «ذاتانيّ» أساسه خبرة ذاتيّة باللغة، أو معرفة تصدر عن عارف منفعل بالمعروف انفعالا ذاتيّا. ومن ثمّة فقد تنمّ هذه السمات على صنعة وكتابة؛ ولكنّها قد تنمّ أيضا على قصور «المكتوب» أو عدم كفايته، فينزع صاحبها إلى استجلاب خصائص «الشّفهي» أو إلى محاكاتها. ومن ثمّ يتأدّى الخطاب في سجلاّت لغويّة مختلفة أو متباينة. وقد تكون من باب الاشتراك المعنويّ أو جعل المجاز عين الحقيقة مثلما يطمح إلى ذلك الشعر، أو من باب الأسمانيّة حيث نحيط بالظاهرة أو بالحالة الشعريّة بمجرّد أن نخلع عليها اسما.
ومهما يكن فإنّ «الخطاب الواصف» عند نمر لا يجاري بنية الحلم التي هي بنية سرديّة لولبيّة بالأساس إلاّ من حيث الزّمان. فزمانه أقرب ما يكون إلى زمن مجرّد أو زمن تخيّلي، على الرّغم من أنّه مقيّد بزمن كتابة القصيدة.
ربّما صحّ ذلك في الأسطورة أو في الحلم، وهو كما يقول باشلار»شعر خالص»، أمّا في النصّ فالأمر مختلف جدّا، إذ لا يخلو التّمييز في الصورة، بين إخبار دلاليّ وإخبار جماليّ، من غموض مردّه إلى أنّ الرسالة الشعريّة تتكوّن من رسالتين متراكبتين: دلاليّة هي تجميع علامات «مشفّرة « يفترض في القارئ إمكان فكّها أو ترجمتها إلى النثر؛ وأخرى جماليّة هي مجموع التّحوّلات التي ينهض بها «مجموع عناصر تدرك في كلّيتها باعتبارها ليست تجميع مصادفة». ولكنّ هذه الرّسالة الجماليّة تتأدّى في الشّعر من حيث هي متوالية من التحوّلات، بحرّية كبيرة. ويصعب إدراكها خارج سنن الشعر وطرائقه، وقد لا يخفى أنّ إدراك علاقات طبيعيّة بين الحلميّ (نسبة إلى الحلم) والشعريّ هو غير إدراك علاقات فنّية، لأنّه إدراك يتحقّق خارج أيّ اعتبار جماليّ من جهة، ولأنّه يباشر الصورة الشعريّة، من حيث هي «بقايا أو رسوبات من أحلام أو من معتقدات أسطوريّة» من أخرى، أو يعتبرها مجرّد «أحجية» تفكّ من داخل الاستعارة ؛ والأحجية التي لا تحلّ ليست بأحجية. وكأنّ الصورة سؤال يستدعي جوابا «أسطوريّا»، أو أنّ الأسطوريّ هو الأصل، والشعر هو الفرع. ولا نخال الأمر يجري عند نمر هذا النحو، فالتداخل بينهما قائم بنية ولغة وصورة، ولذلك لا نجد مسوّغا للقول إنّ الشعر يطمح إلى بناء عالم خياليّ إزاء العالم الواقعيّ؛ ففي هذا إقرار بعلاقة تجاور وليس بعلاقة تداخل، بل إنّ الفصل بينهما عند نمر في جلّ شعره ممّا لا أستطيع أن أتمثّل به في هذا الحيّز المحدود؛ غير دقيق ولا هو بالسائغ حيث الرموز عنده تقوم على صلات داخليّة بين «الإشارة» والشيء «المشار إليه» استعارة أو مجازا.
على أنّه ليس من حقّنا أن ننساق إلى تأويلات نفسيّة، كلّما استعصت صورة علينا أو استغلقت. ومبعث الحرج ها هنا أنّ الاحتكام إلى أيّ تفسير من خارج النصّ، يمكن أن يفقد الخطاب تفرّده، ويحصر وظيفته في محاكاة النفسي أو الواقعي أو الأسطوريّ أو في إعادة إنتاجه، بل هو يجعل الصورة الشعريّة التي نحن بها، معلـّلة، شأنها شأن الدّلالة الحرفيّة التي هي في العمق دلالة معللة، بل هو يتعارض وغنى اللغة نفسها ويفقرها ويطمس شعريّتها وينزع عنها اعتباطيّتها.
ومهما يكن فإنّ «الخطاب الواصف» عند نمر لا يجاري بنية الحلم التي هي بنية سرديّة لولبيّة بالأساس إلاّ من حيث الزّمان. فزمانه أقرب ما يكون إلى زمن مجرّد أو زمن تخيّلي، على الرّغم من أنّه مقيّد بزمن كتابة القصيدة.
فجرٌ على عينينِ غارقتينِ في البلَّوْرِ
في أقصى دمائي
فجرٌ يجيءُ على جناحِ حمامةٍ بيضاءَ
من ضلعِ السماءِ
وبكلِّ أسبابِ البكاءِ اليومَ يُبكيني
ويزرعُ وردةً حمراءَ في أعلى بكائي
هذا الإيقاع المتدافع إنّما هو صورة اللغة وهي تتأدّى بطريقة فنيّة مخصوصة، وتحمل في فعل نشوئها، حيث تتجلـّى، لحظة بداءَتِها. وهذه اللحظة لا تتعلـّق بالكلام وإنّما بالكلم أو بـ»الخطاب» إذا أردنا، وهو يصنع جزءا جزءا ببُنى الأثر وهي تكون. والقاعدة هنا واضحة جليّة، فليس ثمّة من عنصر حرفا كان أو صوتا أو جرسا أو كلمة، لا ينضوي إلى فضاء الإيقاع الكـلـّي، أي فعل الشّكل بعينه ذاك الذي يتشكّـل به وفيه شكل ما. إنّما هي مكوّن من مكوّنات الصورة عنده، شأنها شأن الحوامل البلاغيّة الإيقاعيّة التي تلوي على القول من كلّ جهة من جهاته؛ كأن تجعل الاستعارة مثلا موسومة بغرابة غير معهودة أو هي لا تنضمّ إلى أعراف وتقاليد متعارفة.
وصورة الفجر في هذا النصّ محكومة بعلائق مشابهة ومجاورة في آن أي هي استعاريّة كنائيّة في آن. على أنّ هذا لا يسوق من أجل الظفر بالمعنى إلى افتراض «ظرفية» أو حالة من»حالات الأشياء» سابقة الوجود على الخطاب. والصورة عند شاعر مثل نمر متمكّن ليست رسالة لاحقة على رسالة سابقة»محذوفة.
والقول بهذا يثير من المشكلات أكثر ممّا يحلّ منها، ويكشف عن رؤية للغة لا يمكن إلاّ أن تقود إلى اختزال بنيتها في بنية العالم. وكأنّ وظيفتها الأساسيّة أن تشابه «الغفل» وما لا علامة فيه ولا سمة عليه أو ما هو «خارج القول»، وأن تحاكيه أو تعيد إنتاجه. وهذا من شأنه أن يجرّد اللغة من أيّ طابع مستقلّ، ويستفرغ الصورة المتميّزة عند نمر من عمقها.
يوتوبيا الفلسطيني نمر سعدي | منصف الوهايبي